|
ما وراء الفصل العنصري والإبادة الجماعية في فلسطين
حسن العاصي
باحث وكاتب
(Hassan Assi)
الحوار المتمدن-العدد: 8447 - 2025 / 8 / 27 - 13:55
المحور:
القضية الفلسطينية
تُصاغ العدالة في قضية فلسطين غالباً كمسألة قانونية. ومع ذلك، لم يُحَل أيٌّ من أكثر تحديات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تعقيداً بالتدخل القضائي. فقد فشل قانون الاحتلال في وقف مشروع الاستيطان الإسرائيلي. وأجازت قوانين الحرب القتل والتدمير خلال الهجمات العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة. وأصبح حل الدولتين في اتفاقية أوسلو حبراً على ورق.
إطار أوسع لفهم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لطالما تحدى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر التصنيفات التبسيطية. تحمل تشبيهات مشحونة مثل "الفصل العنصري" و"الإبادة الجماعية" قوة بلاغية، إلا أنها لم تنجح في تصوير واقع هذا الوضع، لا سيما في قطاع غزة. تسعى هذه الرؤية إلى تصوير تعقيد الصراع بدقة أكبر، مع التركيز على السياق التاريخي والأبعاد القانونية للصراع، وعلى التجارب الفلسطينية المتنوعة. إن ديناميكيات الصراع في غزة تعكس سمات الحرب غير المتكافئة وتُظهر سمات الإبادة الجماعية؛ وبالمثل، فإن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الأوسع يتماشى مع سمات ليس النزاع على الأراضي فقط، بل سمات نظام الفصل العنصري. يُعد اختيار القياس مهماً من النواحي القانونية والسياسية والأخلاقية. من الناحية القانونية، قد يتطلب وصف الإبادة الجماعية تدخلاً دولياً ومقاضاة في المحكمة الجنائية الدولية. أما من الناحية السياسية، فيؤثر ذلك على العلاقات الدبلوماسية والدعم الدولي والضغط على الأطراف المعنية لاتخاذ إجراءات معينة أو قبول حلول محددة. وبشكل أكثر تحديداً، فإن وصف الصراع بأنه إبادة جماعية يصوره على أنه صراع وجودي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولكنه نزاعاً قابلاً للتفاوض على تسوية أيضاً. وأخيراً، يُشكل الثقل الأخلاقي لمصطلح الإبادة الجماعية الفهم العام والاستجابات العاطفية للصراع بطرق يمكن أن تؤثر على القرارات السياسية والمساعدات الإنسانية وحركات التضامن العالمية.
بدايةً، يُعد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا تشبيهاً شائعاً يُستخدم لوصف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لكن هذا التشبيه يواجه قيوداً كبيرة عند استخدامه في السياق الإسرائيلي. أولاً: تعتبر إسرائيل وحلفاءها أن حكم الأقلية البيضاء في نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا على الأغلبية السوداء يختلف اختلافاً جوهرياً عن المطالبات الإقليمية المتنافسة بالسيادة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ثانياً: يقول المخالفين لتهمة الإبادة الجماعية التي توجه لإسرائيل أن السياقات الجغرافية والديموغرافية تتباين اختلافاً كبيراً، حيث يُجبر تماسك وكثافة الأراضي الإسرائيلية الفلسطينية على تفاعل وتنافس دائمين على مساحة محدودة، في تناقض صارخ مع المساحات الشاسعة لجنوب إفريقيا. ثالثاً: وينظرون إلى أن الطبيعة العسكرية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، على كلا الجانبين، تُضفي أبعاداً أمنية فريدة كانت غائبة في جنوب إفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري. أخيراً، يُعقّد الإطار القانوني المقارنة أكثر، حيث تختلف سياسات "الفصل" الإسرائيلية (الهافرادا) عن الفصل العنصري في نظام الفصل العنصري، حيث تتقاطع، وإن كان ذلك بشكل غير كامل، مع نموذج الدولتين الذي لطالما كان الحل المفضل للمجتمع الدولي للصراع وما زالت إسرائيل تقوضه.
من الفصل العنصري للإبادة الجماعية تصاعد الخطاب الأخير - من قبل الأكاديميين وكذلك المنظمات الدولية - من اتهامات الفصل العنصري إلى اتهامات الإبادة الجماعية ضد إسرائيل بسبب أفعالها في غزة. تُعرف اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية لعام 1948 الإبادة الجماعية بأنها تتطلب "نية التدمير الكلي، أو الجزئي، لجماعة قومية، أو إثنية، أو عنصرية، أو دينية". وهذا يتطابق تماماً مع ما تقوم به إسرائيل في غزة وفي بعض مناطق الضفة الغربية، وينسجم مع تصريحات المسؤولين السياسيين الإسرائيليين الصهاينة اليمينيين المتشددين. وأي فحص دقيق يتجاوز الوضع الإنساني المروع الذي لا يمكن إنكاره، والذي يشمل الخسائر الجماعية في صفوف المدنيين والنزوح على نطاق واسع، سوف يؤكد هذا الاستخلاص.
بينما يواصل العلماء مناقشة نطاق تعريف الإبادة الجماعية وتمييزها عن الحرب، فإن الوضع في غزة، والخسائر الإنسانية الفادحة، وسياسة التجويع، ونهج التدمير والقتل والحصار، لا يختلف اختلافاً ًعن عمليات الإبادة الجماعية المعترف بها على نطاق واسع، مثل الإبادة الجماعية في رواندا والمحرقة، من حيث القصد والتنفيذ. عند تحليلها في ضوء الأطر الراسخة في القانون الدولي والخطاب الأكاديمي، فإن نمط العمليات العسكرية، وتوفير الممرات الإنسانية، والأهداف المعلنة في غزة، لا يشير إلى صراع مسلح معقد، بل إلى تدمير منهجي للفلسطينيين. ومن المهم أيضاً إدراك أنه على الرغم من أن الحرب الحالية اندلعت مباشرة نتيجة هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 الذي شنه مسلحو حماس داخل إسرائيل، فإن هذا الأمر لا يعني النظر إلى العملية العسكرية الإسرائيلية على أنها تتماشى بشكل أكبر مع مبادئ الحرب العادلة، وتهدف في المقام الأول إلى استعادة الأمن بعد هجوم على أراضيها ومواطنيها، بدلاً من استهداف الفلسطينيين كجماعة للقضاء عليهم، كما يقول متبني الرواية الإسرائيلية. ولا يمكن أن يتجلى القصد للعملية الإسرائيلية العسكرية في غزة على أنها مواجهة تهديدات أمنية أخرى (مثل لبنان وسوريا)، مما يدل على أن العمليات ليست مدفوعة بأهداف عسكرية استراتيجية، بل أن أهدافها عرقية أيضاً، ودينية. ومما لا شك فيه أن العدوان الإسرائيلي على غزة كان وحشياً، وخلق وضعاً إنسانياً مروعاً. وفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة، أن آخر حصيلة لضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة منذ بدء العدوان في 7 أكتوبر 2023 حتى 12 أغسطس 2025 بلغ 61,599 شهيداً فلسطينياً، و154,088 جريحاً، وأكثر من 9,000 مفقودين تحت الأنقاض أو في المناطق التي يصعب الوصول إليها. وبلغ عدد ضحايا المجاعة وسوء التغذية: 227 وفاة، بينهم 103 أطفال. وعدد الصحفيون المستشهدون: 232 صحفياً. من الصعب معرفة عدد عناصر حماس الذين استشهدوا من بين مجموع عدد الضحايا. والسبب في أن تحديد وضع المقاتل لا يزال صعباً للغاية هو أن حماس دمجت بنيتها التحتية العسكرية داخل المراكز السكانية المدنية في السنوات التي سبقت 7 أكتوبر 2023، بينما شنت هجمات متكررة ضد إسرائيل. وقد أظهرت هذه الهجمات قدرة حماس على تسليح نفسها على الرغم من الحصار الذي فرضته إسرائيل ومصر منذ انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005. وقد عانى السكان الفلسطينيون بشدة نتيجة لهذا الوضع. في الوقت نفسه، يشير نمط العنف، بما في ذلك الادعاء الإسرائيلي بإنشاء مناطق آمنة وإيهام المجتمع الدولي بتقديم المساعدات الإنسانية، إلى وجود محاولة على زيادة الضرر الذي يلحق بالمدنيين واستهدافهم المنهجي. كما تُظهر أرقام الضحايا اتجاهاً تصاعدياً في القتل والإصابات مع تقدم الصراع. وتُظهر تقارير الأمم المتحدة في ذروة الصراع أن المساعدات الإنسانية كانت أقل بكثير من الكمية اللازمة التي يحتاجها السكان الفلسطينيين المدنيين. عند تصور الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، من الضروري أيضاً إدراك الأوضاع المتميزة للفلسطينيين عبر المواقع الجغرافية المختلفة، حيث تختلف تجاربهم في غزة والضفة الغربية وإسرائيل ومجتمعات الشتات بشكل كبير. تحت الحصار المفروض من قبل كل من إسرائيل ومصر منذ عام 2007، واجهت غزة تحديات اقتصادية قاسية وفقراً مدقعاً. ورغم أن الحصار أثّر بشدة على حياة المدنيين، إلا أن تطبيقه جاء عقب انسحاب إسرائيل من المستوطنات والوجود العسكري عام 2005، وسيطرة حماس التي لا تعترف بدولة إسرائيل على غزة. يحاول الإسرائيليين ترويج رواية أن الدعم الإيراني لحماس يُعقّد ادعاءات الإبادة الجماعية، ويوحي بدلاً من ذلك بحرب غير متكافئة بين طرفين لهما مطالب إقليمية متضاربة، لكن الأحداث التاريخية لهذا الصراع تُشير إلى أنه صراع بين أصحاب الأرض الأصليين وهم الفلسطينيين مع المستعمرين القتلة وهم الصهاينة. إن كون اختلاف وضع الفلسطينيين اختلافاً ملحوظاً في مختلف أنحاء المنطقة. لا يتعارض ولا ينفي فكرة اعتبار العدوان الإسرائيلي على غزة هو إبادة جماعية. ففي الضفة الغربية، يعيش الفلسطينيون في ظل نظام هجين، حيث تُدير السلطة الفلسطينية الشؤون المدنية بينما يحتفظ الجيش الإسرائيلي بالسيطرة الأمنية. هنا، أدى التوسع الاستيطاني والجدار العازل إلى تجزئة الأراضي الفلسطينية. وقد دفع هذا العديد من المنظمات الدولية إلى تصنيف الوضع على أنه نظام فصل عنصري، مع أن الحكومة الإسرائيلية تُصر على أن أفعالها في الضفة الغربية "أمنية". ومع ذلك، داخل إسرائيل نفسها، يعيش المواطنون العرب واقعاً مختلفاً، إذ رغم أنهم يتمتعون بحقوق قانونية تشمل التصويت والتمثيل في الكنيست، بينما يواجهون تمييزاً عنصرياً عرقياً ودينياً مستمراً. هذا الواقع لا يجعل من الصعب وصف ما يحدث في غزة بالإبادة الجماعية، إذ يقول أصدقاء إسرائيل يبدو أنه لا توجد محاولة من هذا القبيل للقضاء على السكان العرب في إسرائيل نفسها، لكن ما يغيب عنهم هو التضييق المنهج الذي يتعرض له المواطنين العرب في إسرائيل الذين يُعتبرون مواطنين درجة ثانية.
وفي الوقت نفسه، يواجه اللاجئون الفلسطينيون وأحفادهم في الدول العربية المجاورة تهميشاً وتمييزاً كبيرين على الرغم من دفاع هذه الدول الصريح عن "حق العودة" في المحافل الدولية. تُظهر سياسات المواطنة المثيرة للجدل في الأردن، والقيود التي تفرضها سوريا على ملكية الفلسطينيين وحقوقهم في التصويت، ورفض مصر قبول اللاجئين الفلسطينيين، كيف أن هذه الدول، على الرغم من أنها تدعي الدفاع عن القضية الفلسطينية، قد ساهمت في استمرار معاناة الفلسطينيين. وبالتالي، يجب فهم الأزمة الإنسانية القاسية التي يواجهها الفلسطينيون ضمن سياق إقليمي أوسع. وبالرغم من أن إسرائيل تُعدّ إحدى القوى العديدة التي تُشكّل حياة الفلسطينيين، إلا أنها الطرف الوحيد الذي يعمل على طرد ما تبقى من السكان الفلسطينيين من أراضيهم عبر المصادرة غير القانونية، وعبر بناء المزيد من المستوطنات التي تبتلع المزيد من الأراضي الفلسطينية. وإن لم ينجح مخطط طرد وتهجير الفلسطينيين فإن إسرائيل مستعدة لإبادتهم قتلاً وتجويعاً وحرقاً. إن تعقيد التجارب الفلسطينية في مختلف الأراضي يُشكّل تحدياً للأطر التبسيطية مثل الفصل العنصري أو الإبادة الجماعية. في حين أن تفاوت مستويات السيطرة الإسرائيلية وديناميكيات الأمن المُتميّزة يجعل من الصعب وضع توصيف مُوحّد، يُقدّم القانون الإنساني الدولي معايير أوضح لتحليل العدوان على غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. لا يُجسّد هذا الصراع حرباً غير متكافئة بين دولة مارقة وجماعات من المقاومة المسلحة فقط، بل هو عدوان همجي من قبل دولة تعاني فائض القوة، حيث لا احترام لمبادئ الضرورة العسكرية والتناسب وحماية المدنيين، ولا أهمية لأرواح البشر.
مشهد جيوسياسي سريع التغير في جوهره، يظل هذا صراعاً وطنياً على أرض ذات أهمية تاريخية ودينية عميقة للشعب الفلسطيني. تمثل الأرض بالنسبة للفلسطينيين هوية ثقافية ووطنية راسخة بعمق، وأراضي إسرائيل والضفة الغربية وغزة هي أماكن ذات صلة أجداد عميقة. إن التهجير الذي حدث أثناء تأسيس إسرائيل عام 1948، والاحتلال الذي أعقب حرب الأيام الستة عام 1967، والطموح إلى المطالبة بالسيادة على الأراضي المفقودة هو أمر أساسي في السرد الوطني الفلسطيني. ينبع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من مطالبات قومية متنافسة على نفس الأرض، تُعقّدها الأهمية العرقية والدينية لتلك الأرض. والفصل العنصري الأمني الذي تكشّف هناك على مدى عقود لهو شبيه تماماً بالإبادات الجماعية التاريخية التي شملت إبادة عرقية ممنهجة، وهو تماماً يتطابق مع نظام الفصل العنصري الذي سيطرت من خلاله أقلية عرقية صغيرة على مساحات شاسعة. مع إدراكنا لحجم وعمق الأزمة الإنسانية التي يعيشها شعبنا الفلسطيني، وعدم تكافؤ القوة في هذه المواجهة، يجب علينا أيضاً الإقرار بأن تعقيد الوضع يتجاوز إطار الإبادة الجماعية والفصل العنصري. فاللغة التي نستخدمها لوصف العالم من حولنا مهمة، والوضع في غزة أكثر تعقيداً وتوحشاً مما توحي به مصطلحات مثل الإبادة الجماعية، والفصل العنصري. إن فهم هذه الفروق الدقيقة حول التطلعات الإقليمية والقومية المتنافسة أمرٌ بالغ الأهمية لتطوير حلول مجدية يمكن أن تحظى بدعم إسرائيلي وفلسطيني واسع. كما أن وجود أطر خاصة بكل سياق، تعالج الآثار القانونية والإنسانية للحصار المطول والأعمال العسكرية في المناطق المكتظة بالسكان. إن نظرتنا إلى الوضع الكارثي في غزة، واللغة التي نستخدمها لوصفه، تكتسي أهمية خاصة الآن، في ظل مشهد جيوسياسي سريع التغير.
ما وراء الفصل العنصري في إسرائيل اكتسب الفصل العنصري - كتشبيه، كتصنيف قانوني، كأداة حاسمة - شعبيةً في السنوات الأخيرة لوصف آليات سيطرة إسرائيل على فلسطين. وبدرجات متفاوتة، في جميع أنحاء المنطقة التي تسيطر عليها إسرائيل حاليًا (القدس، الضفة الغربية، غزة، وإسرائيل نفسها)، يعاني الفلسطينيون من عزلة اقتصادية واجتماعية، وتهميش في أسواق العمل، واستبعاد من الحماية القانونية، وإغلاق أبواب أراضي أجدادهم، وحرمان من حقوق التعليم والرعاية الصحية. تُشكّل مجموعةٌ هائلةٌ من الأدلة على هذه المواقع وغيرها من مواقع الفصل العنصري في فلسطين وإسرائيل أساسَ وصف الفصل العنصري الذي تُقدّمه مجموعةٌ متناميةٌ من الأصوات، من منظمات حقوق الإنسان إلى الباحثين والصحفيين، وحتى بعض السياسيين الرئيسيين مثل منظمة العفو الدولية. ومع ذلك، فإنّ الفصل العنصري ليس وصفاً عضوياً؛ بل يكتسب وزناً من الأطر القانونية الدولية. يُعرّف نظام روما الأساسي لعام 1998 (المادة 7)، الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية، الفصل العنصري بأنه مصطلحٌ عامٌ لـ "نظامٍ مؤسسيٍّ من القمع والهيمنة المنهجية من قِبَل جماعةٍ عرقيةٍ واحدةٍ على أي جماعةٍ أخرى". يستمدّ هذا التعريف شرعيته، إلى حدٍّ كبير، من مصطلحٍ أفريكانيٍّ جغرافيٍّ تاريخيٍّ ـ مصطلح يُستخدم للإشارة إلى مجموعة عرقية وثقافية في جنوب إفريقيا تُعرف باسم الأفريكانيين (Afrikaners) وهم في الغالب من نسل المستوطنين الهولنديين، الفرنسيين، والألمان الذين استقروا في منطقة الكيب منذ القرن السابع عشر. لا تتوافق خصوصية وشرعية هذا التعريف ـ كما ندّعي ـ مع سيطرة إسرائيل على الأرض والشعب الفلسطيني. وهذا، إن لزم الأمر، لا يقترب من معالجة الهجوم الإبادي المستمر على شعب غزة معالجةً وافية. لا ننكر الإمكانات الاستراتيجية لوصف إسرائيل كدولة فصل عنصري، لكننا هنا تُبرز عيوبها التي، في أسوأ الأحوال، تُصرف الانتباه عن مظاهر القوة الاستعمارية في فلسطين التي تتجاوز بكثير الفصل العنصري. نؤكد أن الفصل العنصري ليس دلالة كافية على الوجود الاستعماري الإسرائيلي في فلسطين، وهذا قد يُحد من النقد والممارسة السياسية. تمتد جذور هذه الحجة إلى ما قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لكنها تعززت منذ ذلك الحين: حرب إسرائيل على غزة إبادة جماعية ـ ألبانيز، 2024؛ مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، 2024 ـ وأبعاد العنف الاستعماري المُمارس فيها تتجاوز بكثير معايير الفصل العنصري. نستعرض الاختلافات التجريبية الجوهرية بين جنوب إفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري وإسرائيل، قبل أن نتناول كيف تُمزّق الحرب الحالية على غزة الانتقادات الموجهة للاستعمار الإسرائيلي، والتي تُركّز على نظام الفصل العنصري. تنطلق الفكرة من ضرورة مُسيّسة للنظر إلى ما وراء استخدام مصطلح "الفصل العنصري" في انتقاداتنا لجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في فلسطين. نقطة الانطلاق هي تجذّر المصطلح في سياق تاريخي ومكاني مُحدّد. يُشتقّ مصطلح "الفصل العنصري" - وهو كلمة أفريكانية تعني "التنمية المنفصلة" - من مشروع دولة جنوب إفريقيا الذي جمع بين سلب السود أراضيهم والاستغلال المنهجي للعمالة السوداء بين عامي 1948 و1994. قُسّم جنوب إفريقيا إلى مساحات بيضاء شاسعة، ومساحات سوداء مُجزّأة وفقيرة، بهدف تعزيز المشاريع السياسية والاقتصادية لحكام الأقلية البيضاء. عُزِلت الأغلبية السوداء في بلدات على أطراف المدن البيضاء وفي محميات عمالية ريفية معزولة، شملت البانتوستانات ـ وهي مناطق يسكنها السود ومعزولة عن أماكن إقامة البيض ـ شبه المستقلة والفقيرة التي كانت موطناً لـ 3.5 مليون أفريقي أسود. اعتمدت دولة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا على الهجرة المؤقتة للعمال السود لخدمة الاقتصاد الذي يسيطر عليه البيض، لذلك بينما كان المجتمع منقسماً قانونياً، ظلت المجتمعات الحصرية عرقياً دائماً مترابطة بشكل وثيق ضمن تسلسل هرمي طبقي. كانت أجور العمال السود ربع أجور العمال البيض في قطاع التصنيع، وأقل بعشرين مرة في قطاع التعدين. كان السكان السود مستبعدين اقتصادياً واجتماعياً بطرق أخرى. على سبيل المثال، خضعت حركة السود إلى جنوب إفريقيا (أي جنوب إفريقيا البيضاء) لتنظيم صارم؛ وحُظرت ملكية الأراضي والمشاركة السياسية؛ وحُظرت العلاقات الجنسية بين الأعراق. باختصار، كان الفصل العنصري سياسة رسمية أدت إلى اختلافات كبيرة في نتائج سبل العيش بين السكان السود والبيض.
تكرار المظالم في فلسطين يُعد الفصل العنصري، كنظام جغرافي اقتصادي استغلالي في جنوب إفريقيا، فريداً من نوعه تاريخياً، تتكرر مظالمه في فلسطين. ومن المؤكد أن كلاً من الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وإخضاع الفلسطينيين للعنف الاستعماري ينطويان على أنظمة تحكم تُركز على الإقصاء المكاني. بالرغم من الاختلافات بين هاتين الحالتين في رسم خرائط نزع الملكية. فعلى مستوى أساسي، تمتد جنوب إفريقيا إلى 1.22 مليون كيلومتر مربع، بينما تغطي فلسطين وإسرائيل 26,790 كيلومترًا مربعًا فقط (وهي مساحة أصغر بـ 45 مرة من جنوب أفريقيا). قد تبدو هذه نقطة تبسيطية للجغرافيين، إلا أن اتساع جنوب أفريقيا يُبرز علاقات مختلفة جوهرياً بين القامع والمقهور. إن العلاقات المُعسكرة ونقاط الضعف لدى الفلسطينيين في القدس والخليل، على سبيل المثال، ستكون غير قابلة للتمييز من قِبل سكان البانتوستانات في جنوب إفريقيا. تتميز كلتا المنطقتين بالتجزئة المكانية التي تُقيد السكان المُستعمَرين، لكن المساحة البيضاء في جنوب إفريقيا كانت ببساطة واسعة جداً، وسكانها قليلون جداً، مما جعل مشروع بناء الجدران والأسوار - كما نراه في فلسطين - ممكنًا. في جنوب إفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري، لم تكن الحركة مُنظمة من خلال ضوابط الحدود، بل من خلال نظام دفاتر المرور والشرطة الداخلية في المناطق. في ظل النظام المكاني الإسرائيلي، يخضع الفلسطينيون من جميع المناطق، وخاصةً الضفة الغربية وغزة، لحدود صارمة وإغلاق، حيث تُقسّم جدران الفصل المدرعة ونقاط التفتيش المتطورة مجتمعاتهم وتُنظّم حركتهم بإحكام. تتزامن هذه الاختلافات المكانية مع ديناميكيات زمنية حاسمة. فبينما يقطع العمال السود مسافات طويلة للعمل لشهور وسنوات في الاقتصاد الأبيض في جنوب إفريقيا دون العودة إلى منازل عائلاتهم، فإن العمالة الفلسطينية عبر الحدود (عادةً من الضفة الغربية) تُبنى على التنقل اليومي بتصاريح عسكرية تحظر المبيت في إسرائيل أو القدس الشرقية. وقد تم الحفاظ على قدرة جنوب إفريقيا السوداء على العمل من خلال شبكة من نُزُل أصحاب العمل والعيادات الحكومية، والتي، على الرغم من بدائيتها وفصلها العنصري الصارم، وفرت الحد الأدنى من المعايير الاجتماعية. يُعامل العمال الفلسطينيون (وخاصةً في الضفة الغربية) في الاقتصاد الإسرائيلي على أنهم سلعٌ قابلة للاستهلاك، مع توفيرٍ ضئيلٍ أو معدومٍ لإعادة إنتاج القوى العاملة. تُعيد إسرائيل إنتاج الواقع الاقتصادي للاستغلال الجماعي في ظل نظام الفصل العنصري. كانت المصانع والمزارع والمناجم في جنوب إفريقيا تعتمد كلياً على العمال السود، في حين أن الإغلاق الإسرائيلي للأراضي منذ عام 1948 قد انطوى على تقليلٍ متعمدٍ للاعتماد على العمالة الفلسطينية. لذا، فبينما توجد بعض أوجه التشابه التحليلية في نماذج التهجير والاستعمار الاستيطاني، وبالتالي التوافق مع نظام روما الأساسي المُشتق من جنوب إفريقيا، فإن الاستغلال العنصري الشامل الذي كان يُمثل الجانب الأساسي الآخر لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا هو جزءٌ من الاقتصاد السياسي لإسرائيل المعاصرة.
مرحلةً جديدةً في النكبة الآن، وبعد أن انخرطت إسرائيل في حرب إبادة جماعية - حربٌ يجب أن نعتبرها أيضاً ليس انقطاعًاً في التاريخ، بل مرحلةً جديدةً في النكبة المستمرة - يفقد وصف الفصل العنصري معناه التجريبي والنقدي. لقد انتقلت السيطرة الإسرائيلية في فلسطين بالكامل من أسلوب سلبٍ يُحاكي الفصل العنصري التاريخي إلى أعمال حرب تتجاوز العنف السياسي الذي مارسته دولة جنوب إفريقيا. هذا لا يعني افتراض وجود تسلسل هرمي للفظائع، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن 65 ألف قتيل في غزة خلال الأشهر الماضية - بالإضافة إلى آلاف الجرحى والمفقودين - يفوق بكثير أعظم لحظة عنف في جنوب إفريقيا في عهد الفصل العنصري، وهي انتفاضة سويتو عام 1976 التي أدت إلى مقتل ما يُقدر بنحو 700 شخص. خلال عقود الفصل العنصري في جنوب أفريقيا (1948-1989)، لم تُستخدم الطائرات المقاتلة والمدفعية بشكل روتيني ضد السود في جنوب أفريقيا؛ ولم يُقصفوا قط؛ ولم تُدمر مستشفياتهم ومدارسهم؛ ولم تُستنزف ظروف معيشتهم بشكل واضح. ودون تبرير "الشر الأهون"، يُبرز هذا فرقاً جوهرياً بين نظامين ليسا متباعدين من حيث المكان والزمان فحسب، بل أيضاً من حيث منطق العنف السياسي ووسائله ومداه. فبالرغم من جميع مساوئ الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وجميع احتمالات الفصل العنصري، كما هو مُعرّف في القانون الدولي، والموجودة خارج السياق الجنوب أفريقي، إلا أن شيئًا آخر غير أسوأ من الفصل العنصري، أو يتجاوزه، يعمل في فلسطين - في هذه الحالة، حملة الإبادة الجماعية الإسرائيلية لفصل الشعب عن الأرض عبر القتل المُستهدف عرقياً. إن إخضاع شريط من الأرض بطول 41 كيلومتراً لعامين من القصف العنيف يتطلب أكثر من مجرد نظام فصل عنصري. من الناحية القانونية، تُعتبر إسرائيل دولة فصل عنصري، ولكن هناك ما هو أكثر بكثير من مجرد فصل عنصري جيو-اقتصادي يسد طريق التحرير الفلسطيني. بينما يكمن أساس التوقع المستقبلي - سواءً ضمنياً أو صريحاً - في أن "الأمل الذي تحمله جنوب إفريقيا هو أنه عندما يتوصل الإسرائيليون والفلسطينيون أخيرًا إلى أن الانفصال غير قابل للتحقيق، فسيكون هناك مثال على بديل للصراع الدائم" يجب أن نتذكر أنه لا يمكن اعتبار جنوب إفريقيا ما بعد الفصل العنصري نموذجاً للتحرر من الاستعمار. وكما نعلم الآن، فإن التعددية الشاملة لـ"أمة قوس قزح" لم تتحقق: إذ لا يزال إرث الفصل العنصري قائماً في أوجه عدم المساواة العنصرية العميقة التي تميز جنوب إفريقيا الحديثة. ولا ينبغي أن تُتاح فرص الخلاص التي تُتيحها عمليات الحقيقة والمصالحة - على الأقل ليس للسياسيين والجنرالات الذين دبروا الحرب على غزة. إن المصير الوحيد المُناسب لهؤلاء المُحرضين هو المحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. إن إبراز تهمة الفصل العنصري يُثير احتمالية عواقب أقل وطأة، وتخفيف ذنب حكومة الحرب الإسرائيلية، وفتح الطريق أمام التقاعد الانعزالي بدلاً من العدالة الحقيقية. ولا يخلو الأمر من ذكر أن هذا تحديداً ما سعى المحامون ذوو الأصول الجنوب أفريقية في الغالب إلى تجنبه في محكمة العدل الدولية بدعوى إسرائيل إلى الرد على قضية نية الإبادة الجماعية. إنهم يرون، ببعض المعرفة السياقية والتجريبية، ما وراء مسائل الفصل العنصري والتنمية المنفصلة.
#حسن_العاصي (هاشتاغ)
Hassan_Assi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الذاكرة العربية والقضية الفلسطينية: تفكيك المواقف وتحرير الس
...
-
الغائب الذي لا يغيب: قراءة في رمزية البرغوثي السياسية
-
من الرباط إلى القدس: سرديات الدعم المغربي للقضية الفلسطينية
-
العبودية الفكرية.. ثقافة الخنوع
-
الاشتراكية الاستبدادية.. تسلط معاصر
-
الصورولوجيا والكوزموبوليتانية
-
هل البرتقال في أوروبا ألذ مذاقاً؟
-
المثقفون العرب زنادقة العصر
-
الأقليات والدولة في العالم العربي.. التداعيات والاعتبارات ال
...
-
الأقليات في الشرق الأوسط بين الاعتراف والإنكار
-
غزة: اختبارٌ لتسامح الرأي العام مع مستويات القتل والدمار.. ت
...
-
موت الصحفيون في غزة جوعاً.. انهيار قواعد القانون الدولي
-
الجثث المُحتجزة ومقابر الأرقام.. إسرائيل ترتهن جثامين الفلسط
...
-
الأقليات المدمجة في الشرق الأوسط
-
التعددية الثقافية والتصنيف الثلاثي للأقليات في العالم العربي
-
مآلات التوحش الإسرائيلي وعجز السلطة
-
العرب وفلسطين.. مسيرة هزائم.. تخاذل أم تواطؤ؟
-
في فقه المناصرة والدفاع عن العلم
-
قواعد الاستبداد لإخضاع العباد
-
النفاق الإنساني وازدواجية المعايير والقانون في غزة
المزيد.....
-
الهند تواجه واحدة من أعلى الرسوم الجمركية الأمريكية بالعالم.
...
-
جيل غزة بين الدمار والحرمان من التعليم.. ماذا تقول الأرقام ا
...
-
روسيا تعلن رفضها لنشر قوات أوروبية في أوكرانيا وتستبعد عقد ل
...
-
الدنمارك تواجه -مخططًا سريًا- لترامب في غرينلاند.. كيف تصدت
...
-
زيارة قادة ألمانيا وفرنسا وبولندا لمولدوفا دعما لها ضد روسيا
...
-
قرار ترامب مضاعفة الرسوم الجمركية على الهند إلى 50 في المئة
...
-
مناصرو حزب الله يحتجون على زيارة توم براك للجنوب
-
ضغط شعبي يقوده ترامب يدفع سلسلة مطاعم أميركية للتراجع عن تغي
...
-
باحثو جامعة حمد بن خليفة يرسمون آفاقًا جديدة في علم الوراثة
...
-
الاحتلال يوسع هجماته على مدينة غزة ويدعو إلى إخلائها
المزيد.....
-
البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية
/ سعيد مضيه
-
فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع
/ سعيد مضيه
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ااختلاق تاريخ إسرائيل القديمة
/ سعيد مضيه
-
اختلاق تاريخ إسرائيل القديمة
/ سعيد مضيه
-
رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني
/ سعيد مضيه
-
تمزيق الأقنعة التنكرية -3
/ سعيد مضيه
-
لتمزيق الأقنعة التنكرية عن الكيان الصهيو امبريالي
/ سعيد مضيه
-
ثلاثة وخمسين عاما على استشهاد الأديب المبدع والقائد المفكر غ
...
/ غازي الصوراني
المزيد.....
|