أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عدي الراضي - هل يميز الدجاج الذهب من الذرة: قراءة ثقافية في الحكمة الأمازيغية.














المزيد.....

هل يميز الدجاج الذهب من الذرة: قراءة ثقافية في الحكمة الأمازيغية.


عدي الراضي

الحوار المتمدن-العدد: 8433 - 2025 / 8 / 13 - 19:13
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تزخر الذاكرة الأمازيغية الشعبية بكنوز من الأمثال والحكم التي تحمل بين طياتها تجارب الإنسان المغربي عبر العصور، وتختزل حكاياته مع الطبيعة والناس والحياة في صور بلاغية مركزة، تفصح عن حكم متوارثة في بساطتها وعمقها. من هذه الكنوز نلتقط حكمة أمازيغية ؛ تردد في عدة مواقف حيث لايقدر الممنوح قيمة المادة التي يهبها المانح سواءا كانت مادية أو معنوية"ماخ إس إسن وفلوس ورغ يوف درا"، والتي تُترجم إلى "هل يعرف الدجاج أن الذهب خير من الذرة؟". هذه الجملة التي تبدو بسيطة تعكس واقعًا إنسانيًا أعمق بكثير، حيث تُستعمل للدلالة على الفجوة الكبيرة بين ما يُقال من كلام ثمين أو يُقدم من قيمة ثمينة، وبين قدرة من يستقبلها على تقديرها وفهمها.

في جوهر هذه الحكمة تكمن صورة تشبيهية تنم عن تصور عالمي حول الوعي والإدراك والاحتياج. فالذهب، في معناه المادي والمعنوي، يرمز إلى القيمة والثراء الحقيقيين، سواء كان هذا الثراء فكريًا أو معنويًا أو اقتصاديًا. بينما الذرة، كغذاء بسيط يشبع حاجة أساسية، تمثل ما هو ملموس ومباشر، والضروري للحياة اليومية. أما الدجاج فيمثل جهة غير مدركة للقيمة الحقيقية، تعيش على الرغبات الفطرية والاحتياجات الغريزية دون إدراك لما هو أعلى أو أسمى حيث أن بعض الخطابات الواعية بقيمة الذهب يمكنها زيادة كمية الذرة في خم الدجاج فمحدودية التفكير عندهم لاتستوعب هذا المعطى . ومن هنا تظهر المقارنة التي تشي بفجوة في مستويات الإدراك والوعي.

هذه الفجوة ليست مجرد ظاهرة ثقافية أو اجتماعية عابرة، بل هي انعكاس لواقع مركب يعاني منه كل مجتمع بشري في تباينه الطبقي والمعرفي. فالناس يختلفون في مداركهم، في قدراتهم على فهم المعاني العميقة، وفي استعدادهم لتقبل الجديد أو المختلف. وهنا تلعب هذه الحكمة دورًا إرشاديًا أو تحذيريًا، تشير إلى أن التحدث بكلام ذي قيمة أو تقديم ما هو ثمين لا يعني بالضرورة أن هذا الكلام أو هذا الشيء سيُفهم أو يُقدَّر من الجميع. بل قد يضيع في زحمة الجهل أو اللا مبالاة.

تتعمق الحكمة أيضًا في الصراع بين النخب الثقافية والفكرية وبين عامة الناس، وهو صراع تاريخي ومعاصر على حد سواء. فالنخبة، سواء كانوا علماء أو شعراء أو فنانين أو فلاسفة، غالبًا ما يجدون أنفسهم معزولين عن جمهورهم بسبب ما يتميزون به من عمق فكري أو حس جمالي أو رؤى جديدة. والمجتمع العادي، في بعض الأحيان، غير مستعد أو غير راغب في استقبال هذه الأفكار، وقد يرى فيها تهديدًا أو غموضًا غير مفهوم. لذلك تستخدم هذه الحكمة للتعبير عن ذلك الإحباط الذي يشعر به من يطرحون أفكارًا راقية أمام جمهور غير مستعد أو غير مؤهل لها. ومن خلال هذه الفجوة الخطيرة تتسرب الخطابات الشعبوية ؛ التي تستغل محدودية الفهم عند بعض الفئات الإجتماعية لتتخذها جسورا لتحقيق مصالحها الطبقية والتي لا ولن تفيد هذه الفئات في شيء.

من زاوية اقتصادية، تبرز الحكمة واقعًا قاسيًا أيضًا، وهو أن قيمة الأشياء تُقاس وفقًا للاحتياجات الحقيقية وليس بحسب قيمتها الذاتية أو الرمزية. فالذهب، مهما علا شأنه في الأسواق وبلغت قيمته، لا يرضع ولا يشبع جوعًا، على عكس الذرة. لذلك فإن من يسعى إلى إشباع حاجاته المباشرة لا يرى في الذهب سوى مادة لا جدوى لها. هذه النظرة تدعو إلى فهم أعمق للفرق بين القيمة الحقيقية والقيمة الفعلية للأشياء، والتي تتحدد حسب السياق والاحتياج.

على مستوى نفسي وفلسفي، تكشف الحكمة عن حقيقة مفادها أن الإدراك والتقدير مرتبطان بمستوى الوعي الداخلي والحالة الذهنية للفرد. فمن لا يملك أفقًا معرفيًا أو حسًا جماليًا معينًا، لن يميز بين ما هو ثمين وما هو عادي أو سطحي. وهذا يقود إلى تأملات في طبيعة المعرفة والوعي الإنساني، ومدى تأثير البيئة والتجارب على تشكيل الإدراك.

علاوة على ذلك، تحمل الحكمة رسالة قوية في فن التواصل والحديث، تدعو إلى الانتباه للمتلقي ومستوى فهمه وقدرته على استقبال الرسالة. فالكلام مهما كان قيمًا وعميقًا، إذا أُلقي في غير مكانه أو أمام من لا يستوعبه، فلن يكون له تأثير، وقد يضيع سدى. لذلك فإن المثقفين والمفكرين مطالبون بالحكمة والوعي في اختيار الزمان والمكان والكيفية المناسبة لإيصال أفكارهم.

في النهاية، تختزل حكمة "ماخ إس إسن وفلوس ورغ يوف درا" مأزقًا إنسانيًا عميقًا يتكرر في جميع الثقافات والمجتمعات، بين من يحملون الأفكار والقيم العميقة وبين من لا يملكون القدرة أو الرغبة في فهمها. إنها دعوة دائمة إلى تقدير الفروق بين الناس في الإدراك والثقافة، وإلى احترام حدود كلٍ منهم، وإلى استشعار ضرورة توجيه الخطاب بما يتناسب مع المتلقين. كما أنها تذكير بأن قيمة الكلام أو الشيء لا تعتمد فقط على جوهره، بل على القدرة على استقباله وفهمه.






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التنشيط الثقافي بين الترفيه الهادف وعبث التطفل.
- بين مسقط الرأس ومسقط القلب: مقاربة نفسية بعلاقة الإنسان بالم ...
- الشباب المغربي وسؤال القدوة : حين تخصب التفاهة وتجف القيم.
- أيت هرهور : البنية المجالية والتحولات السوسيو-تاريخية
- أضواء كاشفة على جوانب قاتمة من تاريخ قرية أفراسكو النائية.
- ثورة الملك والشعب قفزة نوعية في مسيرة الكفاح الوطني بالمغرب.
- الوضعية الاقتصادية والإجتماعية لقبائل الجنوب الشرقي بعد معرك ...
- قراءة في قصيدة -نسير في فوضى -للشاعرة فاطمة بورزى.
- معركة -تحيانت-محطة نوعية في تاريخ مقاومة أيت حديدو للإستعمار ...
- التقاط الأخبار ؛بين سطور الأسفار؛ لإنارة عتمة تاريخ مجاط.
- -ثِمْجّاط-مجال الرعي ومنتجع الرحال.
- جيل مخضرم.
- -زلاغ -و-ثغاط-أعلام أمازيغية تحرس مدينة فاس.
- شظايا جسد متفتت.
- جسور من الاوراق.
- أشاوس المقاومة المنسيون من رجال أيت حديدو الشجعان:عادين وعرا ...
- القنديل الوامض في عتمة تاريخ قرية أفراسكو الغامض.
- -أنرار- في تاريخ قصور منابع زيز بين الوظيفة الزراعية والسوسي ...
- أنوار ساطعة على أركان دامسة من تاريخ تاعرعارت المنسية.
- منتدي شباب اميلشيل من أجل التنمية المستدامة: قراءة في الشعار ...


المزيد.....




- رجال الإطفاء يسيطرون على حريق غابات مهول بعد اندلاعه قرب إحد ...
- حرائق تجتاح أوروبا: دمار واسع وعمليات إخلاء جماعي وسط موجة ح ...
- ابتكار طبي لافت: زرع أنسجة بشرية مطبوعة بتقنية ثلاثية الأبعا ...
- عون للارجاني: لبنان منفتح على إيران في حدود السيادة والاحترا ...
- آخر صانع طرابيش في لبنان..هل تندثر هذه الحرفة التقليدية؟
- 8 شهداء بيوم واحد في مجاعة غزة والاحتلال يستهدف لجان تأمين ا ...
- احتجاج نادر في الصين يكشف تقاعس الشرطة والسلطات المحلية وينذ ...
- نيويورك تايمز: روسيا مشتبه بها في اختراق نظام ملفات المحكمة ...
- كاتب روسي: ازدواجية معايير ترامب بالتعامل مع الدكتاتوريين ته ...
- هل تنهي العدالة الانتقالية في سوريا الإفلات من العقاب؟


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عدي الراضي - هل يميز الدجاج الذهب من الذرة: قراءة ثقافية في الحكمة الأمازيغية.