أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - رابح لونيسي - إتفاقيات سيداو وإعادة طرح مسألة الفتاوي الدينية















المزيد.....

إتفاقيات سيداو وإعادة طرح مسألة الفتاوي الدينية


رابح لونيسي
أكاديمي

(Rabah Lounici)


الحوار المتمدن-العدد: 8451 - 2025 / 8 / 31 - 17:04
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


أثيرت في الجزائر مؤخرا بلبلة وجدلا حول إتفاقيات سيداو بعد توقيع الرئيس تبون على مرسوم ينزع تحفظات الجزائر على بعض مواد الإتفاقيات، ومنها حرية تنقل المرأة وإختيار مكان إقامتها، مما أثار حفيظة بعض التيارات الدينية في الجزائر برغم من أن النواب الإسلاميين قد صوتوا على هذه الإتفاقيات في تسعينيات القرن الماضي، فما الذي جعلهم اليوم يعارضون نزع هذه التحفظات بالرغم من أنها واقع معاش في الجزائر، فالمرأة تنتقل، وتختار مكان إقامتها بكل حرية دون أن يثير ذلك أي مشكل، فالمرأة في الجزائر شاركت في الثورة بقوة، وتنتقل وتختلط بالمجاهدين دون أن يرى ذلك أحد أنه غير طبيعي أو مناقض للدين، إضافة إلى عدم وجود أي نصوص دينية في القرآن الكريم او في السنة النبوية تحرم ذلك بإستثناء أقوال بعض الفقهاء المتأثرين بعادات وتقاليد وعوامل أخرى في فتاويهم تلك، ولهذا يبقى موقفهم مجرد رأي لا علاقة له بالدين، وهو ما يدفعنا إلى طرح عدة تساؤلات، وهي لماذا صوت الإسلاميون علي هذه الإتفاقيات آنذاك، ثم يعارضونها اليوم؟، فما الذي تغير؟، فهل هناك محاولة منهم اليوم لإستغلال الدين بهدف إثارة الشعب ضد السلطة في الجزائر؟، ولماذا بدل حديثهم فقط عن نزع تحفظات على بعض الأمور والمواد يروجون لإشاعة بأنه تطبيق لكل الإتفاقيات وموادها بما فيها التي يمكن أن تكون مناقضة صراحة لمباديء الإسلام وقيمه، وهو غير صحيح؟، فالجزائر حريصة دائما على مراعاة قيم ومباديء الإسلام، خاصة في مجال تنظيم الأحوال الشخصية والأسرة.؟
نشير أن هذه الإتفاقيات لم تكن موجهة ضد المسلمين كما روج البعض، فهي تدخل في إطار محاربة التمييز ضد المرأة مثلها مثل إتفاقيات حول حقوق الطفل او الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيرها، وقد وضعت عام 1979 أثناء الحرب الباردة، أي في الفترة التي كان فيه الغرب يستغل الإسلام وبعض المسلمين وتوظيفهم ضد الشرق الشيوعي، وبالتالي لا نفهم لماذا المبالغة اليوم في القول أنها وضعت أصلا لتفكيك الأسرة المسلمة؟. هذا لا يمنع لنا القول، بأنها لو وضعت بعد نهاية الحرب الباردة، فيمكن لنا القول انها تدخل في إطار العولمة الغربية وسعيها لفرض قيم الغرب على العالم كله كما طالب فرانسيس فوكوياما، وكذلك بشكل غير مباشر صموئيل هنتنغتون وغيرهم، وهو من المعقول ان نتفهم رفض ذلك. فهذه العولمة الثقافية الغربية المفروضة هي التي جعلت الروسي ألكسندر دوغين يطالب في كتابه "نظرية عالم متعدد الأقطاب" عام 2013 بعالم متعدد الأقطاب مبني على تعدد الحضارات وإحترام قيمها ومبادئها وتطوراتها وأنظمتها بدل النظام العالمي الوستفالي المبني على الدول وإحترام سيادتها. ويقول دوغين في نظريته بأنه يجب إحترام قيم ومباديء كل حضارة بعينها وتركها تتطور داخل قيمها بدل فرض أحادية تنظيمية وثقافية وقيمية غربية على العالم كله.
ان هذا الجدال والنقاش في الجزائر يدفعنا إلى إعادة مسألة الفتاوي الدينية، وما يسمى بفقه الحلال والحرام.
يعد الإصلاح الديني في أوروبا وظهور البروتستانتية التي حررت الإنسان المسيحي من البابا وسيطرة رجال الدين الذين احتكروا فهم وتفسير الكتاب المقدس ثورة كبيرة في العقل الأوروبي، مما مهدته إلى التسامح والتفتح وفتح الآفاق الكبرى، وكانت عاملا رئيسيا في نهضة أوروبا، هذا في الوقت الذي لا نزال نحن المسلمين ننتظر الفتوى من رجال الدين في كل قضية أكانت صغيرة أم كبيرة بالرغم من أن المسلم من المفروض أن يكون راقي التعليم والفهم، مما يجعله قادرا لوحده على فهم النص الديني مادام أول أمر قرآني نزل عليه قبل الصلاة والصوم والزكاة وغيرها هو "إقرأ"، أي التعلم العميق والنظر في الكون والإنسان والطبيعة والمجتمع، وهو الأمر القرآني الذي لا يوليه الخطاب الديني إهتماما كبيرا خوفا من تضييع أصحاب هذا الخطاب نفوذهم.

أن ظاهرة الإفتاء الديني تعد ظاهرة قديمة عرفتها كل الأديان السماوية، بما فيها الدين الإسلامي الذي عرف تاريخه منذ وفاة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هذه الظاهرة، والتي أخذت أبعادا كبيرة طيلة قرون، وكلما أستجدت الحياة، فظهرت الكثير من المدارس الفقهية التي تحولت إلى مذاهب إسلامية، ومنها المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية والجعفرية نسبة إلى جعفر الصادق، وكذلك الظاهرية لأبن حزم وغيرها من المذاهب، مثلما عرف تاريخ الإسلام الكثير من الفقهاء الذين قاموا بمهمة الإفتاء إنطلاقا من المباديء الكبرى للدين الإسلامي وطبقا لمناهج وضوابط أنتجها هؤلاء الفقهاء أنفسهم، ولم تكن ضوابط منزلة على الإطلاق، بل هي من إنتاج عقل الإنسان يمكن إعادة النظر فيها ونقدها، وهو ما يعني أن كل ما ينبثق على أساسها من فتاوي هي من وضع الإنسان، وليس لها أي قداسة. .
ينقسم المفتون ورجال الدين إلى عدة أصناف وإتجاهات، وتتحكم في فتاويهم عدة عوامل، ومنها درجة الولاء أو العداء للسلطة القائمة والوقوع تحت ثقل وتأثير تقاليد وعادات المجتمع ودرجة الإحتكاك بالحياة المعاصرة وتغيراتها وإدراكها ودرجة التثاقف والتأثر بالأفكار والثقافات العالمية، ومنها الغربية، وكذلك درجة التقوى والإخلاص الروحي. ولهذا السبب نجد البعض من المفتين والفقهاء يبررون كل ما تطلبه منهم السلطة سواء في الفترة الإٌستعمارية أو بعد إسترجاع بلداننا إستقلالها، فهم غير قادرين على مواجهتها، إما خوفا أو طمعا، وهو ما أطلقنا عليهم في كتابنا " التيارات الفكرية في الجزائر المعاصرة" ب"فقهاء السلطان".
ان هذه العوامل السياسية والثقافية، ومنها بالأخص المصالح الخاصة ودرجة التفتح على العصر والثقافة العالمية هي التي أدت إلى وجود إختلافات كبيرة في قضايا الفتوى، ولا نحصر ذلك في المسائل الاجتماعية فقط، بل حتى في مجال العبادات في الكثير من الأحيان، مما يدفعنا إلى القول أن المسألة ليست دينية تتحكم فيها ضوابط دينية وشرعية محددة، بل هي مسألة تأويل ورأي تتحكم فيه العوامل الآنفة الذكر، وهو ما يدفعنا إلى طرح سؤال هام جدا، وهو هل بعض الفتاوي لها علاقة بالدين فعلا أم مجرد رأي وموقف يراد أن يعطى له شرعية دينية؟، وهو ما يؤدي إلى الخلافات بل تعدد الآراء حتى في المسائل التعبدية، وهو ما يسمح للمسلم أن يختار ما يراه متوافقا مع قناعاته وطاقاته، ومادام تتعدد الآراء الفقهية في كل القضايا، بل نجد جميع الآراء موجودة وجائزة، فالبعض يرى مسألة ما جائزة وآخرون يرونها ليست جائزة أو مكرهة، فلماذا هذا النقاش الذي لا معنى له، وهو ما يدفعنا إلى سؤال آخر، وهو ألم يكن علم الإفتاء هو مجرد علم ظهر لغايات سلطوية أكثر مما هي حاجة دينية ضرورية للمسلم ؟، ألا يمكن لنا نحن الباحثون أن نستحضر منهج ميشال فوكو حول العلاقة بين الصراع حول السلطة وظهور بعض العلوم في أوروبا، ونطبق منهجه على العلوم الدينية ومنها الفقه وعلوم الفتوى، ليتبين لنا حقيقة ظهور هذا العلم في الماضي ونجيب على هذا السؤال؟ .
نعتقد أن فكرة الإجتهاد في التاريخ الإسلامي قد انحرفت عن مفهومها الحقيقي، والمقصود بها في الأصل هو وضع وإيجاد الميكانيزمات لتطبيق قيم ومباديء الإسلام على أرض الواقع المتجدد بإستمرار أكثر مما هو القول بالحلال أو الحرام في مسائل وقضايا معينة، ونعتقد أنه من غير المعقول أن لايعرف أي إنسان عاقل أن أمر ما حلال لأنه جيد أو حرام لأنه سيء، وهو ما يذكرني بشيخ قريتي الصوفي وأنا صغير عندما اذهب إليها في العطلة يقول لرواد المسجد مستنكرا أسئلتهم حول الحلال والحرام "أن القط إذا أعطيته لحما أكله أمامك، وإذا أختطفه هرب، لأنه علم أنه حراما، أي ليس عملا جيدا، وأنت أيها الإنسان لا يمكن لك التمييز"، فعادة ما نجد في كل الفتاوي كل الإختيارات الممكنة مادام أن القرآن الكريم لم يفصل فيها، وهي مجرد تأويل نصوص ووقائع تتحكم فيها عدة عوامل قد سبق لنا ذكر بعضها آنفا، أفليس نحن اليوم بحاجة أكثر أن نجتهد ونفكر في الأساليب العملية والميكانيزمات التي تنشيء مؤسسات وتنظيمات لوضع تلك المباديء والقيم التي أقرها القرآن الكريم محل تنفيذ وتجسيد على أرض الواقع مثل ركن الزكاة وضرورة التفكير في أساليب وميكانيزمات عملية تجعله يساهم في عملية التنمية الإقتصادية والقضاء على الفقر، ويمكن القول نفس الأمر في ذلك حول مباديء أخرى كالشورى والعدل وغيرها، وبتعبير آخر نعطي المفهوم الحقيقي للإجتهاد، والذي سيكون على يد علماء الإختصاص سواء في مجال الإقتصاد أو السياسة وغيرها من الإختصاصات، مما يعني أنه لاحاجة لنا لرجال الدين، وأن هذه المباديء العامة يعرفها الجميع، بل يمكن القول أن العالم كله متفق عليها تقريبا، فهذه المباديء والقيم الأخلاقية تردد في كل مدارس العالم، ونرددها كلنا يوميا في المساجد والمدارس وفي خطابنا، لكن نرددها بشكل مجرد دون أي معرفة أو تفكير في كيفية وميكانيزمات وضعها وتنفيذها وتجسيدها على أرض الواقع.
وتعود مشكلتنا اليوم إلى إنحراف قد وقع في تاريخ المسلمين جعل الكثير من الناس ينتظرون الفتوى في كل قضية من الفقيه أو المفتي، وكدنا إن نحول هؤلاء الفقهاء والمفتين إلى أرباب كما فعلت اليهود والنصارى الذين أتخذوا رهبانهم وأحبارهم أربابا من دون الله، أي أنهم يحللون ويحرمون لهم، فكان بالأحرى علينا أن نعود إلى القرآن الكريم مباشرة دون أي واسطة لمعرفة ذلك، لكننا اليوم قلما نعود إلى النص القرآني، بل نفضل أن نقول قال فلان وقال علان، أليس بالأحرى علينا اليوم أن نكتفي بالمباديء والقيم وعدد المحرمات التي نص عليها القرآن، والتي تعد على أصابع اليد، ثم نعيش حياتنا بكل حرية طبقا لتلك القيم والمباديء بدل أن نبحث في كل مسألة هل هي حرام أم حلال حتى كثرت وأختلطت علينا المسائل، ووقع لنا نفس ما وقع لبني إسرائيل مع البقرة التي أمروا بذبحها دون البحث في تفاصيلها.
نعتقد أنه بهذا الشكل نتخلص من مجتمع الفتاوي وفكرة الحلال والحرام، ونعتقد أنه بقدرة أي إنسان أن يعرف الحلال والحرام شريطة تطبيق الأمر القرآني الأول وهو "إقرأ"، أي تعلم الإنسان وقدرته على النقد والتمحيص والإختيار السليم وفقا لقناعاته الدينية وقيم الإسلام الروحية، وبتعبير آخر نحن المسلمون بحاجة اليوم إلى بروتستانتية إسلامية، أي بمعنى تحرير المسلم من سلطة هؤلاء الفقهاء والمفتين وجعله مرتبطا بالقرآن مباشرة وحر في تأويلاته وإختياراته بدل إنتظار رجل لعله أقل منه ذكاء في الكثير من الأحيان، ويعتبر نفسه مفتيا ليدلي برأيه وتأويلاته التي تتحكم فيها عدة عوامل، فيصبح كأنه أمر إلهي، وما هو في الحقيقة إلا تأويل ورأي هذا الشخص الذي يسمي نفسه ب"الفقيه" و"المفتي" و"عالم الدين".
لكن يتطلب تحقيق هذا الأمر تعليما راقيا جدا، والذي يعد الشرط الأساسي لإقامة المجتمع السليم، لكن ما دام وقعنا في هذه المطبات اليوم وإنتظارا لتحقيق هذا الأمر القرآني، ولأننا اليوم معرضون لفوضى الفتاوي التي تسود مع جهل مطبق، فقد أخذت ظاهرة الفتوى في بلداننا المغاربية وبلدان إسلامية أخرى منحى خطيرا، وأصبحت وسيلة لغزو تيارات دينية مشرقية متطرفة وغريبة عن مجتمعنا، وهي أدوات تستغل لنشر الفتنة وتحقيق أهداف سياسوية، ولهذا فإننا نحن بحاجة إلى تلقين المسلم تعليما راقيا وتحريره نهائيا من رجال الدين الذين يتلاعبون بعقول بعض أبنائنا خدمة لأجندات مشبوهة في الكثير من الأحيان.
كي نفهم ان الكثير مما اعتبره رجال الدين حراما هو مجرد رأي لا علاقة له بالدين أصلا علينا ان نعيد إلى الأذهان مسألة تأويل النصوص الدينية والعوامل المتحكمة فيها، فقد عرفت كل الأديان عبر التاريخ صراعا بين محافظين متزمتين وإصلاحيين متفتحين، فلا يمكن لنا فهم تاريخ الإسلام مثلا دون العودة إلى هذا الصراع بين المحافظين والإصلاحيين، وهو صراع يدور في حقيقته حول تأويل لنصوص دينية وفهمها، ولاعلاقة له إطلاقا بمدى التمسك بالدين أو معاداته، ويتحكم في هذا التأويل عدة عوامل، ومنها الثقافة والتثاقف أي الإحتكاك بالثقافة العالمية والإنتماء الطبقي والتأثيرات الإيديولوجية، وكذلك الصراع بين البدو والحضر من جهة وبين المدينة والريف من جهة أخرى، فإن كان الغرب اليوم قد تجاوز نسبيا ذلك، وأصبح الصراع على أساس مصالح طبقية، ولهذا نقول هذا يميني وهذا يساري، إلا أن في العالم الإسلامي لا نرى هذا الصراع بجلاء، فمثلا بلد مثل إيران، وهي دولة دينية، فالصراع فيها يدور حول تأويل الدين بين محافظين وإصلاحيين، ونجد نفس الأمر في كل المجتمعات المسلمة.
لكن ما يؤسف له هو أن يصف المحافظون دائما الإصلاحيين والمجددين بأنهم كفار ومعادين للدين في الكثير من الأحيان، لكنه هو صراع حول تأويل الدين، وليس حول الدين ذاته الذي هو واضح في أركانه وأخلاقه، هذا بغض النظر إن كان ما وصلنا منه صحيح أم تم تحريفه عبر التاريخ، وألبس بأمور لاعلاقة لها بالدين الأصيل كما أتى به الأنبياء والرسل، ويقول المفكر الإيراني علي شريعتي في كتابه "دين ضد الدين" أن كل دين يتم إختطافه بعد وفاة نبيه من المستبدين والإستغلاليين بمساعدة كهنة ورجال دين يبررون لهم ممارساتهم بتأويلات دينية تخدم مصالحهم، ويرى بناء على ذلك بأن الإسلام قد ألحق به تحريف كبير بعد وصول الأمويين إلى السلطة، ثم تمت تغطية الدين الأصيل بتراث غطت على حقيقته، ويدعو شريعتي علماء إجتماع الدين إلى إزالة كل ما ألحق به عبر العصور كي نستخرج ما يسميه جوهره الأصلي، ويذهب الليبي صادق النيهوم نفس المنحى في الكثير من كتبه ومنها كتابه "إسلام ضد الإسلام"، بل غاص في كشف الكثير مما ألصق بالممارسات الدينية للمسلمين اليوم، ويردها إلى الإسرائيليات، كما نجد الكثير من الباحثين ذهبوا نفس المنحى، فمثلا المغربي رشيد إيلال والكثير ممن يسمونهم ب"القرآنيين" الذين يعتبرون القرآن فقط هو النص الديني الوحيد الذي يجب الأخذ به، فيقول إيلال بأن القرآن قد أستبدل بالبخاري، ثم يثبت أن البخاري مجرد شخصية وهمية لا وجود لها أصلا ولا لصحيحه. لكننا نحن لا نناقش كل هذه الطروحات في مقالتنا لأن ذلك يحتاج إلى مقالات اخرى، بل ما يهمنا هو وجود إختلاف كبير جدا في موقف الدين من القضايا الدنيوية، ولهذا فهذه الإختلافات هي ليست مسألة دين، بل هي مسألة تأويل للنصوص الدينية تتحكم فيها عدة عوامل، ومنها الثقافة والتثاقف والإنتماء الطبقي والإجتماعي وغيرها كما ذكرناها آنفا، ولهذا فلما كل هذا التكفير بغطاء ديني لكل من له رؤية مجددة له، وتتماشى مع العصر، والذي هو في الحقيقة مجرد عرقلة يائسة لحركة التاريخ التي تسير وتتقدم إلى الأمام، وبإمكاننا أن نعطي آلاف الأمثلة لأمور كانت محرمة من محافظين الذين كفروا كل من أخذ بها لتظهر فيما بعد أنها ليست كذلك، بل سيأخذ بها هؤلاء المحافظين أنفسهم فيما بعد.
فلنبدأ بإختراع المطبعة على يد غوتنبرغ في 1450، والتي تعرضت للتحريم حتى في أوروبا من طرف رجال الدين لأنهم في الحقيقة خشوا على نفوذهم الذي اهتز تحت أٍرجلهم بإنتشار الأفكار والمعارف حتى وصلت اليوم إلى الأنترنات الذي يعد أيضا مرحلة مفصلية في تاريخ المعرفة الإنسانية، كما كان رجال الدين في أوروبا يحرمون الحديث بمختلف اللغات الأوروبية معتبرين إياها لهجات لاترقى إلى مجال اللغة، وأن لغة الجنة هي اللاتينية، لكن أخفوا بأن اللاتينية لم تكن لغة الأنجيل أصلا، لأن لغة سيدنا عيسى هي الآرامية، وليست اللاتينية التي هي لغة الرومان، لكن أصبحت اليوم هذه اللغات الأوروبية التي حرمتها الكنيسة لغات عالمية.
كما عرفت أوروبا صراع حاد بين البروتستانتية الإصلاحية والكاثوليكية المحافظة أدت إلى حرب دينية دامت 30سنة، وذلك لأن البروتستانت لهم تأويل للنصوص الدينية المسيحية مختلف عن الكاثوليكية والبروتستنانتية، فهم ترجموا الكتاب المقدس إلى لغاتهم المحلية، كما يرون أنه يحق للمسيحي أن يؤول نص الكتاب المقدس حسب فهمه دون حاجة إلى رجل دين، وأنه لا واسطة بينه وبين الله وغيرها من التأويلات التي كانت أحد العوامل الرئيسية لقيام النهضة الأوروبية.
كما عرف العالم الإسلامي نفس الصراع بين إصلاحيين ومحافظين لدرجة تكفير إصلاحيين كمحمد عبده وإعتبار بن باديس في الجزائر انه أبليسي، فمثلا بشأن المطبعة تم تحريمها في الدولة العثمانية لعقود، فبشان المرأة مثلا، فعندما دعا قاسم أمين إلى تحرير المرأة وحقها في التعليم تم تكفيره، وأحرق منزله، لكن سنجد أن ما طرحه في اواخر القرن19م قد أصبح يطبق بشكل عادي اليوم، ونعطي مثال، فمثلا القرضاوي يروي في مذكراته انه ذهب لإلقاء محاضرة في كلية للبنات في السعودية، فلم يجد أمامه الطالبات لأنهن كن وراء حجاب، فرفض إلقاء محاضرته، فلماذا أختلف القرضاوي مع السعوديين برغم أنهما ينطلق كلاهما من الدين؟، لما نجد المرأة محرم عليها سياقة السيارة في السعودية قبل أن يتم التخلي عن ذلك اليوم، وفي الوقت نفسه نجد المرأة يسمح لها حتى بنيابة رئيس الجمهورية في إيران، بل نجدها في الجيش الإيراني برغم أن كلا الدولتين تدعيان تطبيقهما الشريعة الإسلامية؟، لما الإختلاف في اللباس والرؤى بين الإخوان المسلمين والسلفية الوهابية مثلا برغم إدعائهما بانهما ينطلقان من الإسلام؟.
ونعطي امثلة أخرى، فمثلا في الجزائر يروي أحمد طالب الإبراهيمي بأنهم نصحوا الرئيس بومدين بتنظيم النسل كي يتم توازن بين التنمية والنمو الديمغرافي، فقبل بومدين في قرارة ذاته ذلك لأن بومدين حداثيا، لكنه قال لهم هل تريدون إثارة رجال الدين ضدي لأنهم يرون ذلك حرام، لكن بعد سنوات من وفاة بومدين قال لهم محمد الغزالي بحديث العزل، فشرع الجزائريون في تنظيم الأسرة في عهد بن جديد بعد ما كان حراما من قبل.
كما حاول الملك فيصل بن عبدالعزيز إدخال التلفزيون إلى السعودية في الستينيات، فواجه موجة من السخط من رجال الدين، وكادوا أن يكفروه عن ذلك، فعاني كثيرا، لكن نجد للسعودية اليوم فضائيات مؤثرة حتى على الصعيد الأقليمي، كما تعرف السعودية اليوم تقدما كبيرا في المجال الديني وصل إلى درجة التخلي عن الوهابية والكثير من الأحاديث التي حرمت أشياء من قبل، فكل هؤلاء كانوا يريدون إيقاف حركة التاريخ فقط لا غير باسم الدين.
انه بإمكاننا ان نورد آلاف الأمثلة كهذه عبر التاريخ، وهو نفس ما عرفته أوروبا أيضا من قبل، وأيضا كل الأديان، وهو ما يدل على أنه ليس تحريما من الله، بل هي آراء رجال الدين المتأثرين بالعوامل التي اشرنا إليها آنفا، ثم يلبسونها لباسا دينيا.



#رابح_لونيسي (هاشتاغ)       Rabah_Lounici#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا فضلت قيادات الثورة الجزائرية فرانز فانون على مالك بن ن ...
- هل قرأ رشيد بوجدرة فعلا مالك بن نبي؟
- دور بريجنسكي في إنشاء مخربي دول منطقتنا
- ما الهدف من الترويج الإعلامي لكتاب قديم للروائي رشيد بوجدرة؟
- من وضع الجزائر في عين الإعصار؟
- الإستعمار النفسي أعلى مراحل الرأسمالية
- جذور وخلفيات دعوة ترامب إلى عمليات التهجير في الشرق الأوسط
- إتفاق إسرائيل-حماس الأخير بين الوهم والحقيقة
- ما حقيقة مشروع -الولايات المتحدة الإبراهيمية- في الشرق الأوس ...
- دور الإعلام والمجتمع المدني في النظام السياسي البديل
- السلطة التنفيذية والرقابة الشعبية لها في النظام السياسي البد ...
- مسألة الحريات وحقوق الإنسان في النظام السياسي البديل
- تطور تكنولوجيا الإتصالات ومستقبل الديمقراطية في الغرب ومنطقت ...
- تغييب مشكلة السلطة في التراث الفكري الإسلامي وإنعكاساته؟
- مستقبل منطقتنا بين سيطرة الكمبرادورية وسلطة العلم والمعرفة
- تنظيم بديل للمصارف وتمويل المشاريع الإقتصادية
- من أجل نموذج جديد للتنمية
- تنظيم جديد لمؤسسات الإنتاج الإقتصادية وتوزيع الدخل
- مباديء وأسس النظام الإقتصادي البديل
- لماذا فشلت كل الإختيارات الإقتصادية في منطقتنا؟


المزيد.....




- أكسيوس: السفير الأمريكي للاحتلال يتبنى مصطلح -يهودا والسامرة ...
- ميغان تشوريتز.. النجمة اليهودية التي تحدت الصهيونية بجنوب أف ...
- محافظة القدس: إسرائيل تدمر آثارا إسلامية أسفل المسجد الأقصى ...
- محافظة القدس: إسرائيل تدمر آثارا إسلامية أسفل المسجد الأقصى ...
- فرنسا: نصب تذكاري للمحرقة اليهودية يتعرض للتشويه بعبارة -الح ...
- محافظة القدس: الاحتلال يدمّر آثارا إسلامية أموية أسفل المسجد ...
- حرس الثورة الاسلامية: اليمن سيوجّه ردّا قاسيا للصهاينة
- “نحن أبناء الأرض”.. مسيحيو غزة يرفضون التهجير
- مسيحيو غزة: باقون في الأرض رغم القصف والتهجير
- رئيس الوكالة اليهودية يلغي زيارته لجنوب إفريقيا خشية اعتقاله ...


المزيد.....

- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - رابح لونيسي - إتفاقيات سيداو وإعادة طرح مسألة الفتاوي الدينية