أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن واصل - إنقاذ الغريق















المزيد.....


إنقاذ الغريق


فاتن واصل

الحوار المتمدن-العدد: 5878 - 2018 / 5 / 20 - 03:05
المحور: الادب والفن
    


شمس حارقة ظهيرة اليوم الأول من شهر رمضان، وقف " طه " باستسلام في طابور طويل أمام متجر لبيع "الطرشي البلدي"، حاملا بإحدى يديه حقيبة بلاستيكية تحتوى شراب "العرقسوس" اشتراه لتوّه وباليد الأخرى جريدة ظلل بها رأسه الذي كاد أن يذوب من حرارة الجو.
عادة قديمة منذ الطفولة وكأن الافطار لن يكتمل دون صحن الطرشي. أصدرت زوجته تعليماتها في الصباح قبل ذهابه للعمل قائلة:
-ما تنساش تجيب لنا طرشيّ وانت راجع يا طه.. انت عارف الأكل ما ينفعش من غيره وخليه يحط مية كتير.
تماما كما كانت تفعل أمه وهو صغير وتُصرّعلى إرساله إلى بائع الطرشيّ بعد عوّدته من المدرسة، فيخرج متذمرا يحمل " سلطانيّة " كبيرة تمثل قطعة هامة وعزيزة عليها من طاقمها الصيني، وتظل توّصيه فيما بين خروجه من باب الشقة إلى أن يختفي تماما عن ناظريها:
-خلّي بالك من السلطانيّة يا طه.. أوعى تكسرها يا طه..... خليه يحط مية كتير.

طابور الرجال طويل منتظم ومعظم الرجال يقفون فيه متجهمين لا يتحدثون إلا قليلا، بجواره طابور أطول للنساء وقفن فيه بدون نظام، وإندمجن في أحاديث متفرقة رغم أنهن تعرفن للتوّ. تلك التي يمتطي كتفها طفلٌ مدليَّا ساقيه، مستندا بجسده الصغير على رأسها، يبكي بين الفينة والأخرى فتعدِّل من وضعه.. وأخرى تحمل إناءً مصنوعا من الألومنيوم يقبض على طرف جلبابها يإحدى يديه الصغيرتين طفلٌ لم يتجاوز الثلاث سنوات وبيده الأخرى يحتضن ساقها .. تحمل رضيعا فوق ذراعها و تضع على رأسها لوحاً مصنوعاً من جريد النخيل، وقد رُصَّت فوقه أرغفة خبز ساخنة، وكلما استدارت للحديث إلى جارتها التي تقف خلفها في الطابور، يبتعد جميع من حولها برؤوسهم بحركة واحدة للخلف أو للجنب كي يتفادوا اللوح المحمول على رأسها ويهمهمون:
-حاسبي يا ست.. هتعورينا.
فتبادرهم بقولها:
-لا مؤاخذة ياخويا، أصل الواد على إيدي لابخني .. في محاولة خبيثة منها للتأثير على من يقفن أمامها بالتخلي لها عن دوّرهِنّ في الطابور.
مشاحنات صغيرة هنا وهناك بين المنتظرين في الطابور وآخرين يحاولون تجاوز دورهم واستراق مكان أقرب للبائع.. فتشتعل المشادات بين الواقفين، ينفرط الطابور على أثرها ويتحول لتكتل بشري، بعضهم يرفع إناءً يلوح به وآخرون يشيرون بالنقود .. مشاجرات اعتاد عليها الجميع في حياتهم اليومية الشاقة بينما ينتقلون من طابور إلى طابور.

أخيرا وصل طه بيته، ألقى بجسده فوق مقعد بجوار الباب منهكا يتصبب عرقا تتلاحق أنفاسه بعد معاناة تحت وطأة الشمس القاسية، وبعد صعوده سلالم ستة طوابق حيث تقع شقته التي حصل عليها بالكاد عن طريق جمعية إسكان في عمله وبعد سنوات عديدة من دفع الأقساط.
خرجت "صباح" زوجته من المطبخ تستطلع بهو المدخل بعد سماعها صوت الباب يُغلـَق، شعرها الأكرت كان نافرا مهوشا تغطيه بالحجاب طوال اليوم أثناء تواجدها بالعمل وتخلعه عندما تعود إلى المنزل دون أن تصففه فيصبح على هذه الحالة لبقية النهار.
سخر منها " طه مرارا وتكرارا دون فائدة، كأن يقول لها :
- إيه الزعافة اللى على دماغك دي!! أو هو الفولت كان عالي ؟

كانت ترتدي قميصا للنوم من نسيج قطني خفيف مزركش برسومات صغيرة باهتة وله حمالات رفيعة، يكشف معالم جسدها المكتنز ذراعاها السمينتان كما لو كانا ذراعا ملاكم دخل لتوه حلبة المصارعة، يرتفع قميصها من الخلف بسبب مؤخرتها البارزة كاشفا عن ساقين ممتلئتين. لم تُبدِ أي ترحاب لرؤية " طه ".. بل على العكس قطـَّبت جبينها كأنها مقدمة على معركة حربية، إعتصرت بيديها المبتلتين قميصها لتجففهما، ثم اختطفت من يده كيسي العرقسوس والطرشي واستدارت عائدة للمطبخ، فشيَّعها بنظره إلى أن إختفت مركّزا بصره على مؤخرتِها السمينة وهي تصيح عليه حتى يسمعها من بعيد
-إيه اللى أخرك كده؟ ما جبتش فاكهة؟
تمتم في سره:
-استغفر الله العظيم
ثم صاح قائلا من وسط البهو:
-إنتي ما قولتيش إنك عاوزة فاكهة وبعدين هو إنتي مش عاملة خشاف؟ هو في حد بياكل فاكهة في رمضان!! عالعيد بقى وعليكي خير.
أخرج منديلا ورقيا من جيب قميصه جفف به العرق المتساقط من جبهته ورقبته بغزارة، أسقط ياقة قميصه إلى الخلف حتى يسمح لهواء المروحة القريبة أن يمر مرطباً جسده، انحنى على طفله الصغير الذي كان يحبوّ فوق الأرض، التقطه بحركة خطافية ثم احتضنه بحنان وقبـَّله ثم أعاده للأرض مرة أخرى.
يجلس طفل وطفلة عمرهما متقارب يبدو أن الولد هو الأكبر سنا، يجلسان على أريكة يشاهدان برنامجاً للأطفال في التليفزيون.
زعقت صباح من المطبخ قائلة:
-إعمل حسابك يا طه تقعد بالعيال بعد الفطار، أنا متواعدة مع مدام " تهاني " جارتنا إننا نروح نصلـّي التراويح في الجامع طول شهر رمضان..!
قلب طه شفتيّه وطوح يدَه في الهواء ثم رد مستنكرا:
" وده من إمتى بقى الستات تروح تصلي في الجوامع والرجالة قاعدين في البيت بالعيال؟؟؟ "
ردت صباح بعصبية وبنبرة عالية مما ينبئ ببداية انفجار:
-يعني أعمل إيه ؟ أجرجر تلت عيال في أيدي عشان ترتاح؟ وبعدين ما الستات كلها بتروح إشمعنى انا ؟
تراجع " طه " وخفض صوته مؤثرا السلامة خاصة بعد أن لاحظ خوف الطفلين الجالسين أمامه وترقبهما لإنفجار الموقف بين أبويهما فتمتم متبرما في سره :
-آخر زمن

بعد الافطار جلس طه أمام شاشة التليفزيون يدخن ويشرب كوبا من الشاي صنعته له صباح التي تتحرك بآلية بين مائدة الطعام والمطبخ كمن تريد الانتهاء من مهمة خطيرة. ذهنها منشغل ولا تتحدث إليه، تقوم فقط بإزاحة الأطفال من طريقها وتوجيههم بنظرات دون كلام وأخيراً أمرتهم بالذهاب إلى حيث يجلس أبوهم، ترفع الطفل الصغير ذو الثمانية أشهر الذي يزحف بجوار ساقيها من فوق الأرض وتضعه فوق حجر أبيه المنهمك في مشاهدة التليفزيون، وقد جلس بجواره الطفلان، يلقي طه نظرة سريعة على الصغير الذي أضيف إلى مهامه، تململ في مقعده متأففا، تملص الصغير من بين يديه فأفلته إلى الأرض، أمسك بخف أبيه المطاطي ووضعه في فمه فانحنى طه وخطفه من بين يديه بحركة سريعة أزعجت الطفل فبدأ بالبكاء.
تلت صباح قائمة المهام التي على طه القيام بها أثناء غيابها:
-بعد نص ساعة 220 مللي مية مغلية وسبع معالق لبن ياخدهم وينام.. وما تنساش تبرده قبل ما تسقيهوله.
-الولاد اللي أنت راصصهم جنبك دول وبيتفرجوا عالتليفزيون لازم يناموا بدري عشان بيدوخوني الصبح في الصحيان
ثم أكملت:
-لما ييجي المكوجي إفتح له ما تعملش نفسك مش سامع وإلا مش هتلاقي قميص تلبسه بكرة الصبح.. سلام.
لم تنتظر صباح رداً وارتدت عباءة جعلتها تبدو كخيمة سوداء ضخمة، وأحكمت غطاء الرأس حول وجهها المستدير، ثم خرجت وصفقت باب الشقة خلفها.
اضطر طه إلى حمل الطفل ذي الثمانية أشهر الذي انفجر بالبكاء بمجرد خروج أمه، وربت على ظهره بحنان بالغ فاستسلم الطفل وهدأ.
ظل حاملا الصغير يضاحكه ويدلله، يراقب إبنته وابنه ويوجه لهما الارشادات بطريقة كوميدية فيضحكان، يتركان الكراسات ويتقافزان حوله يقبِّلانه ثم يعودان مرة أخرى للمذاكرة.
بعد برهة من الوقت سمعوا طرقات على الباب كإيقاع طبل وبنغمة معينة أدركوها جميعا، فقفز الصغار مهللين:
" " عمِّتو.. عمِّتو.
جروا متجهين نحو الباب وطه خلفهم حاملا الصغير، طلّ وجهها البشوش فانفرجت أساريره، ثم صاح مبتهجا:
" أمل حياتي..!! وحشتيني موت، يخرب عقلك "
ألقت " أمل " شقيقة طه حقيبة منتفخة كانت بيدها إلى جوار الباب واختطفت الطفل الصغير من فوق ذراع أبيه تقبلـِّه وترفعه في الهواء، ثم احتضنت طه وقبلته، وهللت مع الطفلين بالضحك والصياح والقبلات والأحضان وقالت:
" وحشتوني أوي.. جبت لكم شوية لعب وشيكولاتات وحاجات كتيييير أوي... تجنن، أما أنتي بقى يا عروستي الحلوة ( موجهة كلماتها لإبنة أخيها ) جبت لك سالوبيت لما تلبسيه المدرسة كلها هتقف على رجل.. عشان الحفلات."
تهلل وجه الطفلة الصغيرة واحتضنت عمتها وشكرتها، ثم وبحنان بالغ التفتت " أمل " مرة أخرى للصغير بين يديها تهدهده وقالت:
-وانت كمان.. هو أنت شوية..!! ده أنت الغلطة هههههههههه . وداعبت أنفه الدقيق وأكملت :
-أحلى غلطة والله
نظرت أمل لأخيها ثم غمزت بعينها وقالت:
-مافيش غلطة في السكة!!
قهقه كلاهما، ثم قال طه بلهفة :
-المرة دي طولتي أوي، حمد الله عالسلامة.

-الله يسلمك أمَّال فين صباح؟؟
رد بيأس:
-في الجامع
سألته أمل مندهشة:
-بتعمل إيه؟ عليها ندر؟
فرد باستسلام:
-بتصلي التراويح
ضحكت أمل ضحكة عالية وصاحت ساخرة:
-تراويح ؟ من إمتى؟ دي مراتك بتنسى الفاتحة، وطول عمرها مالهاش في الحاجات دي، أنا مربيَّاها على إيدي.. آل تراويح آل !!
صمت طه وأراد أن يغير الموضوع فعارضته أمل وقالت:
-إيه الحكاية؟ مالك؟ هو انتو متخانقين ؟
فرد طه :
-المشكلة أن ده بقى العادي، إحنا زعلانين ومش زعلانين.. أظن إن الزعل أصبح هو الوضع الطبيعي بينا، وبدون أسباب واضحة، تحولت عيشتنا الصعبة لزعل مستمر.. بنصوِّبه تجاه بعض زي المسدس، وكل واحد فينا بيهدد التاني، بدون أن يُطلق رصاصة الزعل على اللى قدامه، أقصد بدون تفجير لأي مواضيع.. أو عتاب، لكنه في النهاية مش عارف بيعمل كده ليه.!!
نظرت أمل لطه بتعاطف وقالت:
-أنا بأه عارفة ليه.. كل واحد فيكم متأكد أن الطرف التاني مش هو السبب الحقيقي في زعله أو تعبه .. لكن مش لاقي غيره يفرغ فيه غضبه.. تعرف يا طه، أنا بحس أحيانا أن مشكلتكم إنكم مش متحققين في حياتكم، وطاقتكم ضايعة في حاجات بتكرهوها، انت مش بتحب شغلك، وهو مجرد أكل عيش بالنسبة لك.. ضرورة يعني .
ثم أكملت:
-صباح مراتك كانت زميلتي في المدرسة والجامعة وانا عارفاها كويس، انسانة حيوية نشيطة وانت أكيد عارفها أكتر مني، لكن للأسف طاقتها مُهْدَرة في عمل محاسبي روتيني سخيف مافيهوش أي ابتكار فتحولت لإنسانة تقليدية ومن السهل إنها تتبني أفكار جاهزة .. طبعا ده بالاضافة إلى أن قلة الفلوس مخليَّاها دايرة في ساقية مش قادرة حتى تستعين بحد يساعدها.. باختصار عليها أعباء كتير إلى جانب سوء أحوال البلد ككل والظروف الاقتصادية اللى زي الزفت .
لاحظت أمل ان الحوار سيغلب عليه الحزن فأرادت أن تضفي عليه البهجة، فنهضت وأتت بالحقيبة وفتحتها وأخرجت منها لعب ملونة وهدايا أحضرتها للأطفال ، ثم أخرجت منها بنطلون جينز بمقياس كبير وقالت:
-ده لصباح، أمريكا مافيهاش مشكلة بالنسبة للمقاسات، دي بلد السُمان، وكلهم كلابيظو زي مراتك وماشيين بالشورتات في الشارع ولا هاممهم يا اخويا .
زفرت زفرة عميقة وأردفت:
-الستات في كل حتة ملكات، يمشوا يدِّبُّوا على الأرض إلا عندنا تلاقيهم مدهوِّلين وماشيين يتكعبلوا في هدومهم ولابسين مليون حاجة فوق بعض، ورغم كل ده المجتمع ما بيرحمهمش بيبص لهم بصَّة متدنية جدا وكانهم في حالة ذنب مستمر وعقوبة ممتدة .
ضحك طه وقال :
-طب على الله بقى بعد الفلسفة دي كلها تقدري تقنعيها إنها تلبسه، لها فترة متصاحبة عالست تهاني اللى في الشقة اللى جنبنا، وغالبا عملت لها غسيل مخ، أصل جيراننا دول عاشوا في السعودية ييجي خمستاشر سنة، سافروا وعيالهم في ابتدائي ورجعوا وولادهم خلــَّصوا جامعة، وكلهم بدقون وجلاليب باكستاني وبنطلونات قصيرة ما شاء الله، جوزها كان زميلي في الشغل بس طلع عالمعاش، بكرة تلاقيها لبست نقاب زي الست تهاني.
ظهر الفزع على وجه أمل وصاحت :
-يا نهار اسود.. نقاب!! أهو ده اللى ناقص.. لا لا لا مش للدرجة دي!! وانت ساكت ليه يا طه؟ إنت مش هتبطل طبع السكات بتاعك ده.. اتكلم معاها يا طه.. ما تبقاش سلبي.. مش دي طبيعة صباح اللى أعرفها، صباح ضحوكة وبنت نكتة وماكانتش بتبطل تريقة، مش فاكر كانت بتعمل إيه في حفلة عيد ميلادي كل سنة !! دي كانت بتقلب الدنيا.. ده معناه ان اللى هي فيه ده إكتئاب رسمي .
رد طه وقد بدا عليه التأثر:
-حاولت، مافيش فايدة .
فتحمست أمل وبادرته:
- طب إيه رأيك عندي اقتراح.. أنا هآجي أقعد مع الولاد لمدة خمس أيام تسافر فيها انت وهي وتعملوا شهر عسل من جديد يا عمّ، تجددوا فيه الأيام الحلوة.. إيه رأيك ؟
نظر لها طه ووجهه جاد :
- حبيبتي يا أمل ده تعب عليكي وبعدين مين قال إنها هترضى، ده غير المصاريف اللى انا مش حملها الأيام دي، وعموما أهي عندك لما ترجع اقنعيها.
ردت أمل ضاحكة:
- في عرض مغري أكتر من كده ياناس !! هجيب لكم كمان تذاكر مخفضة من الشركة اللى باشتغل فيها.. أظن مافيش أحلى من كده!!.
عادت صباح من الجامع رحبت بأمل بحماس صادق، فاتحتها أمل بالاقتراح، وبعد تردد طويل وجدال وأخذ ورد، وافقت صباح على مضض وهي تنظر لأطفالها في إشفاق وكانها تستلب سعادتها منهم.
قالت لها أمل باندهاش بعد أن لاحظت نظرات الحزن في عينيها:
- مالك بتبصي لهم كده ليه؟ انتي صعبان عليكي ترتاحي شوية !!.. جايلك عرض على طبق من فضة أهو.. استغلي الفرصة.. عالعيد تكوني محضرة شنطكم ومع السلامة، وانا هآجي هنا أقعد بالعيال، ومالكيش دعوة بحاجة أبدا .. اتفقنا.. باي قبل ما أغيّر رأيي.
ثم ضحكت وهي تغمز بعينها لصباح وتقول:
- وماتنسيش تاخدي البنطلون الجينز معاكي.. لزوم الاغراءات ههههههههه.

في اليوم المحدد للسفر، وقفت أمل في الشرفة تحمل الطفل الصغير ويحيطها من الجانبين الطفلان يلوحون جميعا لطه وصباح التي كانت تتطلع لهم وتجفف دموعها كما لو كانت تودعهم للمرة الأخيرة.


صباح كانت زميلة أمل بالمدرسة الثانوية وصديقتها المقرّبة وكاتمة أسرارها، كما كانت تسكن بنفس الشارع وعلى بعد بنايتين من بيت أمل وطه.
حين عرضت أمل على طه الزواج بصديقتها، لم يرفض رغم أنه لم يشعر تجاهها بأي عاطفة ولكن الأمر بالنسبة له لم يتعد فكرة الزواج التقليدي، فقبل إقتراح أخته وفعلا ذهب وتقدم لأسرة صباح دون أن يحاول حتى اقتناص أي فرصة للتعرف بها عن قرب أثناء زياراتها المتكررة لأمل.
لم تكن صباح فتاة أحلامه.. كان يراها فتاة عادية باهتة ولا يوجد ما يميزها.. ولم ينجذب لها يوما.. تقليدية تحولت مع الأيام إلى زوجة ضجرة وأم عصبية مجهدة.. حتى العلاقة الحميمة بينهما تحولت بعد شهر من الزواج إلى عبء على كليهما.

آخر مرة سافرت فيها صباح كانت منذ عشر سنوات لتقضاء شهر العسل لمدة أسبوع بأحد الفنادق بالاسكندرية، كانت المرة الأولى التي رأت فيها البحر، فهي من عائلة ذات أصول ريفية وفي إجازات الصيف كان والدها يصحبهم إلى إحدى قرى المنصورة ليزوروا جدّها ويقيموا بالبيت الكبير حيث استقر بعض أعمامها وتزوجوا وانجبوا أولادهم. كانت صباح تقضي نهارها بصحبة أمها مع نساء العائلة يتحدثن في أمور الطبخ وتربية الأبناء وطلاق فلان وزواج علاّن وأصبحت تلك الموضوعات هي كل ما يستهويها.
أسند طه رأسه إلى ظهر المقعد بالطائرة، واستسلم لأحلام يقظته، يجري على الشاطئ مع فتاة ترتدي لباس سباحة أحمر اللون من قطعتين.. وقبعة مكسيكي من القش، ترفعها من فوق رأسها وتقفز فتتطاير خصلات شعرها الأسود.. تقذف بالقبعة في الهواء فيتتبعها طه ببصره وهي تدور في الهواء وترتفع لأعلى، فيقفزان معا كي يلتقطانها .. يلتحم جسداهما ويدوران في الهواء ثم يسقطان على الرمال .. يحتضنها ويذوبا معا في قبلة طويلة .. يفيق على صباح تلكزه في ذراعه وتدعوه لشرب العصير الذي أتت به المضيفة.
تناول العصير وعلى وجهه إبتسامة وآثار حلمه الرومانتيكي.
في الفندق أنهى طه إجراءات الدخول وعندما وصلا غرفتهما بدأت صباح تفرغ الحقائب، فتح طه الشرفة التي تطل على البحر مباشرة وتنفس بعمق مغمضا عينيه ثم ناداها لتأتي وتشبع عينيها بجمال المشهد ولكنها لم ترد واستمرت فيما تقوم به.
جلس على مقعد مريح وظل يتأملها.. وقال لها مازحا:
- أوعي تكوني نسيتي المايوهات
فردت ببرود:
- أسكت والنبي يا طه لحسن أنا مضايقة أوي عشان جيت من غير العيال.
لوي شفتيه ثم قال:
- ياستــّي أمل قاعدة معاهم وهتراعيهم زي أمهم تمام، دي عمّتهم.
لم تلتفت لكلامه وكأنه غير موجود . أخرجت سخانا لصنع القهوة ودورق بلاستيك للمياه، وترمُس للشاي، وعلبة زجاجية بها سكر وأخرى كرتونية بها أكياس شاي .. ثم لفافة بها مجموعة من الأكواب.
ظل طه ينظر لها باندهاش غير مصدّق .. ثم طوّح يده في الهواء بضجر ونهض متجها إلى الشرفة فاستوقفته قائلة:
- طه.. هو الغدا إمتى ؟
إلتفت لها بقرف وقال:
- ماعرفش.. اسأليهم في الريسبشن.
ثم ألقى نظرة حزينة على جسدها البدين وشعرها المهوش الذي انتفش بمجرد ان خلعت الحجاب فور دخولهما الغرفة.. واستدار متجها إلى الشرفة.
راح يتمتم بينه وبين نفسه:
- مين الست دي ؟
- أنا عايش معاها ليه ؟ آخر حاجة أنا عاوزها هي أني أعيش معاها.
- كان لازم آجي الرحلة دي لوحدي.. منك لله يا أمل.. آل شهر عسل آل.
وقع نظره على غادة هيفاء تخلع منشفة الاستحمام ترتدي مايوه من قطعتين وتقوم بدهان جسدها بنعومة بالزيوت الواقية من الشمس .. ناولت الزجاجة لصديقها الذي قام بدهان ظهرها برقة وهي ترفع شعرها الذهبي لأعلى كاشفة عن عنق طويل.. داعبها الشاب ضاحكا ثم قبّل كتفها وهما يتضاحكان. خلعت القطعة العلوية من المايوه وتمددت بجسدها الفارع على بطنها فوق شيزلونج تستمتع بالشمس.. حدّق طه في جسد الفتاة .. ثم تمتم :
- قمر.
دار ببصره هنا وهناك وحول حمام السباحة وعلى امتداد الشاطئ، فكانت هذه الأجساد الحرة والشعور الذهبية تنتشر كنقاط تنشر النور من حولها في مقابل ظلام سائد بسبب ظواهر مثل الفانلات المبتلة الكاشفة عن صدور ضخمة مهدلة وحلمات بارزة وبنطلونات ملتصقة بأجساد صاحباتها اللاتي ارتدت بعضهن أغطية رأس تجعلهن يبدين كبطاريق خرجت لتوّها من المياه.
دخل الغرفة فوجد صباح وقد تكومت كجبل ضخم فوق الفراش، يَصْدُر مع انفاسها شخيراً مدوّياً.. فناداها :
- صباح.. صباح .. إنتي هتنامي ؟ قومي ننزل عالبحر.
ردت وهي نصف نائمة:
- سيبني أنام شوية يا طه.. روح انت.. لما ييجي معاد الغدا صحيني.
وقف حائرا في وسط الغرفة ينظر إليها بغيظ مكتوم، فكر قليلا ثم ارتدي الشورت وتأمل شكله في المرآة .. كرش يصعب إخفاءه .. وشعيرات بيضاء تسللت دون إذن منه .. همّ وغمّ يغمرا عينيه، ارتدى نظارته الشمسية ووضع قبعة على رأسه مثل تلك الخاصة بالكشافة ثم ذهب.

جلس بالقرب من حمام السباحة وطلب فنجانا من القهوة، فكر أنه لابد أن يصارح صباح بأنها لم تكن أبداً المرأة التي حَلـُمَ بأن يقضي معها بقية عمره.. لا قلبا ولا قالبا. تحدث لنفسه:
- شعرها قصير وأكرت وأنا احب الشعر الطويل المسترسل الناعم، ثم أنها بدينة وأنا أحب النحيفات.. كذلك صوتها حاد ومرتفع وانا أحب المرأة الرقيقة التي تتحدث همساً. كما انها دائمة العبوس ومشغولة بأعمال البيت وآخر وصفات الطبخ ولا تقرأ حتى جريدة فهي عدو للقراءة .. لا أنسى يوم عدت من عملى ووجدتها قد أفرغت مكتبتي في أجولة وباعتها لتاجر الروبابيكيا متحججة بأنها تحتل مساحة كبيرو ولديها ما هو أوّلى بالتخزين .. أي منطق هذا ؟ وددت لو قتلتها يومئذ .

انبعثت موسيقى الصلصا الصاخبة آتية من ناحية بار الشاطئ، فانتفض طه على صيحات الشباب والشابات الأجانب وهم يندفعون بأجسادهم العارية يرتدون ألبسة البحر، ثم بدأوا يرقصون بمرح تهتز أجسادهم بعنف يتقافزون ويدورون داخل حلبة رقص مكشوفة تحت الشمس. تنهد طه بحسرة وعاد لوضعه يحتسي قهوته بوقار اكتست به ملامحه الطفولية من كثرة الهموم وليس بسبب هِرَمِهِ أو كبر سنه.
فجأة اندفعت نحوه فتاة عشرينية ذات شعر ذهبي ناعم كخيوط الحرير وأمسكت برسغه تدعوه بانجليزية متكسرة :
- كوم .. كوم .. ليتس دانس.

كانت إحدى فتيات الفندق الروسيات المسؤولات عن الترفيه والمكلفات بألا يتركن رواد الفندق لحظة بدون مرح او ترفيه أو تسلية. قاومها طه بخجل قائلا:
" ويت ويت بليز، أي كودنت دانس، أيام أولد "
ضحكت الفتاة واستمرت ترقص وتتراجع للخلف متجهة لحلبة الرقص وهي تشده من رسغه. استسلم طه وذهب معها وهو يتحرك بجسده حركة مثيرة للضحك كمن يلاطف طفل.. ظل يرقص وازدادت حركته ثم اندمج تماما مع مجموعة الشباب الذين كانوا يبتسمون له بود وتشجيع.
وفجأة قرروا وبشكل جماعي النزول لحمام السباحة فاندفعوا مهللين ووجد نفسه يجري بينهم بمرح وهو يرتدي الشورت والتيشيرت والحذاء المطاطي والكاب والنظارة، دفعه أحدهم في الماء ثم قفز وانطلق .. لم يجد الأرض تحته وكان عليه أن يسبح لكنه لا يعرف أي شيء عن السباحة.. اعتراه خوفٌ شديد ووجد نفسه يغوص ويغوص ويبتلع المياه ويسعل ويحاول بكل ما أوتي من قوة التلويح والصراخ كلما طفى جسده لأعلى فكان صوته يخرج محشرجا بسبب الماء الذي يملأ حلقه :
-إلحقوووونيييييي .. باغرااااااااااق
قفز أحد السائحين بسرعة البرق وسط صراخ الناس ثم سحبه من رقبته وأسفل إبطه وأوصله قرب الحافة فجذبه الشباب وأرقدوه على الأرض وهو في حالة إختناق، ثم أفاق على صوت إمراة تنتحب:
-حبيبي يا طه .. يابو عيالي .. هاعمل ايه من بعدك يا حبيييييييييبي
فتح عينيه فرآها أمامه .. صباح تبكي بكاءً مراً .. كانت المرة الأولى التي يسمعها تقول حبيبي، حين تأكدت أنه قد أفاق ارتمت عليه منهارة تتلاحق أنفاسها قائلة :
-الحمد لله .. الراجل ده لحقك قبل ما تموت .. قوله سانكيو، قوله سانكيو . ثم أكملت باكية كنت هاعمل ايه من غيرك يا طه ؟ أروح فين بالتلت عيال ؟ .
ليلتها وقف طه يتأمل وجه صباح الطيب مبتسما وهي مستغرقة في نوم عميق فاغرة فاها وتصدر شخيراً متقطعاً .. لا يعرف لماذا في تلك الليلة رآها جميلة لأول مرة في حياته.



#فاتن_واصل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأرملة السوّداء
- شارل في المطر
- حكاية ست إسمها مريم
- التُوْهة
- نصف غربة
- عجايب
- عبودة الوحش
- قمصان شفافة
- وضع متميز
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الأخير)
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الثالث عشر )
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الثاني عشر )
- والقلب يعشق سراً. ( الجزء الحادي عشر)
- والقلب يعشق سراً. ( الجزء العاشر )
- والقلب يعشق سراً . ( الجزء التاسع )
- والقلب يعشق سراً . ( الجزء الثامن )
- والقلب يعشق سراً. ( الجزء السابع )
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء السادس )
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الخامس )
- والقلب يعشق سراً. ( الجزء الرابع )


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن واصل - إنقاذ الغريق