|
الذاكرة العربية والقضية الفلسطينية: تفكيك المواقف وتحرير السرد
حسن العاصي
باحث وكاتب
(Hassan Assi)
الحوار المتمدن-العدد: 8444 - 2025 / 8 / 24 - 15:36
المحور:
القضية الفلسطينية
ليس من السهل أن تكتب كفلسطيني عن العرب دون أن تُتهم. فالموضوعان محمّلان بتاريخ من الألم، ومن الشعارات، ومن التوظيف السياسي الذي يجعل كل محاولة للفهم تُقرأ كخيانة، وكل تفكيك يُفهم كتبرير، وكل اختلاف يُختزل في مصلحة شخصية. وصلني مؤخراً ردٌ غاضب من مثقف وأديب عربي على مقال كتبته، لا يناقش الفكرة، بل يهاجم النية. يقول صاحبه: "نحن البلد العربي الوحيد الذي ظل دوما إلى جانب فلسطين والفلسطينيين في مأساتهم المتواصلة ". وبعد عدة جولات من المراسلات تضمنت هجوماً منه بنبرة عكست موقفاً انفعالياً أكثر من كونه نقداً موضوعياً. وردود من جانبي كان هدفها تأكيد موقفي، احترام الحوار، وتوضيح منهجي الأكاديمي بصورة متزنة، قوية، وراقية، دون الانجرار إلى الاستفزاز أو رد الفعل العاطفي. وأخيراً أغلق أديبنا الباب: "هذا ردي الأخير". لا حجة، لا تفنيد، لا مساءلة. فقط حكم، ثم انسحاب. لكنني لا أكتب لأقنع هذا النوع من القرّاء. أكتب لأدافع عن حق التفكير خارج القطيع، وعن حق المثقف في أن يُعيد ترتيب الأسئلة، لا أن يُردد الإجابات.
من يملك سردية الدعم؟ تفكيك خطاب "نحن فقط من دعمنا فلسطين الفلسفة لا تُدين النوايا، بل تُفكك الخطاب. في كتابه "اللامنتمي"، يقول كولن ويلسون إن المثقف الحقيقي هو من يختار العزلة الفكرية على أن يكون جزءًا من جماعة تُفكر له. وفي "ما الفلسفة؟"، يؤكد دولوز أن الفيلسوف لا يُعطي أجوبة، بل يُنتج مفاهيم. أنا لا أبرّر لأي جهة، بل أُنتج مفاهيم جديدة لفهم علاقة العرب بفلسطين خارج ثنائية "الولاء أو الخيانة". أُعيد قراءة التاريخ لا لأدافع عن أحد، بل لأكشف كيف يُستخدم التاريخ نفسه كأداة إلغاء. التاريخ لا يُقرأ بالعاطفة. حين نُراجع علاقة العرب بفلسطين، لا يمكن أن نغفل عن تعقيدات الجغرافيا السياسية، ولا عن التحولات التي طرأت على مفهوم "القضية" نفسها. من مؤتمر الرباط 1974 إلى اتفاقيات أوسلو، ومن دعم المقاومة إلى التطبيع، كل مرحلة تحمل تناقضاتها، ولا يمكن اختزالها في موقف واحد. في التاريخ، لا توجد براءة مطلقة، ولا خيانة مطلقة. توجد مصالح، وسياقات، وتحولات. والمثقف لا يُدين، بل يُفسّر. إذن لماذا يُرفض التعقيد في الخطاب العربي؟ لأننا نُحب الوضوح، حتى لو كان زائفاً. نُفضل أن نقول "كل من يكتب عن فلسطين يجب أن يكون معنا"، لا أن نسأل: "ما الذي تغيّر؟ وما الذي يجب أن نُعيد التفكير فيه؟" الرفض الذي واجهته ليس رفضاً للمقال، بل رفض لفكرة أن المقال يمكن أن يُكتب أصلاً. إنه رفض لحق التفكير، وحق التفكيك، وحق المثقف في أن يكون خارج الاصطفاف. في فكرة الدفاع عن المثقف المستقل، أنا لا أطلب اتفاقاً، بل أطلب قراءة. لا أطلب تصفيقاً، بل مساءلة. لا أطلب أن تُحبني، بل أن تحترم حقي في أن أُفكر. وإذا كان ما كتبته يُزعج، فذلك لأنه يُزعزع. وإذا كان يُرفض، فذلك لأنه يُفكك. وإذا كان يُتهم، فذلك لأنه لا يُجامل. هذا ليس دفاعًا عن الذات، بل دفاع عن الفكرة. عن حق الكتابة دون وصاية. عن حق المثقف في أن يُزعج، لا أن يُرضي.
بين السردية والوجدان: كيف أقرأ مواقف العرب من فلسطين؟ في كل مرة أكتب فيها عن بلد عربي ما، وأتناول علاقته التاريخية أو الوجدانية بالقضية الفلسطينية، أجد نفسي في مواجهة سيل من العتب، وأحياناً الاتهام، من بعض الأصدقاء المثقفين العرب، من مشرق العالم العربي ومغربه. يتساءلون: لماذا امتدحت هذا البلد دون ذاك؟ لماذا لم تذكر أن بلدي هو الوحيد الذي ظل وفياً لفلسطين؟ ولماذا تجاهلت مواقف حكومتي أو شعبي؟ بل يصل الأمر أحياناً إلى التشكيك في النوايا، وكأنني أوزّع شهادات حسن سلوك على الدول، أو أمارس نوعاً من التفضيل السياسي. لكن الحقيقة أبسط من ذلك، وأكثر تعقيداً في آنٍ واحد. فالمقالة التي تتناول علاقة بلد ما بفلسطين ليست بياناً سياسياً، ولا تصنيفاً أخلاقياً، بل هي قراءة سردية تحليلية، تستند إلى معايير ثقافية وتاريخية وشعبية، وتُحاول أن تفكك العلاقة بين الوعي الجمعي العربي والقضية الفلسطينية، بعيدًا عن منطق التنافس أو التقييم. إنني لا أكتب من موقع الحكم، بل من موقع الرصد. لا أُصدر أحكاماً نهائية، بل أُضيء على لحظة وجدانية أو ثقافية، كما تجلّت في موقف شعبي، أو مبادرة مدنية، أو تعبير فني، أو موقف ديني. فالقضية الفلسطينية، في وجدان العرب، ليست مجرد ملف سياسي، بل مرآة للضمير الجمعي، تتجلى في تفاصيل الحياة اليومية، وتُعبّر عن نفسها بطرق متعددة، لا يمكن حصرها في موقف رسمي أو حدث إعلامي. الكتابة عن هذه المواقف تتطلب حساسية عالية، لأن فلسطين ليست قضية محايدة، بل قضية مشحونة بالعاطفة، بالتاريخ، وبالرمزية. وكل بلد عربي يحمل سرديته الخاصة، التي تتداخل فيها السياسة بالثقافة، والدولة بالمجتمع، والذاكرة بالراهن. لذلك، فإن تسليط الضوء على سردية معينة لا يعني تفضيلاً، بل هو اختيار معرفي، تحكمه اللحظة، والسياق، والهدف التحليلي. إنني أُدرك أن لكل بلد عربي ما يُقال في حقه، وما يُعتب عليه، وأن المثقفين العرب يحملون حساسية عالية تجاه تمثيل بلدانهم في الخطاب الفلسطيني. لكنني أُحاول أن أكتب بما يُنصف التجربة، لا بما يُرضي الجميع، وأن أُعيد الاعتبار للوجدان الشعبي، لا أن أُعيد إنتاج الخطاب الرسمي. فالقضية الفلسطينية، في نهاية المطاف، لا تحتاج إلى منافسة في الوفاء، بل إلى تعدد في السرديات، يُغنيها ولا يُقسّمها، ويُعيد تشكيلها كقضية عربية جامعة، لا كأداة لتأكيد الذات الوطنية أو لتسجيل النقاط الرمزية. ليست مدائح بل سرديات تحليلية: من التمجيد إلى التفكيك الثقافي ما أكتبه لا يندرج ضمن خطاب المدح أو الترويج، ولا يُراد منه صناعة بطولات أو توزيع شهادات شكر. بل هو محاولة واعية لتوثيق سردية دعم، كما تجلّت في الثقافة، في الشارع، في الخطاب، وفي الذاكرة الجمعية. إنني لا أكتب لأُرضي أحداً، بل لأُضيء على لحظات التفاعل الصادقة، تلك التي خرجت من الناس لا من غرف القرار، من الحناجر لا من البيانات، من القصائد لا من المؤتمرات. حين أكتب عن المغرب، أو الجزائر، أو تونس، أو العراق، أو الكويت، أو اليمن، أو أي بلد عربي، فإنني لا أُصدر حكماً نهائياً، ولا أُقارن بين التجارب، بل أستعرض لحظة وجدانية أو ثقافية من لحظات التفاعل مع فلسطين، كما عبّر عنها الناس، لا كما قرّرتها السياسات. فالمعيار هنا ليس حجم الدعم الرسمي، بل عمق الحضور الشعبي، وصدق التعبير، واستمرارية الارتباط. في هذا السياق، لا يمكن تجاهل أن فلسطين ليست قضية سياسية فقط، بل قضية وجدانية، تتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية، في الأغاني التي تُغنّى في الأعراس، في الشعر الذي يُكتب في دفاتر المدارس، في أسماء الأطفال الذين يُسمّون "فارس" و"قدس"، في خطب الجمعة التي تُلهب القلوب، في المظاهرات التي تخرج رغم المنع، وفي التبرعات التي تُجمع رغم الفقر. هذه التعبيرات لا تُقاس بالأرقام، بل تُقرأ كـعلامات وجدانية تُشكّل ما يمكن تسميته بـ"الوجدان الفلسطيني في الوعي العربي". هذا الوجدان ليس ثابتاً، بل متحوّل، يتأثر بالسياقات السياسية والاجتماعية، لكنه يظل حاضراً، يُعيد إنتاج نفسه في كل جيل، ويُقاوم النسيان. وهو ما أحاول رصده وتحليله، لا بوصفه حالة رومانسية، بل كـظاهرة ثقافية واجتماعية تستحق التفكيك والدراسة. فالتضامن مع فلسطين لا يُختزل في الشعارات، بل يُقاس بمدى حضورها في تفاصيل الحياة، في المخيال الجمعي، وفي اللغة اليومية. إن الكتابة عن هذه السرديات ليست مجاملة، بل مسؤولية معرفية، تتطلب من الكاتب أن يُنقّب في العمق، أن يُعيد الاعتبار للهامش، أن يُوثّق ما يُقال في الزوايا المنسية، وأن يُعيد تشكيل صورة فلسطين كما يراها الناس، لا كما تُرسم في نشرات الأخبار.
معايير القراءة: بين الرسمي والشعبي — تفكيك الخطاب واستعادة الوجدان حين أكتب عن بلد عربي ما، فإنني لا أكتفي بتفحّص الموقف الرسمي، بل أُصغي إلى نبض الشارع، إلى ما يُقال في المقاهي، وما يُكتب في القصائد، وما يُرفع في المسيرات، وما يُتلى في خطب الجمعة. إن منهج القراءة الذي أتبعه يقوم على التمييز الواعي بين السلطة والناس، بين القرار السياسي والحس الجمعي، بين ما يُقال في البيانات، وما يُحسّ في القلوب. الحكومات قد تتخذ قرارات سياسية تخضع لحسابات معقدة، منها التطبيع، أو الحياد، أو التردد، وكل ذلك يُفهم ضمن سياقات السيادة والمصالح. لكن هذا لا يعني أن شعوبها فقدت بوصلتها، أو أن المثقفين فيها توقفوا عن الكتابة، أو أن المساجد فيها كفّت عن الدعاء لفلسطين. فهناك دائمًا مسافة بين الدولة والمجتمع، بين ما يُفرض وما يُؤمن به، بين ما يُعلن وما يُكتم. لذلك، فإن معاييري لا تنطلق من تقييم السياسات الرسمية فقط، بل من رصد التعبير الشعبي والثقافي عن فلسطين. من حجم التضامن، من حضور القضية في الإعلام المحلي، من تفاعل الناس مع الأحداث، من المبادرات المدنية، من المواقف الأدبية والفنية، من حضور فلسطين في الوعي الجماعي، في الأغاني، في الروايات، في الجداريات، وفي الذاكرة اليومية. هذه المعايير تُشكّل ما يمكن تسميته بـالسردية المجتمعية للدعم العربي لفلسطين، وهي تختلف من بلد إلى آخر، ومن لحظة إلى أخرى، لكنها تظل أكثر صدقاً واستمرارية من المواقف الرسمية المتقلبة. فالشعوب لا تُغيّر بوصلتها بسهولة، ولا تُفرّط في وجدانها، حتى لو تغيّرت السياسات أو تبدّلت التحالفات. إن قراءة الموقف الشعبي ليست ترفاً، بل ضرورة لفهم العمق الحقيقي للتضامن، ولتمييزه عن الخطاب الرسمي الذي قد يُستخدم أحياناً لأغراض دعائية أو تكتيكية. فالمثقف، حين يكتب، عليه أن يُنصت إلى الهامش، لا أن يكتفي بالمركز، وأن يُنقّب في الذاكرة، لا أن يُعيد إنتاج الخطاب الرسمي. هذه المعايير تُشكّل ما يمكن تسميته بـالسردية المجتمعية للدعم العربي لفلسطين، وهي تختلف من بلد إلى آخر، ومن لحظة إلى أخرى. فلسطين، في هذا السياق، ليست مجرد قضية سياسية، بل هي مرآة للضمير العربي، تُكشف فيها الفجوة بين السلطة والمجتمع، بين الخطاب والممارسة، بين الادعاء والحقيقة. ومن هنا، فإن الكتابة عنها تتطلب حساسية عالية، ومنهجًا نقديًا، يُنصف الناس، ويُعيد الاعتبار لصوتهم، مهما كان خافتاً أو مهمّشاً.
فلسطين ليست مِلكاً لأحد ولا معيارًا للمزايدة: من التضامن إلى التنافس الرمزي فلسطين، بما تحمله من رمزية إنسانية وتاريخية، ليست بطاقة يُلوّح بها في ساحات التفاخر، ولا مِلكاً حصرياً لأي جهة أو تيار. إنها قضية شعب يسعى إلى الحرية والكرامة، وليست مسرحاً لتصفية الحسابات أو لتسجيل النقاط السياسية. من المؤسف أن تتحول فلسطين أحياناً إلى معيار للمزايدة بين الأشقاء، حيث يُحاول كل طرف أن يُثبت أنه الأكثر وفاءً، والأكثر دعماً، والأكثر تضحية، وكأن القضية أصبحت مرآة لتضخيم الذات الوطنية، لا مساحة للتضامن الإنساني. هذا المنطق التنافسي يُفرغ القضية من بعدها الأخلاقي، ويُحوّلها إلى رمز استهلاكي يُستخدم في الخطاب السياسي والإعلامي، بدل أن تكون منصة للالتقاء والتكامل. فلسطين لا تحتاج إلى من يقول "نحن فقط من دعمناها"، بل إلى من يقول "كلنا وقفنا معها"، كلٌ بطريقته، وكلٌ حسب قدرته، دون إنكار أو إقصاء. حين أكتب عن المغرب، مثلاً، وأتناول دوره في لجنة القدس، أو مظاهراته الشعبية، أو حضوره الثقافي في القضية، لا يعني ذلك أنني أُقلّل من شأن تونس، أو الجزائر، أو سوريا، أو لبنان، أو الخليج. بل يعني أنني أُسلّط الضوء على سردية معينة في لحظة معينة، ضمن سياق معرفي وأخلاقي، لا يُلغي الآخرين، بل يُكملهم. فالتضامن لا يُقاس بالكم، بل بالصدق، ولا يُقارن، بل يُحتفى به. إن تحويل فلسطين إلى معيار للمزايدة يُنتج خطاباً يُقسّم ولا يُوحّد، يُنافس ولا يُناصر، ويُعيد إنتاج الانقسام بدل أن يُعزز الوحدة. المثقف، في هذا السياق، عليه أن يُقاوم هذا المنطق، وأن يُعيد الاعتبار لفلسطين كقضية إنسانية، لا كأداة رمزية تُستخدم لتلميع المواقف أو لتبرير السياسات. فلسطين لا تحتاج إلى من يُزايد باسمها، بل إلى من يُنصت لصوتها، ويُعيد سرد حكايتها بصدق، ويُدافع عنها دون أن يُطالب بثمن أو اعتراف. إنها قضية تُعلّمنا أن التضامن الحقيقي لا يُطلب، بل يُمنح، وأن الوفاء لا يُقاس بالشعارات، بل بالمواقف.
المثقف الفلسطيني بين العاطفة والموضوعية: مسؤولية مزدوجة في زمن الانقسام أن تكون مثقفاً فلسطينياً يعني أن تحمل في داخلك عبء التاريخ وندبة الجغرافيا، وأن تكتب من قلب المأساة لا من هامشها. فالعاطفة ليست خياراً، بل هي جزء من التكوين الوجداني، من الذاكرة الشخصية والجمعية، من تفاصيل النكبة والمنفى والمقاومة. ومع ذلك، فإن المثقف الفلسطيني مطالب بأن يُوازن بين هذه العاطفة الجارفة وبين الانضباط المعرفي، وأن يُنتج خطاباً لا يُستدرج إلى الانفعال، ولا يُختزل في ردود الفعل. الكتابة عن فلسطين ليست تمريناً في الحياد البارد، ولا في الانحياز العاطفي المطلق، بل هي مسؤولية معرفية وأخلاقية مزدوجة. فالمثقف الفلسطيني لا يكتب من خارج الحدث، بل من داخله، وهذا ما يجعل مهمته أكثر تعقيداً. عليه أن يُنصف من وقف، دون أن يُجامل، وأن يُنتقد من خذل، دون أن يُدين بالجملة. عليه أن يُفكك السرديات، لا أن يُعيد إنتاجها، وأن يُضيء على التعدد، لا أن يُسطّح التجارب. أعرف أن بعض المثقفين العرب يشعرون بالخذلان، ويُريدون من الفلسطيني أن يُنصفهم، أن يعترف بدورهم، أن يُشيد بشعبهم. وهذا حقهم، لأن القضية الفلسطينية كانت دائمًا مرآة للضمير العربي، ومقياساً للوفاء. لكن الإنصاف لا يعني أن أكتب عن الجميع في كل مقال، ولا أن أُساوي بين التجارب المختلفة، بل أن أُعطي لكل سردية حقها، في سياقها، وبمنهجها، وبما تسمح به اللحظة التاريخية التي أكتب فيها. المثقف الفلسطيني لا يملك رفاهية الحياد الكامل، لأنه ابن القضية، لكنه أيضاً لا يملك ترف الانحياز المطلق، لأنه ابن المعرفة. عليه أن يُوازن بين الانتماء والموضوعية، بين الوفاء والصرامة، بين الحنين والتحليل. وهذا التوازن ليس سهلاً، بل هو اختبار يومي، يتطلب مراجعة دائمة للذات، وتحريراً مستمراً للخطاب من الانفعالات، ومن الرغبة في الإرضاء أو التبرير. الكتابة عن فلسطين ليست مجاملة، بل هي فعل مقاومة رمزية، يُعيد الاعتبار للحق، ويُعيد ترتيب الأولويات. وهي أيضاً فعل توثيق، يُنقذ الذاكرة من النسيان، ويُحصّنها ضد التزييف. لذلك، فإن المثقف الفلسطيني حين يكتب، لا يكتب فقط عن الأرض، بل عن الإنسان، عن المعنى، عن العدالة، وعن الأمل الذي لا يموت.
دعونا نكتب عن فلسطين لا عن أنفسنا: بين أخلاقيات السرد ومسؤولية الخطاب في لحظة تاريخية تتكاثف فيها الأزمات، وتتشابك فيها الهويات، تصبح الكتابة عن فلسطين اختباراً أخلاقياً ومعرفياً في آنٍ واحد. ليست فلسطين مرآة نُصفّي فيها حساباتنا الأيديولوجية، ولا منصة نُثبت من خلالها ولاءنا الوطني أو السياسي. إن تحويل القضية الفلسطينية إلى أداة رمزية لتأكيد الذات أو لتقريع الآخر، يُفرغها من جوهرها الإنساني، ويُحوّلها من قضية مقاومة إلى ساحة استعراض. الكتابة عن فلسطين يجب أن تكون فعلاً نزيهاً، لا يخضع لمنطق التنافس، ولا ينجرّ وراء رغبة في التميّز أو التفاخر. فالقضية الفلسطينية، بما تحمله من أبعاد إنسانية، أخلاقية، وتاريخية، تتطلب خطابًا يتجاوز الذات، ويُعيد الاعتبار للضحايا، للمقاومين، للمنفيين، وللذاكرة الجمعية التي تشكّلت عبر عقود من النضال والمعاناة. ليس المطلوب من الكاتب أن يُرضي جمهوراً بعينه، ولا أن يُغضب آخر. بل المطلوب أن يُمارس مسؤوليته المعرفية والأخلاقية، وأن يُنتج سردية تُنصف الحقيقة، وتُحترم التعدد، وتُقاوم التبسيط. فكل بلد عربي له تجربته الخاصة في دعم فلسطين، وكل شعب له طريقته في التعبير عن التضامن، سواء في المواقف السياسية، أو الدعم المادي المباشر، أو عبر المظاهرات، أو الفن، أو الخطاب الديني، أو حتى الصمت الذي يُخفي وجعاً لا يُقال. إن سرديات الدعم العربي لفلسطين ليست متجانسة، ولا ينبغي أن تكون كذلك. فالتاريخ لا يُكتب بمنطق التعميم، بل بمنهج التعدد والتفكيك. حين نُسلّط الضوء على تجربة معينة، فإننا لا نُقصي الأخرى، بل نُعطي لكل سردية حقها في الظهور، في سياقها، وبأدواتها. وهذا ما يجعل الكتابة عن فلسطين فعلاً توثيقياً، لا ترويجياً؛ فعلًا مقاوماً، لا استهلاكيًاً الكتابة عن فلسطين هي شكل من أشكال الانتماء، لأنها تُعيد تعريف الهوية العربية في ضوء المأساة والكرامة. وهي شكل من أشكال المقاومة، لأنها تُواجه النسيان، وتُقاوم التطبيع، وتُعيد الاعتبار للحق. وهي أيضاً شكل من أشكال العدالة الرمزية، لأنها تُنصف من وقفوا، بصمت أو بصوت، إلى جانب القضية، دون أن يطلبوا مقابلاً أو اعترافاً. لذلك، دعونا نكتب عن فلسطين لا عن أنفسنا. دعونا نُحرّر الخطاب من الذاتية، ونُعيد توجيه البوصلة نحو الضحية، نحو الأرض، نحو التاريخ الذي لا يزال يُكتب بالدم والدمع. دعونا نُنتج معرفة تُقاوم التزييف، وتُكرّم من وقف، وتُحاور من تردّد، وتُضيء على من نسي، لا لتُدين، بل لتُذكّر. ففلسطين لا تحتاج إلى من يُزايد باسمها، بل إلى من يُنصت لها، ويكتب عنها بصدق، ويُعيد لها مكانتها في الوجدان العربي، لا كرمز، بل كقضية حيّة، نابضة، تستحق أن تُروى، وتُحترم، وتُحفظ في الذاكرة، لا في الشعارات. في النهاية، فلسطين ليست مرآة نُصفّي فيها حساباتنا، ولا منصة نُثبت من خلالها ولاءنا. فلسطين هي قضية إنسانية، أخلاقية، تاريخية، تتطلب منا أن نكتب عنها بصدق، لا بتنافس. أن نُسلّط الضوء على من دعمها، لا أن نُهاجم من كتب عن ذلك الدعم. أنا لا أكتب لأُرضي أحداً، ولا لأُغضب أحداً. أكتب لأنني أؤمن أن الكتابة عن فلسطين هي شكل من أشكال الانتماء والمقاومة والهوية، وأن سرديات الدعم العربي لها تستحق أن تُروى، وتُوثّق، وتُحترم، مهما كانت متباينة.
#حسن_العاصي (هاشتاغ)
Hassan_Assi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الغائب الذي لا يغيب: قراءة في رمزية البرغوثي السياسية
-
من الرباط إلى القدس: سرديات الدعم المغربي للقضية الفلسطينية
-
العبودية الفكرية.. ثقافة الخنوع
-
الاشتراكية الاستبدادية.. تسلط معاصر
-
الصورولوجيا والكوزموبوليتانية
-
هل البرتقال في أوروبا ألذ مذاقاً؟
-
المثقفون العرب زنادقة العصر
-
الأقليات والدولة في العالم العربي.. التداعيات والاعتبارات ال
...
-
الأقليات في الشرق الأوسط بين الاعتراف والإنكار
-
غزة: اختبارٌ لتسامح الرأي العام مع مستويات القتل والدمار.. ت
...
-
موت الصحفيون في غزة جوعاً.. انهيار قواعد القانون الدولي
-
الجثث المُحتجزة ومقابر الأرقام.. إسرائيل ترتهن جثامين الفلسط
...
-
الأقليات المدمجة في الشرق الأوسط
-
التعددية الثقافية والتصنيف الثلاثي للأقليات في العالم العربي
-
مآلات التوحش الإسرائيلي وعجز السلطة
-
العرب وفلسطين.. مسيرة هزائم.. تخاذل أم تواطؤ؟
-
في فقه المناصرة والدفاع عن العلم
-
قواعد الاستبداد لإخضاع العباد
-
النفاق الإنساني وازدواجية المعايير والقانون في غزة
-
الغطرسة العالمية والاستكبار الأمريكي
المزيد.....
-
-تمت السيطرة عليه سريعًا-.. حريق في فيلا محمد صبحي
-
قمة أوكرانيا: هل يمكن لأوروبا الاعتماد على الولايات المتحدة؟
...
-
خبير عسكري: تدمير غزة يتطلب أكثر من عام وسط تحديات إستراتيجي
...
-
الاحتلال يقتلع مئات أشجار الزيتون بالضفة ومئات يقتحمون الأقص
...
-
ساعر: على أوروبا أن تختار بين إسرائيل وحماس
-
كاتب بمعاريف: هذا هو المرض المزمن الذي يهدد إسرائيل
-
النرويج تدعو لبناء تحالفات قوية ضد إسرائيل وترفض تصريحات ساع
...
-
حقيقة فيديو بيان مشيخة عقل الدروز بعد -عزل حكمت الهجري-
-
شاطئ أبو تلات بالإسكندرية: كيف انتهت رحلة تدريب طلاب، بكارثة
...
-
بحضور رئيس الوزراء الكندي.. زيلينسكي في يوم استقلال أوكرانيا
...
المزيد.....
-
البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية
/ سعيد مضيه
-
فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع
/ سعيد مضيه
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ااختلاق تاريخ إسرائيل القديمة
/ سعيد مضيه
-
اختلاق تاريخ إسرائيل القديمة
/ سعيد مضيه
-
رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني
/ سعيد مضيه
-
تمزيق الأقنعة التنكرية -3
/ سعيد مضيه
-
لتمزيق الأقنعة التنكرية عن الكيان الصهيو امبريالي
/ سعيد مضيه
-
ثلاثة وخمسين عاما على استشهاد الأديب المبدع والقائد المفكر غ
...
/ غازي الصوراني
المزيد.....
|