عبد الإله بسكمار
الحوار المتمدن-العدد: 8464 - 2025 / 9 / 13 - 02:48
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
...التصدي للأعداء من الجهة الشرقية ( نقصد الجيوش العثمانية في الجزائر ) - مراقبة القبائل وردعها واحتواء مظاهر التمرد المختلفة – الحد من تحركات قبائل الرحل ( خاصة من الجبال نحو السهول ) استخلاص الرسوم والمكوس والكلف لفائدة المخزن – تأمين السبل وطرق المواصلات الرابطة بين أجزاء البلاد وضمان الأمن بها تيسيرا للقوافل التجارية والحجية ومرور الجيوش والحركات – ضبط الأوضاع الأمنية بالمدن والحواضر كفاس والعاصمة الإسماعيلية مكناس ومراكش وتازة وتارودانت وقصبة تادلة كنماذج، رد الهجمات البحرية على الشواطئ المغربية وأمثلته المجسدة قصبة كَناوة بسلا وقصبتا تمارة وبوزنيقة .
تلك بعض الأدوار والوظائف الحيوية التي اضطلعت ىها المواقع العسكرية المنسوبة للمولى إسماعيل العلوي الذي حكم المغرب بين 1672 و 1727 م وتشمل فيما تشمل القصبات بدرجة أولى ثم القلاع والحصون بدرجة ثانية، وقد ذكر المؤرخ أبو القاسم الزياني أن عدد القصبات الإسماعيلية بلغ ستا وسبعين منشأة، موزعة على مختلف أنحاء البلاد من طنجة إلى واد نون وجنوب بلاد السوس وشنقيط ومن وجدة إلى أقصى نقطة في الساحل المحيطي .
جدير بالإشارة أن الكثير منها بني على أنقاض قلاع وحصون سابقة إما مرينية ( قصبات مكناس وتازة وتاوريرت كنماذج ) أو موحدية ( قصبة النوار أو فيلالة بفاس قصبة بولعوان بجوار واد أم الربيع وقصبة المهدية قرب القنيطرة ) أو حتى مرابطية كبقايا القصبة المرابطية ببوجلود ( فاس ) وقصبة الوداية بالرباط ( التي رممها وأصلحها السلطان المولى الرشيد أساسا ) وقصبة تادلة على سبيل المثال، أو منشآت سعدية ( قصبات مراكش والناحية وتافيلالت كنماذج ) وهذا ما يدل على قدم وامتداد الرؤية الاستراتيجية لدى مختلف الدول التي تعاقبت على حكم البلاد، مع استمرار نفس الأهداف والمرامي والتصورات في عهد مولاي اسماعيل وأخذا بعين الاعتبار التطورات الحاصلة خلال ذات الفترة ( نهاية القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر ) ولا سيما تطور سلاح المدفعية والهندسة العسكرية وتنظيم الجيوش .
من المعروف أن القصبة تتميز عن القلعة بكبر حجمها وتميُّز بعض وظائفها، كالامتزاج بين الأبعاد المدنية والعسكرية والدينية أيضا، ونفوذ القبائل المخزنية في القصبة، كما نجدها تشتمل على مرافق إدارية ودينية كمسجد القصبة ومقر الحاكم أو العامل مقابل الدور الإداري والعسكري للقلعة، ولذا فقد خلط الناصري مثلا بينهما فيما يخص القصبات الإسماعيلية، كقصبة بولعوان وقصبة المهدية وقصبة المزامزة بسطات وقصبتي تازة وامسون وقصبات العيون وتاوريرت ووجدة وهو يقصد دون شك المفهوم الذي حدد سابقا، هذا دون أن نغفل أن المولى اسماعيل رمم مواقع أخرى وحولها إلى قلاع أو قصبات لنفس الغايات .
يصنف هنري تيراس H .Terrass هذه القصبات إلى ثلاثة أنواع : فهناك صنف يراقب ويتحكم في المناطق المتمردة كالأطلس المتوسط ونماذجه : قصبات بوفكران وأكوراي والحاجب وصفرو وهناك صنف ثان مهمته حراسة المواصلات والطرق التي تصل تازة بوجدة وفاس بتافيلالت ثم فاس بمراكش وما سمي تاريخيا بالطريق السلطاني وأخيرا صنف ثالث، يقيم فيه العبيد وشبيه بالثكنات العسكرية الحديثة، كما هو الحال بالنسبة لقصبات تازة وامسون وتافراطا وجرسيف، علما بأنه تم تدمير أكثر القصبات القريبة أو المحيطة بجرسيف على يد المدفعية الفرنسية عند الزحف الاستعماري عبرالمنطقة في سنة 1912، وقد لاحظ تيراس في كتابه HISTOIRE DU MAROC " تاريخ المغرب " أن الجيش الإسماعيلي كان وسيلة للسيطرة وتهدئة القبائل وظل العبيد في الواجهة لثقة العاهل فيهم، أكثر من غيرهم ويذهب تيراس في لمحة مثيرة إلى أن الجيش الاسماعيلي في شكله وتنظيمه وعبر القصبات المذكورة ظل متخلفا عن نظيره السعدي (....) .
اكتفى المؤرخ دانييل ريفيه Daniel Rivet من جهته بالإشارة إلى تلك التحصينات بقوله " وبنى ( أي المولى اسماعيل ) شبكة من القلاع والحصون مثل أزرو ووطاط الحاج وميدلت وسكورة " ومع أن أكثر من علامات استفهام توضع حول رأي تيراس السابق، فإن السلطان مولاي اسماعيل كما ذهب غلى ذلك عبد الله العروي، كان يضع في حسابه نموذج أحمد المنصور السعدي، مذكرا بنقل أغلب محتويات وأبنية قصر البديع وقصبة مراكش الموحدية إلى العاصمة مكناس في إطار المركب العمراني الكبير الذي شيده هناك ويشمل أيضا قصبة مكناس الإسماعيلية وقَدِّر ما حُمل من طرف مولاي اسماعيل من أعمدة وأقواس ومنمنمات – حسب بينواست، ميشان BENOIST –MECHIN ما يوازي ثمانية أحجام الهرم الأكبر في مصر ( ....).
ونؤكد مرة أخرى أن ما أنجزه السلطان مولاي اسماعيل عد حجر الزاوية فيما يخص استعادة وحدة البلاد وضمان تماسكها، مع تحرير بعض الثغور الهامة من الاحتلال الأجنبي كطنجة والعرائش وأصيلا والمعمورة ( المهدية حاليا )، ولم يتأت ذلك إلا عبر الجيش القوي الذي أسسه العاهل العلوي، من خلال كل تشكيلاته كجيش عبيد البخاري على نحو أساس ثم جيش الأوداية، مع الإشارة إلى أن المولى إسماعيل وضع على رأس القصاب قيادا ورؤساء يضبطونها من حيث التمويل وتعبئة الفرق داخلها وتنظيم الكلف والضرائب المخزنية أو تدريب بعض القبائل المحسوبة على " الكيش " أيضا كالوداية ( وبتحفظ بعض عرب المعقل ) ونذكرهنا القائد منصور بن الرامي الذي تحكم في كل قصبات الشرق الممتدة من تازة إلى وجدة - كما يفيد الناصري- وأحمد بن علي الريفي على بعض القصبات الأطلسية كما وضع السلطان أحيانا أبناءه ليتولوا العمالة ورئاسة القصبة معا كابنه أحمد الذهبي بالنسبة لقصبة تادلة .
بواسطة القصبات والقلاع استطاع المولى اسماعيل ضبط الأمن بالبلاد وضمان وحدتها واستقرارها ولاسيما خلال الربع الأخير من فترة ملكه، بل امتد نفوذ السلطان إلى ما وراء شنقيط ( موريطانيا الحالية ) وجزء من السودان الغربي الذي كان المنصور السعدي قد سيطر عليه من قبل، وحسب محمد العمراني فإن كثرة الحصون والقصبات في العهد الإسماعيلي تدل على حزم السلطان وجدته في أمور الأمن " وقطع دابر أهل الزيغ والفساد " وفق نفس الباحث .
تمركزت بهذه لقصبات فرق من جيش عبيد البخاري أساسا، علاوة على العلوج وكانت منشأة القصبة تضم قيادة الموقع وسكن الجند، علاوة على مواقع الحراسة وتجمع الجنود وأخرى ذات طابع ديني أو اجتماعي كالمسجد، ومخازن المياه وتأثر السلطان في بناء تلك القصبات بالبعد المعماري على مستوى منطقة تافيلالت وهي المعقل الأساس للشرفاء العلويين، إضافة إلى عناصر صحراوية وأندلسية ومحلية موروثة عن العهود السابقة كالأبراج وأقواس الأبواب والخطوط والنقوش داخل البنايات، وقد كانت مواد البناء من التراب المدكوك ثم الأجور فالطابية .
يفيد أحمد بن خالد الناصري في الاستقصا أن نزول السلطان بمنطقة معينة أو إيقاعه بقبائلها ارتبط ببناء القلاع والقصبات " ولما نزل بوادي زا أمر ببناء قلعة تاوريرت، ولما نزل بوادي امسون أمر أن تبنى قلعة أخرى بجوار القديمة " ثم يضيف" وأقام رحمه الله بأدخان يحارب آيت ومالو سنة كاملة حتى بنى قلعة آدخان الجديدة بجانب القديمة " وكانت قصبتا وجدة وبني يزناسن أولى تلك القصبات والتي بناها المولى إسماعيل سنة 1678 م، في محاولة لدعم جهوده في مواجهة الأتراك العثمانيين بتلمسان والجزائر.
وقد لعبت قصبات الشرق المغربي أيضا أدوارا هامة في احتواء قبائل المنطقة خاصة بني يزناسن والمهاية وأشجع وبني بوزكو والزكارة ، وكان معظم الجيش الإسماعيلي الذي وصفه شارل أندري جوليان Charles André Julien بالنظامي والقومي ينتصب خارج المدن في القصبات المنعزلة، ولاحظ جوليان أيضا أن " مولاي اسماعيل التجأ ليقبض بيد من حديد على هذا البلد المضطرب إلى الاعتماد على طريقة المراكز المحصنة التي تحرسها حاميات قارة " كما تأثر في تكوين الجيش بالتنظيم العسكري الإنكشاري ومناهج التدريب لدى بني عثمان، معتمدا في تلك الحاميات العسكرية على العبيد السود، الذين ظلوا موجودين في البلاد منذ عهد المنصور السعدي، علاوة على كثير من العلوج الذين كانوا أسرى لدى السلطان مولاي اسماعيل وبذلك أسس جيشا منظما لا يدين بالولاء إلا لشخص السلطان ويتميز بالاستقلال التام عن المجتمع .
من مفارقات التاريخ أن هذا الجيش نفسه سيكون عاملا رئيسا في الاضطرابات التي حدثت بعد وفاة المولى اسماعيل، إذ توزع تأييد العبيد الذين غادروا قصباتهم ومعسكراتهم بين هذا السلطان أو ذاك من أبناء المولى اسماعيل، حسب مصالحهم ومن يدفع أكثر، ما أدى إلى حرب أهلية طاحنة في إطار الفترة المسماة أزمة الثلاثين ( أي استغرقت ثلاثين سنة ) وتراجعت بذلك أدوار ووظائف القصبات الإسماعيلية، التي استغل بعضها في محطات تاريخية بعد ذلك كمحاولة المولى محمد بن عبد الله استرجاع مليلية السليبة بين يوليوز ودجنبر 1774 انطلاقا من تازة، ثم معركة إيسلي بالنسبة لقصبتي امسون وتازة والتي وقعت في 14 غشت 1844 وهزم فيها المغرب أمام فرنسا نتيجة وقوفه إلى جانب جهاد الأمير عبد القادر الجزائري، كما وظف بعضها لخدمة الجيوش الاستعمارية كما هو شان قصبات تادلة والمهدية وامسون وتازة .
لم تنل تلك القصبات ما تستحقه من اهتمام كإرث حضاري وعسكري وثقافي من الطراز الأول خلال فترة الاستقلال، ويمكن إبراز أوضاعها الحالية ضمن التصنيف التالي :
- قصبات اندثرت فعليا وأصبحت أثرا بعد عين، بفعل تدخل البشر أو عاديات الزمن أو بفعل الزحف العمراني أو الإهمال وعوامل أخرى ونذكر هنا قصبات جرسيف والناحية كقصاب مرادة وتافراطا ومركز جرسيف وقصبة فاس المرابطية وقصبات تمارة وبوزنيقة وأدخان والحاجب وبوفكران وسكورة وغيرها كثير، ولا نتحدث هنا عن إصلاح أو ترميم، لأن موضوع الإصلاح نفسه لم يعد موجودا .
- قصبات تحولت مع الأيام والنمو الديمغرافي للمدن إلى أحياء سكنية لكن مع بقاء بعض أسوار القصبة أو أجزاء منها كقصبات وجدة وتازة وتاوريرت وصفرووقصبة مكناس وتارودانت وعيون سيدي ملوك وقصبة طنجة التي بناها السلطان مباشرة بعد استرجاع المدينة من يد الإنجليز سنة 1684 م، وهذا الصنف لا يمكن الحديث عنه بمعزل عن المجال السكني الذي تغلب عليه، باستثناء ما يمكن قراءته من بقايا الأسوار أو الأبواب أو السواري من أحداث ومواقف تاريخية .
- قصبات لا زالت قائمة لحد الآن، إما بجميع مرافقها أو أجزاء أساسية منها ونذكر هنا قصبة كناوة بسلا وقصبة المهدية ( المعمورة سابقا ) والتي بنيت سنة 1681 وصنفت تراثا وطنيا سنة 1916 وهي تشرف على مصب واد سبو بالمحيط الأطلسي وكذا قصبة امسون الواقعة على بعد 24 كيلومترا شرق مدينة تازة والمشرفة على الواد الذي يحمل نفس الإسم والقصبة الإسماعيلية بسطات وقصبة بولعوان الواقعة شرق منطقة دكالة والتي بناها السلطان مولاي اسماعيل سنة 1710 م وتعد من أكبرالمنشآت الاسماعيلية وهي تطل على نهر أم الربيع الشيء الذي يميزها أيضا بسحر وجمال فائقين .
القسم الأخير هو ما يجب أن يكون محط عناية الجهات المسؤولة خاصة وزارة الثقافة والمصالح المعنية بالآثار والتراث، فكل القصبات التي تحدثنا عنها بإيجاز في الصنف الثالث، تحتاج إلى إصلاح وترميم بسبب وضعها المتردي من انهيار الجدران وتلاشي البنايات، وتفتت الأسقف وانمحاء المنمنمات والخطوط والنقوش بل ولجوء السابلة والمنحرفين إلى جنباتها، وانتشار أنواع من القاذورات، في حين أنه يمكن تحويلها إلى مواقع جذب سياحية وثقافية من الطراز الرفيع وفقا للقانون 22 / 80 القاضي بوجوب الحفاظ على المآثر التاريخية وصيانتها، فمن تلك المنشآت ما يمكن أن يصلح كقاعات عروض ممتازة ونموذجه قصبة المهدية، ومنه ما يفترض تهيئته كمتحف للقى الأثرية أوالصناعة التقليدية والتحف المختلفة كقصبة بولعوان وقصبة امسون وهو ما نبهت إليه إطارات المجتمع المدني غير مامرة والنشيطة في هذا الميدان، دون نتائج تذكر .
#عبد_الإله_بسكمار (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟