عدي الراضي
باحث في التاريخ والتراث.
([email protected])
الحوار المتمدن-العدد: 8465 - 2025 / 9 / 14 - 19:13
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
وجودنا في هذه الدنيا عابر وزائل، وهذه حقيقة تفرضها التجربة والوعي بالموت. لكن من قلب هذه الحقيقة القاسية تنبثق أسئلة عميقة: كيف نعيش حتى لا يكون رحيلنا عبثاً؟ وكيف نصنع لحياتنا بعداً يتجاوز لحظتنا البيولوجية؟ الفناء إذن ليس نهاية مطلقة، بل شرط وجودي يجعلنا نبحث عن الخلود، لا بمعناه الحرفي، ولكن عبر أثرٍ يبقى في الذاكرة الإنسانية. ولعل المخطوطات القديمة التي كتبها علماء أفذاذ مثال صريح على أن ما نتركه وراءنا يمكن أن يمنحنا حياةً جديدة تتجاوز أعمارنا.
المعنى الذي نصنعه لحياتنا يتجسد في مستويات عدة، أولها المعنى الإنساني المتمثل في العلاقات الاجتماعية التي نسجها المرء مع عائلته وأصدقائه ومجتمعه. هذه الروابط الإنسانية تخلق صدى يتردد بعد الرحيل وتمنح لصاحبها حضورا متجددا. وثانيها المعنى العملي والأخلاقي، حيث تكون للأفعال المخلصة والعادلة قيمة معترف بها تتجاوز الفرد وتصبح جزءاً من رصيد جماعي. أما المعنى الإبداعي والثقافي فيتجلى في ما ننتجه من فكر أو فن أو علم، إذ يمنح صاحبه مكانة ممتدة عبر القرون، تماما كما جعلت الكتب والمخطوطات أسماء أصحابها حاضرة بيننا رغم مرور الزمن. وهناك أيضا المعنى الرمزي والمؤسسي الذي يتجسد في المؤسسات والطقوس والذاكرة الجماعية التي تضمن الاستمرارية وتربط الأجيال ببعضها البعض.
وفي عصر الذكاء الاصطناعي، يبدو أن صناعة المعنى تأخذ بعداً جديداً. فالبعض ينظر إلى التقنية باعتبارها تهديداً لأنها قد تطمس الأصالة وتغرقنا في محتوى اصطناعي سريع الزوال، في حين يرى آخرون أنها فرصة لتوثيق المعرفة وتوسيع أثرها. المهم أن نستخدم هذه الأدوات لتعزيز أصالتنا وتكثيف حضورنا، لا لمحو تميزنا. فالذي جعل المخطوطات القديمة باقية حتى اليوم هو الإتقان والحرص على الحفظ والتوثيق داخل مؤسسات تهتم بالذاكرة، وهو ما يجب أن نستحضره في عصرنا الرقمي.
صناعة المعنى ليست مسألة نظرية فقط، بل هي ممارسة يومية تتطلب التزاماً بمشروع قيمي يتجاوز الذات، سواء كان علماً أو فناً أو عملاً اجتماعياً أو تربيةً للأبناء. وهي تتطلب التوثيق والنشر حتى يظل أثرنا متاحاً للأجيال القادمة، ومشاركة الآخرين فيما ننتجه بدل أن يُحبس في دائرة ضيقة. كما أن الانخراط في مؤسسات ثقافية أو اجتماعية يضمن استمرارية الأثر بعد غيابنا، بينما يساعد التكيّف مع أدوات العصر على نشر ما ننتجه في فضاءات أوسع. غير أن المعنى الحقيقي لا يقاس بكمّ ما نتركه، بل بجودته وعمقه وقيمته الأخلاقية، لأن ما يصمد هو ما يضيف إلى الحياة لا ما يثقلها.
هكذا يصبح السعي لترك أثر مسؤولية أخلاقية أكثر منه نزوعاً نرجسياً. فالذي يعمل بصدق، ويوثق بوعي، ويشارك بعطف، ويبني بمسؤولية، إنما يحوّل فناءه البيولوجي إلى حضور في الذاكرة الجماعية. وبذلك نصنع لوجودنا معنى لا يلغيه الموت، بل يعيد تشكيله في صورة استمرار مختلف، حيث يغيب الجسد وتبقى الأفعال والكلمات والإبداعات حاضرة بين الأجيال القادمة، تماماً كما جعلت الأقدام المتحجّرة للديناصورات هذا الكائن المنقرض حاضراً في ذاكرة الأجيال رغم اختفائه البيولوجي .
#عدي_الراضي (هاشتاغ)
[email protected]#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟