أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن واصل - مجرد حلم















المزيد.....

مجرد حلم


فاتن واصل

الحوار المتمدن-العدد: 8464 - 2025 / 9 / 13 - 22:11
المحور: الادب والفن
    


أبلة هانم مدرسة الدين وتشغل أيضا منصب الوكيلة في مدرستي، "حدائق القبة الابتدائية للبنات" في الستينات من القرن الماضي، تتكئ أبلة هانم على عصا خشبية غليظة يعلوها مقبض لونه أسود مصنوع من الأبنوس لتستطيع أن تمسك به العصا .. تلك العصا كانت تمثل تهديدا مستمرا مع أنها لم تستخدمها أبداً في الضرب، كانت ترتدي نظارة طبية تجعل عيونها كبيرة جدا وتبدو دائما محدقة ( تبريئة مخيفة)، لم أرى عيونها بدون نظارة طوال فترة وجودي في تلك المدرسة، كما لم أرها ولو لمرة واحدة تبتسم.. فقط رأيتها توبخ وتزجر بنت لعدم حفظها القرآن جيدا وتصفعها على وجهها، ليس بقوة ولكن بإهانة، تهتز ضفائرها المجدولة بعناية فتمد أبلة هانم يدها وتمسك بالضفيرة وتشدها عدة مرات حتى ينفك الشريط الأبيض وينسدل مع الضفيرة في خذلان على كتف البنت الصغيرة.. باختصار كانت بعبع المدرسة، ولأن أمي وخالتي كانتا مدرستان في المدرسة الاعدادية المجاورة كما أن أبلة هانم كانت جارة خالتي في السكن، لذا حظيت أنا ببعض - وأقول "بعض" - الرفق في المعاملة، وهو على عكس طبعها لأني لم أكن ممن يستطيعن الحفظ، وحتى يومنا هذا، فأنا ضعيفة جدا في الحفظ و بالأخص لو كان مطلوبا الالتزام بحرفية النص الذي أكون مضطرة لحفظه.. لذا كونها لم تصفعني أو تهينني عقابا لي على عدم الحفظ أو اللجلجة في التلاوة، فهذا يعتبر حظ أحسد عليه، لكنها ظلت بعبع المدرسة والوحش الذي يزورني في أسوأ كوابيس الطفولة، بينما كنت ممن يعشقون حصة الألعاب الرياضية وأسعى للمشاركة في حفلات المدرسة التي تشارك بها في عيد العلم وأعياد الطفولة ( تاريخ عيد الطفولة كان في الخامس عشر من يناير من كل عام ويتوافق هذا مع تاريخ ميلاد الرئيس جمال عبد الناصر إن لم تخني الذاكرة )، وبصفتها وكيلة للمدرسة كانت تراقب كل شئ ومنها طبعا الأنشطة الرياضية والفنية، فتقف في الشرفة تراقب سير حصة الرياضة أو بروفات الرقصات، وتحدق في بعينيها الكبيرتين وتجعلني أرى أنها تراقبني أو هكذا كنت أتخيل، وعندما تأتي أمي لحضور مجلس الآباء ، لا تنسى أبلة هانم أن تحكي لها عن خيبتي في حفظ القرآن واهتمامي بالأنشطة " الفاضية " مثل الرقص والموسيقى ولابد أن أسمع بأذني كم هي مستاءة من أدائي المدرسي، فأتوارى خلف أمي محتمية بها من نظرات وكلمات أبلة هانم القاسية.
في البيت وعندما أعود من المدرسة، أبدل ملابسي سريعا وأنهي الفروض المدرسية وتكون الساعة قد وصلت للخامسة مساءً ونكون قد تناولنا طعام الغداء الذي أحرص على تناوله عن آخره تمهيدا للسماح لي بالذهاب إلى بيت الجيران، طنط إلين وزوجها الدكتورأنيس عبد الملك طبيب الأمراض الجلدية الشهير في ذاك الوقت والذي كانت تسحرني رائحة عطره ولم أكن قد بلغت التاسعة من عمري، كان ولديهما كبيران في المرحلة الجامعية، ولم يكن لديهما أطفال في مثل عمري، لكن كان الهدف من هبوطي على بيتهم كالباراشوت يوميا هو لكي أشاهد التليفزيون هذا الساحر العجيب الذي أخذت به منذ يوم ظهوره، وقد كانوا من أوائل الناس الذين اشتروه. أظل أتوسل لأمي أن تسمح لي بمشاهدة التليفزيون عند الجيران والذي كان يبدأ إرساله في الخامسة تماما مساء كل يوم وينتهي في الحادية عشرة. كان يبدأ برامجه بالقرآن الكريم، ثم النشرة الإخبارية تتلوها مذيعة إسمها سميرة الكيلاني، والتي علمت لاحقا أنها كانت زميلة لأمي في كلية الآداب ومن نفس دفعة تخرجها ، يلي ذلك برنامج الأطفال " ماما سميحة "، وهو برنامج يمثل ويغني من خلاله أطفال أتذكر منهم صفاء أبو السعود وبوسي وآخرين..
- خلصتي الواجب ؟
- أيوة
- حضرتي الشنطة للمدرسة بكرة ؟
- أيوة حتى شوفيها
- أوكي .. بس ده ميعاد الراحة بتاعة الناس
- مش هاعمل صوت وهاقعد هادية
- طيب استني لما أستأذنها أنا .. أخلص بس اللي في إيدي
- يوووه لسة هاستنى ؟؟ برنامج ماما سميحة هايبتدي.
تتحرك أمي مستسلمة لإلحاحي، وترن الجرس وهي في منتهى الخجل، فهي تعرف أنهم يتناولون غداءهم وينام الدكتور أنيس ظهرا ، ثم يستيقظ ليذهب لعيادته.. لكن طنط إيلين كانت ترحب بي ، وتصر أنه لا داعي للإعتذار، وأنني لست مزعجة على الاطلاق، وانها تفتح لي التليفزيون وتتركني أشاهده وتنصرف هي لإعمالها المنزلية وأولادها طلاب الطب المتفوقين " جدا " والبيت المنتظم كدقات الساعة.
في العام 1965 اشترى أبي أخيرا التليفزيون، وذلك كان حدثا عظيما في حياتي، وكان الحافز الأساسي، كي أنهي فروضي المدرسية بلا تلكؤ، وأن أتناول غدائي عن آخره، ووو وكلها كانت شروط للسماح لي أن أشاهد التليفزيون، كنت أحفظ حوارات الأفلام عن ظهر قلب، ومنولوجات أحمد غانم وسيد الملاح، وفكاهات لبلبة.. كنت أحب الثنائي جمال وطروب، واعشق أفلام إسماعيل ياسين، وتترات البرامج والمسلسلات.. الساقية، الضحية، بنت الحتة.. كما كنت أعشق رقصات تحية كاريوكا وسامية جمال وفريدة فهمي.. أستخرج من دولاب أمي " جيبونة " كانت لديها مصنوعة من التل وأرتديها وأقف أمام المرآة لأرقص بها وأدور كي تنتفش.. أرقص وأرقص وتأتي امي فأجعلها تجلس لتشاهدني وأنا أقلد تحية كاريوكا بحركات ذراعيها وكفيها الناعمتين، ثم أرتدي الجيبونة وأقوم بتقليد الراقصات الأسبانيات وأفرك أصابعي كي تتخيل الكستانيت.. تبتسم أمي وتقول :
- بتحبي الرقص ؟
- أوي نفسي أطلع راقصة أسبانية !!
- تضحك أمي قائلة : راقصة ماشي أسبانية دي نعملها إزاي ؟؟!!
وفي إحدى الليالي حلمت حلما مرعبا، كنت فيه أرتدي بدلة رقص شرقي وأرقص فوق السرير في غرفتي، وإذا بالباب يفتح، وتدخل أبلة هانم بعصاتها ونظارتها وتصرخ في :
- طبعا .. عاوزة تبقي رقاصة، ومش عاوزة تحفظي القرآن.. أنا ها أكسر لك رجليكي.
وانهالت علي تبرحني ضربا موجعا بعصاتها الغليظ لدرجة أنني حين استيقظت مفزوعة كنت أئن وكانت هناك دموعا على خدي. حكيت لأمي الحلم .. فابتسمت وقالت لي :
- ما تخافيش هانم مش هتضربك أبدا، وهي عارفة أني أقدر أروح أشتكيها في المنطقة التعليمية .. الضرب ممنوع بالقانون.
طمأنتني أمي وكانت دائما ما تفعل، كانت كل حصوني وأماني وبالأخص أمام ثورات أبي الذي كان يلاحظ تراجع مستواي في مادة الحساب وأخذ على عاتقه أن يتولى مساعدتي، فكانت تأتي أمي مهرولة من المطبخ عندما تسمع صراخه ، وقذفه للكراس في وجهي.
- لو بتحفظي جدول الضرب زي ما بتحفظي الأفلام كده ما كنتيش تبقي بالخيابة دي.
ولم أحفظه أبدا وحتى يومنا هذا ورغم إلتحاقي فيما بعد بكلية الهندسة، ولكن بدلا من حفظ الجدول أقوم بعملية بديلة في رأسي للحصول على النتيجة.
في الإجازة الصيفية وفي صباح أحد الأيام، اصطحبتني أمي ومعي إبنة خالتي وصديقة طفولتي وعمري منى، والتي أصبحت طبيبة لها وزنها فيما بعد، إلى معهد الباليه بأكاديمية الفنون بالهرم، ولم تقل لنا طوال الطريق إلى أين نحن ذاهبون، وعندما وصلنا المعهد دخلت إلى إحدى الغرف الادارية ثم خرجت لتصطحبنا إلى القاعات الكبيرة ذات المرايات الضخمة والسواند الجانبية، في أحدها كان يجلس بعض الأجانب رجال ومعهم مساعدين مصريين على دكك طويلة وأطفال متراصين يرتدون فقط سراويلهم الداخلية، والآباء والأمهات يقفون خارج القاعة، خرجت إحدى المساعدات وطلبت من أمي التوجه لغرفة تغيير الملابس والعودة ثانية، لم أسأل أي سؤال، كادت قدمي تطيران ولا تلمسا الأرض، وعيناي زائغتان في حلم بعيد .. لا أعرف أن كانت ابنة خالتي تحمل نفس المشاعرأو لا، لكن كل ما اعرفه أن دقات قلبي كانت كالانفجارات داخل صدري، وقلبي الصغير يقفز إلى بعيد.. عدنا للقاعة وسمح لنا بالدخول والاصطفاف مع الباقين.. نادوني ولم ينتظروا دوري، رأيت ابتسامات لطيفة ودودة مرحبة على وجوه الممتحنين، فقد كنت نحيفة بصورة تلفت الأنظار وطويلة بالنسبة لمن هم في عمري، بعدها نطقت إحدى المساعدات وقالت بعد أن تداولت بضعة كلمات مع الخبراء الأجانب :
- كويس.. مقبولة، تعالي بكرة
إتجهت كالسهم نحو باب الخروج، وإذا بصوت المساعدة يناديني مرة أخرى، فعدت إليها، طلبت منى أن أقف بقدمي على قطعة قماش مبللة ملقاة على الأرضية الخشبية للقاعة، ثم طلبت مني أن أقف على الأرض الجافة... فانطبعت صورة قدمي بالكامل على الأرض:
- أوووووو .. لأ ما ينفعش، ده فلات فوت.. بلاش تيجي بكرة.
مشيت حتى باب القاعة وعلى أكتافي الصغيرة كل أحمال العالم الكبير.. كم كرهت تلك اللحظة.. تقوضت كل أحلامي التي سعت أمي لتحققها لي في ثوان معدودات.. طوال الطريق كانت أمي تحاول إقناعي بكل الطرق أن هذا في صالحي.. ولم أكن لأستطيع إكمال دراستي لأن هذا العيب في قدمي كان سيعوقني بكل تأكيد.. وبدأت تفتح لي أحلام أخرى لم تكن أحلامي، ووعود بملابس وحلويات لتمسح دموعي التي لم تتوقف طوال طريق العودة.. وكانت تراني أجلس مبهورة أشاهد عروض فرقة رضا، والفنانة فريدة فهمي فنانتي الأثيرة.. وتراني أقلدها بكل إتقان.. لكن هيهات.. مرت سنين لم أعد أحصيها، يرقد حلم الرقص بين ضلوعي، لم أنسه ولم ينساني حتى بعدما تغير مسار حياتي تماما وسلكت طريقا بعيد كل البعد عن الرقص .. درست الهندسة .. لم أصدر ضجيجا حتى أترك الحلم ينام .. ولما لا .. إنه مجرد حلم .



#فاتن_واصل (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفلاشة
- غرفة مغلقة
- عرائس هند
- طائر من شَوّكْ
- إنقاذ الغريق
- الأرملة السوّداء
- شارل في المطر
- حكاية ست إسمها مريم
- التُوْهة
- نصف غربة
- عجايب
- عبودة الوحش
- قمصان شفافة
- وضع متميز
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الأخير)
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الثالث عشر )
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الثاني عشر )
- والقلب يعشق سراً. ( الجزء الحادي عشر)
- والقلب يعشق سراً. ( الجزء العاشر )
- والقلب يعشق سراً . ( الجزء التاسع )


المزيد.....




- فنانون أتراك يدعمون حملة -جسر القلوب من أوسكودار إلى غزة-
- أمل مرقس: -في فلسطين الغناء لا يوقف الحروب، لكنه فعل صمود وم ...
- عُمرٌ مَجرورٌ بالحياةِ
- إشهار كتاب ( النزعة الصوفية والنزعة التأملية في شعر الأديب ا ...
- باراماونت تنتقد تعهد فنانين بمقاطعة شركات سينمائية إسرائيلية ...
- إنقاذ كنز أثري من نيران القصف الإسرائيلي على مدينة غزة
- يُرجح أنه هجوم إيراني.. عشرات الممثلين الإسرائيليين يقعون ضح ...
- غزة... حين تعلو نغمات الموسيقى على دوي الانفجارات والرصاص
- غزة: الموسيقى ملاذ الشباب الفلسطيني وسط أجواء الحرب والدمار ...
- سياسي من ديمقراطيي السويد يريد إيقاف مسرحية في مالمو – ”تساه ...


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن واصل - مجرد حلم