رشيد اسماعيل
الحوار المتمدن-العدد: 8463 - 2025 / 9 / 12 - 17:47
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
بعد الانقلاب العسكري في 14 تموز سنة 1958 ، التفت الجماهير واحتضنت العملية العسكرية واعتبرتها هي الخلاص من العبودية والاستعمار والاستعباد والفقر والبؤس لأوسع جماهير العراق فتحولت إلى" ثورة"، والأهم من ذلك هو توق الجماهير للحرية وتحرير للمجتمع من القمع والخوف الذي بدوره يدفع الإنسان للتقدم والابتكار والتغيير نحو الأحسن.
كانت بحق طفرة في حياة المجتمع، وبدأت تبرز أسماء واعدة في العلم والفن والشعر وكل مناحي الحياة، فتجد الجماهير في كل يوم تريد المزيد والمزيد على أمل تحوّل الحياة إلى "جنة" العدل والمساواة والرفاهية، لما يمتلكه البلد من ثروات هائلة وبيد أبنائه من العمال والفلاحين والكادحين.
الجماهير تخطت الاحزاب التقليدية لمستقبلها
ما أزعج الدوائر الغربية هو هذا التقدم الذي يجري بأقصى سرعته إلى الأمام، للحاق بجماهير العالم كما كان أسلافهم، وذلك في دفع الحياة للأمام والتطور في مختلف مناحي الحياة مثل الأدب والفن والتعليم والزراعة وسن القوانين التقدمية ودراسة الفلك والرياضيات وغيرها، ما دفع بالقوى الرجعية ومن خلفها الدول الاستعمارية الى العمل من أجل إرجاع الحصان المنفلِت الى مكانه ووضع العصي في الدواليب.
الكل كان يتغنى بالحرية والخبز والعدالة، وكانت محاولاتهم عديدة لإرجاع الحصان إلى حيث كان، جرت هذه المحاولات بسرعة الى أن جاءت مؤامرة يوم 8 شباط والانقلاب الدموي الذي حصل، فكانت شوارع بغداد والمدن العراقية تسيل فيها دماء أنبل الناس، بدون سبب سوى حبهم للحياة. وفي معونتهم ساعدت الأحزاب والشخصيات القومية بكل فروعها، والتيارات الإسلامية والفتاوى التي تشكلت تحت عنوان: "يا أعداء الإنسانية اتحدوا". فارتكبوا مجزرة يندى لها جبين الإنسانية.
أعتقد بأن المقصود والمستهدف الأول كانت تلك الجماهير التوّاقة نحو الحرية والحياة، وليس الحزب الشيوعي العراقي، بالرغم من أن المئات منهم ضحوا بحياتهم وقاوموا بأعلى درجات الاستبسال والصمود.
بعد انقلاب 18 تشرين سنة 1963، والذي أدى الى سقوط حزب البعث، استلم السلطة شريكهم عبدالسلام عارف. عندها تنفست الجماهير نوعا من الصعداء، وعادت المطالب للعلنية، ومع أن التحديات كانت قليلة نسبيًا، لكنها منحت الجماهير الشجاعة والإقدام، فاندلعت إضرابات العمال في العديد من القطاعات. وإلى جانب ذلك، برز تحدٍّ آخر تمثّل في شرائح الطلاب، حين حقق اتحاد الطلبة العام بقيادة الشيوعيين انتصارًا مهمًا، فوصلت الحركة إلى ذروتها برفض اوساط واسعه من الشيوعيين نهج وبرنامج الحزب الشيوعي العراقي القديم( اللجنة المركزية) معلنه بزوغ (القياده المركزيه) في 17 ايلول سنة 1967 وانحياز العمال والطلبه واللجان المحليه نحو تلك القيادة و خاصه في بغداد وتبني منهج التحدي ضد السلطات الحاكمه، كانت الاحتجاجات و الاضرابات طلابيه وعماليه مستمرة بحيث حركت القياده المركزيه واصبحت اكثر جماهيرية ويتوخى منها الامل كبديل، وهو ما حفز الجماهير لكي تلتف اكثر واكثر حول القياده المركزيه باعتبارها "كول وفعل" ، ومن أبرز محطاتها: نفق سجن الحلة، مواجهات الهور، وبطولة خالد أحمد زكي ورفاقه.
هذا ما كانت تصبوا إليه هذه الجماهير بوجود الأداة الثورية بيدها. الدوائر الغربية حست بالخطر الحقيقي وبعملية مخابراتية عالمية تم تغيير السلطة والإتيان بالبعث الفاشي مرة أخرى كجلاد للجماهير في 17-30 تموز سنة 1968. وشعاراتهم "ثورة بيضاء وبدون إراقة" وعلى الجميع أن ينسى الماضي ويصطف لبناء البلد وغيرها من الشعارات الفارغة.
أول بيان للأحزاب السياسية والموقف من البعث كان للقيادة المركزية في 31 تموز سنة 1968، نبهت وحذرت المجتمع بالخطر المحدق وعرّت نواياهم وأهدافهم وكشفت عن الجهات والسفارات التي عملت للإتيان بهم والدور المنوط بهم لقمع الجماهير مرة أخرى.
بادروا الى اطلاق السجناء و خطوا غيرها من الخطوات و من بين الذين أطلق سراحهم الرفيق المناضل والبطل (كاكا عبد الله) من أهالي السليمانية، مناضل كبير في السن تجاوز السبعين عام. وبعد اطلاق سراحه استلم الرفيق كاكا عبد الله لجنة عمال الكهرباء، وكان اول اجتماع في بيت الرفيق طيب الذكر (كاظم ابو فارس ) والذي كان يعمل في نصب قوالب الصب الكونكريتية وداره كانت تقع في حي جميلة ، كنت حاضرا في ذلك الاجتماع مع الرفيق طيب الذكر (جبار شلش ابو عادل) و(حمدان كاظم) والرفيق ابو فارس صاحب الدار، دخل علينا الرفيق كاكا عبدالله بمعية الرفيق جبار شلش ابو عادل ورغم كبر سن كاكا عبدالله، الا أن ملامحه تعطيك القوة والصلابة وبيديه كيس التبغ يقوم بلف سيكارة بين فتره واخرى، جدير بالذكر بانه وعند اطلاق سراحه من نقرة السلمان بقي في الحجز لمدة اكثر من شهرين الى ان توفر له كفيل ، واذا اردنا وصفه فهو، و بابسط الكلمات، عامل انسان بسيط لم يتزوج له اخت واحدة كعائلة، كرّس حياته للحركة الشيوعية، كان الرفيق حذرا جدا وبأعلى الدرجات في هذه المرحلة، اول مواجهة حصلت مع البعث الفاشي من قبل القيادة المركزية كانت قيادة اضراب الزيوت النباتية في اليوم الخامس من تشرين الثاني عام 1968وقمعتها السلطة البعثية المجرمة بأبشع الاساليب الفاشيه في هذه اللحظة بدأت المواجهات للاعتقال والقضاء على القيادة المركزية فكانت المواجهة الثانية محاولة اعتقال الرفيق (مطشر حواس) واشتبك مع رجال الأمن وقتل اثنين منهم واصيب فتم اعتقاله واعدامه في يوم (5/1/1969)
وبعدها اعتقل العديد من كوادر القيادة وانقطعت خطوط التواصل بين بغداد والمحافظات، كان لي موعد مع الرفيق كاكا عبدالله عصرا وانا متوجه الى الدراسة المسائية وكان عندي دراجة هوائية فطلب مني العودة الى البيت واستنساخ 1000 نسخة من بيان اعطاني إياه، اللقاء كان عند ملعب العوينة في شارع الجمهورية بالقرب من الصدرية والان هي امانة بغداد حيث الدور مهدمة ولا اعرف من اين خرج، ذهبت الى البيت واليوم الثاني سلمته هذه النسخ ، بقينا على هذه الحالة اكثر من ثلاثة اشهر فكان يذهب الى السليمانية ويأتينا بالبيانات وبدوره يرسلها الى رفاقنا في الوسط والجنوب وبغداد.
في أحد الأيام لم يأتي إلى الموعد، انتظرته لأكثر من خمسة دقائق ولم يأتي فانسحبت وبعد فتره علمنا أنه اعتقل في قصر النهاية، وفي عام 1970 أطلق سراح العديد من الرفاق ومن بينهم الرفيق طيب الذكر (محمد كريم) الذي اغتيل لاحقا، صادفته في ساحة النهضة حييته وتجاذبنا الحديث عن معتقلي قصر النهاية وعن الرفيق كاكا عبد الله فقال بالحرف الواحد : لم ألتقي بشيوعي صلب حد الاعجاز مثله ابداً ! تعرض الى أبشع أنواع التعذيب على يد المجرم الفاشي (ناظم كزار) وعصابته ولكن بلا جدوى، فقط كنا نسمع منه الأغاني والأهزوجات الشيوعية التي تعلمها سابقاً في السجون التي مر بها من زمن الملكية ولحد الآن بحيث عجز جلادوه من تعذيبه وصوته الجهوري إلى أن قرروا قتله وأسكاته ،سقط كاكا عبدالله في قصر النهاية لكن ذكراه باقية في قلوبنا تلهمنا أن نقول لا للظلم وأن نتمسك بالأمل مهما ضاق الطريق، رحل تحت سياط الجلادين لكن رحيله لم تكن النهاية بل بداية نضال لازال مستمرا ، وذكراه باقية حية لا تموت، أحيانا أسترجع ملامحه و كلماته حين يقول : الحرية لا تمنح بل تنتزع والظلم مهما طال نهايته الزوال.
تحية عطره لذكراه البطولية وتحية لكل الرفاق المضحين في طريق الشيوعية واخيرا اتمنى من رفاقنا او من القراء الاعزاء ان يعطونا اي معلومات عنه او اسرته.
#رشيد_اسماعيل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟