|
الخطاب الإعلامي العربي: كيف يُعاد تشكيل فلسطين في زمن التطبيع؟
حسن العاصي
باحث وكاتب
(Hassan Assi)
الحوار المتمدن-العدد: 8454 - 2025 / 9 / 3 - 14:33
المحور:
القضية الفلسطينية
في مساءٍ عربيٍ عادي، تبث إحدى القنوات الفضائية العربية تقريراً عن "التعاون الإقليمي"، تُعرض فيه صور لمصافحات رسمية، وتُذكر إسرائيل بوصفها "شريكاً اقتصادياً واعداً"، بينما تغيب فلسطين تماماً عن المشهد. لا ذكر لغزة، لا تلميح للضفة، لا حضور للقدس. وكأن فلسطين لم تكن يومًا قلباً نابضاً في الوعي العربي، وكأنها لم تكن القضية التي شكّلت وجدان أجيال، وألهمت الشعراء، وأشعلت الميادين. هذا الغياب ليس مجرد صدفة تحريرية، بل هو تحول سردي ممنهج، تُعاد فيه صياغة فلسطين لا بوصفها قضية مركزية، بل كـ"ملف حساس"، يُستحسن تأجيله أو تجاهله. تتحول من رمز للضمير العربي إلى عبء سياسي، ومن مرآة للعدالة إلى عقبة أمام "الاستقرار الإقليمي". في هذا التحول، لا يُعاد فقط ترتيب الأولويات، بل يُعاد تشكيل الوعي ذاته، وتُعاد هندسة اللغة التي تصوغ علاقتنا بالقضية. في هذا المقال، نحاول أن نفكك هذا التحوّل، ونرصد كيف يُعاد تشكيل فلسطين في الإعلام العربي، بين التغطية والتوجيه، بين السلطة والناس، وبين الشاشات والمنصات. لأن ما يُقال عن فلسطين في الإعلام، لا يُعبّر فقط عن موقف سياسي، بل يُشكّل وجدانًا، ويُعيد بناء ذاكرة، ويُحدّد ملامح المستقبل. الخطاب الإعلامي، في زمن التطبيع، لا يكتفي بإعادة سرد الواقع، بل يُعيد إنتاجه وفقاً لمزاج السوق، وضرورات السلطة، وإيقاع المصالح العابرة. في سياق إعادة تشكيل الخطاب الإعلامي، تتحول الكلمات إلى أدوات تفكيك رمزي، تُفرغ القضية من شحنتها الأخلاقية، وتُعيد ترتيب المعاني بما يخدم سردية التطبيع. فـ"السلام" لم يعد يعني إنهاء الاحتلال، بل أصبح مرادفاً لـ"التطبيع"، أي إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل دون اشتراط العدالة أو الاعتراف بالحقوق الفلسطينية. كذلك، يُستبدل مصطلح "الاحتلال" بكلمات مثل "النزاع" أو "الوضع القائم"، مما ينزع عنه صفته القانونية ويجعله يبدو وكأنه خلاف بين طرفين متكافئين. أما "المقاومة"، فتُعاد تسميتها بـ"الجماعات المسلحة" أو "العناصر المتطرفة"، في محاولة لتجريم الفعل المقاوم وتحويله إلى تهديد أمني. ومصطلح "العدوان" يُخفف إلى "عملية عسكرية" أو "رد أمني"، بينما يُطلق على الشهيد الفلسطيني وصف "القتيل" أو "الضحية"، مما يُفرغ الحدث من رمزيته الوطنية والدينية. حتى "النكبة"، التي كانت تُروى بوصفها مأساة جماعية، تُختزل اليوم في تعبيرات مثل "أحداث 1948" أو "الهجرة الجماعية"، وكأنها مجرد فصل تاريخي عابر. والاستيطان يُعاد تقديمه بوصفه "توسعاً عمرانياً" أو "مشروعاً تطويرياً"، والقدس المحتلة تُسمى "القدس الشرقية" أو "القدس الموحدة"، في تغييب متعمد للوضع القانوني والسياسي. اللاجئ الفلسطيني يُشار إليه أحياناً بـ"النازح" أو "المهاجر"، مما يُضعف حقه في العودة ويُعيد تعريفه كمشكلة إنسانية لا سياسية. حتى الانتفاضة، التي كانت تُعد تعبيراً شعبياً عن الرفض، تُختزل في توصيفات مثل "أعمال شغب" أو "توتر ميداني"، مما يُشوّه الحراك الجماهيري ويُفرغه من شرعيته. وتُصبح فلسطين، في بعض التغطيات، مجرد خلفية رمادية، تُذكر على استحياء، أو تُستبدل بروايات أخرى أكثر انسجاماً مع المزاج السياسي الجديد. هذا المشهد الإعلامي ليس معزولاً، بل هو جزء من عملية أوسع تُعيد تشكيل الذاكرة الجماعية، وتُعيد تعريف ما يُروى وما يُنسى، وما يُعتبر قضية وما يُصنّف كإرث تاريخي. إنه انتقال من فلسطين كقضية وجودية إلى فلسطين كملف تفاوضي، ومن سردية المقاومة إلى سردية التكيّف، ومن الحضور العاطفي إلى الحياد البارد.
من القضية إلى الملف في زمن تتسارع فيه خطوات التطبيع بين بعض الأنظمة العربية وإسرائيل، لم يعد الخطاب الإعلامي العربي حول فلسطين كما كان. لقد دخل مرحلة جديدة من التشكيل، حيث تتداخل السياسة مع السرد، وتُعاد صياغة المفاهيم، وتُهمّش الرموز التي لطالما كانت مركزية في الوعي الجمعي العربي. فمنذ أن وُلدت القضية الفلسطينية في وجدان العرب، لم تكن مجرد ملف سياسي يُناقش في القمم، بل كانت مرآة للكرامة، ومقياساً للضمير، ومركزاً للهوية الجماعية. في المدارس، كانت تُعلّق صور القدس، وفي الأغاني، كانت تُردّد أسماء الشهداء، وفي الإعلام، كانت فلسطين تُعرض بوصفها الجرح الذي لا يندمل، والحق الذي لا يُنسى. لكن شيئاً ما تغيّر. في السنوات الأخيرة، ومع توقيع اتفاقيات التطبيع بين عدد من الدول العربية والاحتلال الإسرائيلي، بدأ الخطاب الإعلامي الرسمي يُعيد تشكيل صورة فلسطين، لا بوصفها قضية مركزية، بل كملف إقليمي، يُعالج ضمن سياق "السلام"، أو يُهمّش ضمن أولويات "التنمية"، أو يُختزل في تقارير تقنية لا تُلامس الوجدان. هذا التحوّل الإعلامي لا يُعبّر فقط عن تغيّر في السياسات، بل يُعبّر عن إعادة هندسة للوعي الجماعي، حيث تُعاد صياغة المفاهيم، وتُعاد ترتيب الأولويات، ويُعاد إنتاج الذاكرة وفقاً لمصالح السلطة، لا لنبض الناس.
من مركزية القضية إلى "إرث الماضي" في العقود السابقة، كانت فلسطين تُقدَّم في الإعلام العربي بوصفها "القضية المركزية"، رمزاً للعدالة المفقودة، وللصراع بين الحق والاحتلال. لكن مع موجة التطبيع، بدأ بعض الإعلام الرسمي وشبه الرسمي يعيد تموضع فلسطين في الخطاب، لا بوصفها قضية حية، بل كـ"إرث تاريخي" أو "ملف معقد" يُستحسن تركه للمفاوضات الباردة. التحول ليس مجرد تغيير في اللغة، بل في المنظور الأخلاقي والسياسي الذي يستخدم مفردات تفرغ الخطاب من شحنته الأخلاقية ويجعله أقرب إلى الحياد البارد. في زمن التحولات السياسية المتسارعة، لم تعد فلسطين تُذكر في الإعلام العربي كما كانت تُذكر من قبل. لم تعد القضية تُقدَّم بوصفها مركزاً للوجدان القومي، بل باتت تُعاد صياغتها وفقاً لمعادلات جديدة، حيث تتداخل المصالح، وتُعاد تعريف المفاهيم، ويُعاد تشكيل الوعي الجماعي عبر خطاب إعلامي يُراوغ أكثر مما يُعبّر. منذ توقيع اتفاقيات التطبيع بين عدد من الدول العربية والاحتلال الإسرائيلي، بدأ الإعلام العربي الرسمي يُعيد رسم صورة فلسطين، لا بوصفها قضية مركزية، بل كملف يُعالج ضمن سياق "السلام"، أو يُهمّش ضمن أولويات "التنمية"، أو يُختزل في أخبار عاجلة عن اشتباكات أو تصريحات متفرقة. هذا التحوّل لم يكن بريئاً، بل كان جزءًا من إعادة هندسة الوعي، حيث يُعاد تعريف "العدو"، ويُعاد ترتيب "التحالفات"، ويُعاد إنتاج "الذاكرة" وفقاً لمصالح السلطة.
من التغطية إلى التوجيه في العقود السابقة، كان الإعلام العربي يُقدّم فلسطين بوصفها قضية العرب الأولى. كانت صور الشهداء تُعرض في نشرات الأخبار، وكانت قصائد درويش تُقرأ في البرامج الثقافية، وكانت القدس تُذكر في خطب الجمعة وفي أغاني الأطفال. لكن مع صعود خطاب التطبيع، بدأت هذه الرموز تتلاشى، أو تُعاد تأطيرها ضمن سرديات جديدة، تُركّز على "الفرص الاقتصادية"، و"الانفتاح"، و"التعايش"، وتُهمّش الحديث عن الاحتلال، أو تُقدّمه بلغة محايدة، تُساوي بين الضحية والجلاد. لكن الإعلام لا يُعبّر دائماً عن الوجدان الشعبي، بل يُعاد تشكيله وفقاً لاعتبارات سياسية ومؤسساتية، مما يُنتج خطاباً رسمياً قد يُهمّش القضايا المركزية مثل فلسطين.
فلسطين بين الشاشات والمنصات في بعض القنوات الرسمية، باتت أخبار فلسطين تُعرض في نهاية النشرة، أو تُختزل في تقارير تقنية، تُركّز على الأرقام لا على المعنى. أما في البرامج الحوارية، فغابت فلسطين عن النقاش، أو ظهرت بوصفها "عقبة" أمام السلام، أو "ملفاً معقّداً" لا يُجدي الحديث فيه. لكن في المقابل، ظهرت منصات إعلامية بديلة، خاصة في الفضاء الرقمي، تُعيد إنتاج الخطاب الفلسطيني بلغة جديدة، أكثر جرأة، وأكثر ارتباطاً بالوجدان الشعبي. من صفحات "Visualizing Palestine" إلى حملات "غزة أونلاين"، ومن إنتاجات اليوتيوبرز العرب إلى البودكاستات السياسية، بات الفضاء الرقمي ملاذاً للخطاب المقاوم، الذي يُعيد طرح القضية من زاوية إنسانية، أخلاقية، وتاريخية. فالإعلام الجديد بات يُشكّل بنية خطابية موازية، تُقاوم التهميش، وتُعيد بناء الوعي الجمعي تجاه فلسطين، خاصة في ظل موجة التطبيع.
بين السلطة والناس: من يُشكّل الوعي؟ السؤال المركزي الذي يطرحه هذا المقال هو: من يُشكّل الوعي تجاه فلسطين اليوم؟ هل هو الإعلام الرسمي، الذي يُعيد إنتاج الخطاب وفقاً لسياسات الدولة؟ أم هو الإعلام الشعبي، الذي يُعبّر عن الناس، ويُعيد بناء الذاكرة من تحت الركام؟ في كثير من الحالات، يُلاحظ أن هناك فجوة واضحة بين ما يُقال في الإعلام الرسمي، وما يُتداول في المنصات الشعبية. ففي حين تُروّج بعض القنوات لفكرة "السلام الإقليمي"، تُعبّر الأغاني، والقصائد، والمظاهرات، عن رفض شعبي عميق للتطبيع، وعن ارتباط وجداني لا يُمحى. كما يُشير عبد الإله بلقزيز في كتابه القضية الفلسطينية في الوعي العربي المعاصر، فإن فلسطين لم تكن مجرد قضية سياسية، بل كانت وما تزال قضية مركزية في تشكيل الهوية الجماعية، والوعي القومي، والرمزية الأخلاقية التي تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة.
لإعلام الجماهيري: بين الترفيه والتغريب في بعض القنوات والمنصات، يُلاحظ تغييب شبه كامل لفلسطين، أو اختزالها في مناسبات موسمية. حتى في الأعمال الدرامية، يُستبدل الفلسطيني بشخصيات أخرى، ويُغيب المخيم، وتُمحى صور النكبة، وكأنها لا تنتمي إلى الذاكرة العربية المشتركة. وفي المقابل، يُضخّم حضور إسرائيل بوصفها "شريكاً اقتصادياً" أو "نموذجاً تكنولوجياً"، مما يُعيد تشكيل الوعي العربي تجاهها، لا كقوة احتلال، بل كدولة طبيعية في الإقليم. رغم هذا التحول، لا يزال هناك إعلام عربي مستقل ومنصات رقمية تُقاوم هذا التشكيل الجديد. في هذه المساحات، تُستعاد فلسطين بوصفها قضية إنسانية وأخلاقية، تُروى فيها قصص الأسرى، وتُوثق فيها معاناة غزة، وتُستحضر فيها رموز مثل حنّا ميخائيل، وغسان كنفاني، وشيرين أبو عاقلة. هذه المنصات لا تكتفي بالرفض، بل تُعيد إنتاج سردية فلسطينية جديدة، تُخاطب الجيل الرقمي، وتربط بين فلسطين والعدالة العالمية، وتُعيد تعريف التطبيع بوصفه انفصالاً عن الضمير العربي، لا مجرد خيار سياسي.
الإعلام كأداة مقاومة... أو تواطؤ الإعلام، في نهاية المطاف، ليس مجرد ناقل للمعلومة، بل هو مُنتِج للمعنى. وحين يُعاد تشكيل الخطاب حول فلسطين، فإن ما يُعاد تشكيله ليس فقط الخبر، بل الذاكرة، والرمز، والموقف. في زمن التطبيع، يصبح الإعلام ساحة للصراع الرمزي: هل تُعرض فلسطين بوصفها قضية عادلة؟ أم تُقدّم بوصفها عبئاً سياسياً؟ هل يُذكر الاحتلال بوصفه جريمة؟ أم يُقدّم بوصفه طرفاً في نزاع؟ هذا الصراع لا يُحسم في غرفة التحرير فقط، بل في وعي الجمهور، وفي قدرة الإعلام البديل على اختراق الحواجز، وعلى إعادة بناء سردية تُقاوم النسيان، وتُعيد الاعتبار لفلسطين بوصفها قضية وطنية وإنسانية، لا ملفاً دبلوماسياً. نُدخل هنا مفهوم الذاكرة المُدارة، أي كيف تُعيد الأنظمة الإعلامية إنتاج الذاكرة الجماعية بما يخدم الحاضر السياسي. فلسطين، في هذا السياق، تُعاد صياغتها لا بوصفها جرحاً مفتوحاً، بل كقصة انتهت، أو على الأقل، لم تعد تستحق الصدارة. الذاكرة المُدارة لا تمحو الماضي، بل تُعيد ترتيبه، وتُقرر ما يُروى وما يُنسى. نُقارن بين تغطيات إعلامية في التسعينيات وبين تغطيات اليوم، حيث يُلاحظ تراجع الرموز الفلسطينية، وتغييب صور المخيمات، والأسرى، والشهداء. نرصد التحول في المفردات المستخدمة: من "الاحتلال" إلى "النزاع". ومن "المقاومة" إلى "التهدئة". ومن "النكبة" إلى "الحدث التاريخي". نُحلل كيف تُستخدم اللغة لتفريغ القضية من شحنتها الأخلاقية، وتحويلها إلى سردية محايدة، بل أحياناً متعاطفة مع الطرف المحتل. على سبيل المثال: تغطية قناة سكاي نيوز عربية لاتفاقيات التطبيع، حيث يُستخدم مصطلح "السلام الإبراهيمي" بدلاً من "التطبيع"، مما يمنح الاتفاقات طابعاً روحياً لا سياسياً.
نحو خطاب إعلامي مقاوم حين يُعاد تشكيل الخطاب الإعلامي حول فلسطين، فإن ما يُعاد تشكيله ليس فقط الخبر، بل الذاكرة، والرمز، والموقف. الإعلام، في زمن التطبيع، لم يعد مجرد ناقل للمعلومة، بل أصبح أداة لإعادة تعريف القضايا، وإعادة ترتيب المفاهيم، وإعادة إنتاج الوعي وفقاً لما يُناسب السلطة، لا ما يُعبّر عن الناس. لكن وسط هذا التحوّل، يظل هناك إعلام مقاوم، يُعيد بناء السردية، ويُقاوم التهميش، ويُذكّر بأن فلسطين ليست عبئاً سياسياً، بل قضية وطنية، وأخلاقية، وإنسانية، وتاريخية. من المنصات الرقمية إلى المبادرات المستقلة، من الأغاني إلى الأفلام، من المقالات إلى البودكاستات، يُعاد إنتاج فلسطين بوصفها ذاكرة حيّة، لا تُمحى، حتى حين تُهمّش. هناك منصات كثيرة تستحق تسليط الضوء عليها، وكذلك بعض المؤثرين الرقميين الذين يُعيدون سرد فلسطين بلغة إنسانية، رقمية، وجذابة. هذه المنصات تُقاوم التهميش، وتُعيد إنتاج الرموز، وتربط القضية بالعدالة العالمية. على سبيل المثال: تغطية استشهاد الصحفية شيرين أبو عاقلة، حيث تحولت إلى رمز عالمي، رغم محاولات التعتيم الرسمي. ما يحتاجه الإعلام العربي اليوم ليس فقط تغطية أفضل، بل رؤية أخلاقية تُعيد الاعتبار لفلسطين، وتُعيد بناء الجسور بين الوجدان الشعبي والخطاب الإعلامي، تُعيد تعريف فلسطين بوصفها مرآة للعدالة، ومقياسًا للموقف، ومجالاً للتعبير الحر. نحتاج إلى إعلام يُخاطب الوجدان، لا فقط يُرضي السلطة. نحتاج إلى صحافة تُعيد بناء الذاكرة. نحتاج إلى صحافة تُضيء، لا تُراوغ. نحتاج إلى إعلام يُقاوم النسيان، لا يُعيد إنتاجه. نحتاج إلى خطاب يُقاوم، لا يُراوغ. لأن فلسطين، في النهاية، ليست فقط قضية سياسية، بل هي اختبار للضمير الإعلامي العربي: هل يختار أن يُعبّر؟ أم يختار أن يُراوغ؟ هل يختار أن يُضيء؟ أم يختار أن يُطفئ؟
سؤال الهوية: هل يُعاد تشكيل فلسطين أم يُعاد تشكيلنا نحن؟ في قلب التحولات الإعلامية التي يشهدها العالم العربي اليوم، لا يبدو أن فلسطين وحدها هي التي تُعاد صياغتها، بل إن ما يحدث يتجاوز حدود الجغرافيا ليطال جوهر الهوية العربية ذاتها. فالتطبيع الإعلامي، حين يُقدَّم بوصفه خياراً سياسياً عقلانياً أو "مصلحة وطنية"، لا يُعيد فقط تعريف العلاقة مع إسرائيل، بل يُعيد ترتيب سلم القيم، ويُعيد هندسة الذاكرة، ويُعيد تشكيل الضمير الجمعي الذي لطالما اعتبر فلسطين مرآةً للعدل والكرامة والمقاومة. إن ما يُبث في الشاشات، وما يُكتب في المقالات، وما يُغيب عن العناوين، ليس مجرد انعكاس لسياسات رسمية، بل هو إنتاج سردي ممنهج، يُفرغ القضية من رمزيتها، ويُحيدها عن وجدان الناس. حين تُستبدل مفردات مثل "الاحتلال" بـ"النزاع"، و"المقاومة" بـ"التهدئة"، فإن اللغة نفسها تصبح أداة لإعادة تشكيل الوعي، لا فقط لنقل الخبر. وحين تُغيب صور المخيمات، وتُمحى أسماء الشهداء، وتُستبدل فلسطين بمشاريع "السلام الإبراهيمي"، فإننا لا نعيش فقط إعادة تشكيل لفلسطين، بل تفكيكاً تدريجياً للهوية العربية التي تشكلت حولها. في هذا السياق، يصبح التطبيع الإعلامي أكثر من مجرد سياسة؛ إنه هندسة ثقافية، تُعيد تعريف من نحن، وماذا نؤمن، وما الذي يستحق أن يُروى. إنه انتقال من خطاب المقاومة إلى خطاب التكيف، ومن سردية النكبة إلى سردية النسيان، ومن فلسطين كقضية وجودية إلى فلسطين كملف تفاوضي قابل للتأجيل أو الإغلاق. لكن السؤال الأعمق يبقى: هل هذه الهندسة ستنجح؟ وهل يمكن فعلاً إعادة تشكيل الضمير الجمعي العربي دون مقاومة سردية مضادة؟ الإجابة تكمن في قدرة الإعلام البديل، والكتابة الحرة، والذاكرة الشعبية، على استعادة فلسطين لا فقط كأرض محتلة، بل كفكرة حية، وكمرآة تعكس ما تبقى من إنسانيتنا في زمن التكيّف والانفصال الرمزي. في النهاية، السؤال الأعمق ليس فقط كيف يُعاد تشكيل فلسطين في الخطاب الإعلامي، بل كيف يُعاد تشكيل الهوية العربية ذاتها. ففلسطين ليست مجرد قضية خارجية، بل مرآة تعكس ما تبقى من الضمير، ومن الحلم، ومن القدرة على قول "لا" في زمن "الواقعية السياسية". هل ما يحدث هو إعادة تشكيل لفلسطين، أم إعادة تشكيل للهوية العربية ذاتها؟ هل التطبيع الإعلامي هو مجرد سياسة، أم هو إعادة هندسة للضمير الجمعي؟
#حسن_العاصي (هاشتاغ)
Hassan_Assi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سلام بلا أرض، وشرعية بلا سيادة: فشل الاعتدال الفلسطيني
-
نقد من الداخل أم تطبيع من الخارج؟ قراءة في لقاءات المثقفين ا
...
-
ما وراء الفصل العنصري والإبادة الجماعية في فلسطين
-
الذاكرة العربية والقضية الفلسطينية: تفكيك المواقف وتحرير الس
...
-
الغائب الذي لا يغيب: قراءة في رمزية البرغوثي السياسية
-
من الرباط إلى القدس: سرديات الدعم المغربي للقضية الفلسطينية
-
العبودية الفكرية.. ثقافة الخنوع
-
الاشتراكية الاستبدادية.. تسلط معاصر
-
الصورولوجيا والكوزموبوليتانية
-
هل البرتقال في أوروبا ألذ مذاقاً؟
-
المثقفون العرب زنادقة العصر
-
الأقليات والدولة في العالم العربي.. التداعيات والاعتبارات ال
...
-
الأقليات في الشرق الأوسط بين الاعتراف والإنكار
-
غزة: اختبارٌ لتسامح الرأي العام مع مستويات القتل والدمار.. ت
...
-
موت الصحفيون في غزة جوعاً.. انهيار قواعد القانون الدولي
-
الجثث المُحتجزة ومقابر الأرقام.. إسرائيل ترتهن جثامين الفلسط
...
-
الأقليات المدمجة في الشرق الأوسط
-
التعددية الثقافية والتصنيف الثلاثي للأقليات في العالم العربي
-
مآلات التوحش الإسرائيلي وعجز السلطة
-
العرب وفلسطين.. مسيرة هزائم.. تخاذل أم تواطؤ؟
المزيد.....
-
ابنة كيم تشعل تكهنات بأول رحلة علنية لها خارج كوريا الشمالية
...
-
بوتين وكيم في الصين: بكين تكشف عن أسلحة جديدة في عرض عسكري ض
...
-
أفغانستان: الاستعانة بقوات كوماندوز في البحث عن ناجين من الز
...
-
-شمال بلا حماية-.. تقرير يكشف إهمال الحكومة الإسرائيلية لسكا
...
-
-الموساد كان هناك-.. خفايا جديدة عن عملية اغتيال نصرالله في
...
-
اليونيفيل تندد بهجوم إسرائيلي -خطير- على جنودها جنوبي لبنان
...
-
-فوضى- باير ليفركوزن -تفاجئ- نجم بايرن ميونيخ!
-
هزة أرضية جديدة تضرب أفغانستان وارتفاع حصيلة ضحايا الزلزال إ
...
-
مصر: معلمة توزع -دولارات- على طلابها.. ما القصة؟
-
بايرو يواصل مشاوراته مع زعماء الأحزاب السياسية الفرنسية في م
...
المزيد.....
-
البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية
/ سعيد مضيه
-
فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع
/ سعيد مضيه
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ااختلاق تاريخ إسرائيل القديمة
/ سعيد مضيه
-
اختلاق تاريخ إسرائيل القديمة
/ سعيد مضيه
-
رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني
/ سعيد مضيه
-
تمزيق الأقنعة التنكرية -3
/ سعيد مضيه
-
لتمزيق الأقنعة التنكرية عن الكيان الصهيو امبريالي
/ سعيد مضيه
-
ثلاثة وخمسين عاما على استشهاد الأديب المبدع والقائد المفكر غ
...
/ غازي الصوراني
المزيد.....
|