|
من أجل نموذج جديد للتنمية
رابح لونيسي
أكاديمي
(Rabah Lounici)
الحوار المتمدن-العدد: 8150 - 2024 / 11 / 3 - 14:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بعدما تناولنا في المقالة السابقة مسألة تنظيم المؤسسة الاقتصادية وملكيتها وكيفية توزيع الثروة التي أنتجها المجتمع، فإنه غالبا ما تطرح في عالم الاقتصاد اليوم مسائل ماذا ستنتج؟ وعلى ماذا نركز في الإنتاج كمحرك للتنمية؟ كيف نمول المؤسسات والمشاريع الاقتصادية؟. فقبل ان نطرح النموذج التنموي الجديد يجب علينا أن نضع مبدأ هام يجب الإستناد عليه في هذا المشروع هو "الإستثمار حسب حاجات المجتمع، وليس حسب رغبة وإرادة الرأسمالي الغربي". فإن كان التخطيط المركزي في النظام الاشتراكي هو الذي يحدد السلع الواجب إنتاجها في ضوء المجتمع، فإن العرض والطلب أو السوق هو الذي يحدد ذلك في النظام الرأسمالي، لكن عادة ما يكون لأجهزة الإعلام والدعاية التي يسيطر عليها رجال المال والأعمال دور في تحديد حاجات المجتمع، وخلق حاجات غير ضرورية للإنسان، وغرس أنماط استهلاكية تخدم في الأخير مصالح الرأسماليين، هذا ما يفسر لنا مسألة "النمو من أجل النمو" في الغرب الرأسمالي الذي قال عنه روجي غارودي في كتابه "مشروع الأمل" بأنه "يتميز بتكاثر فوضوي سرطاني للنشاطات والحاجات التي تؤدي إلى تطور تشنجي وقاتل في وقت ما". وتلعب الدعاية والإعلانات دورا رئيسيا في ذلك وتشكل -حسب غارودي-"عدوانا دائما على الإنسان الذي تخضعه لقصف من الأنباء الكاذبة، وتثير فيه شهوات وهمية غير محدودة، سواء بشكل مباشر كالإعلان بالنيون وتكييف السلع ومستهلكيها، أو بشكل غير مباشر في الفيلم أو الرواية أو الإذاعة المتلفزة، حين تقدم نماذج من السلوك المترف السهل، الذي يُقاد المشاهد على نحو خفي إلى تقليده أو الحصول عليه بكل وسيلة حتى ولو بالجريمة في هذا العالم الاستهلاكي... والمسألة هي أن نستبدل بدعاية غايتها إطلاق فعل الشراء لصالح المنتج إعلاما غايته الترقية الإنسانية لحاجات المستهلك". وبذلك فقد الإنسان المعاصر إرادته وحريته، فأصبح خاضعا لتكالب المنتج الرأسمالي على الأرباح الضخمة الذي أصبح من أخطر المشاكل التي تهدد البشرية، فقد كتب الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان يوما "أحس دائما أن المجتمع الاستهلاكي لا يلائم فرنسا والفرنسيين، فهو يقوض فرنسا، وقد دمر جزءًا من شواطئنا وجبالنا ومدننا وأسلوب حياتنا وثقافتنا ومارس فتكا عظيما". فبذلك "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس" [الروم الآية 41]. هذا ما يعيد طرح السؤال: هل الإنسان يعيش ليأكل أم يأكل ليعيش؟. يجب اليوم لمواجهة الجشع الرأسمالي تحرير الإنسان من كل الأغلال المحيطة به والمقيدة له ومن آلهة جدد ولدت في الحضارة الغربية المعاصرة، ألم يصبح الإنسان خاضعا في حاجاته للمنتج الرأسمالي؟، ألم يصبح هذا الأخير هو الإله الجديد الذي يسيطر على الإنسان فكرا وروحا وحاجات من خلال أجهزة الدعاية والإعلام والإعلانات، لكن هذا الإله الجديد بدوره يعبد آلهة أخرى هي المال والسلطة والشهوة، ولهذا يجب علينا التحرر من دين جديد هو دين النمو الرأسمالي الغربي. وأول ما يجب أن يحرر الإنسان المعاصر نفسه هو النمط الاستهلاكي الغربي الذي جعل حاجاته ورغباته وإرادته خاضعة للمنتج الرأسمالي في الغرب، وهذا لا يمكن أن يتم إلا بإعادة النظر في نمطنا الاستهلاكي وخلق نمط استهلاكي جديد خاضع للحاجات الطبيعية للإنسان لا الحاجات المصطنعة المزيفة وغير الضرورية التي حولها سلطة الإعلام إلى ضرورة لا مفر منها في ذهن الإنسان. فهذا النمط الاستهلاكي الجديد هو الذي سيحدد لنا ما يجب أن ننتجه وما لم يجب أن ننتجه طبقا لمبدأ العرض والطلب الطبيعي لا الطلب الذي صنعته الإعلانات والدعاية التي ولدت منذ اللحظة التي أصبح فيها الإنتاج يفوق الطلب. بعد ما بيننا فيما سبق أن ما ننتجه هو الحاجات الأساسية للمجتمع، والتي يمكن تطويرها كمّا ونوعا حسب الإمكانيات المتوفرة وتطور التكنولوجيا، لكن قبل هذا كله يجب علينا ألإجابة على سؤال جوهري هو: على ماذا سنركز كمحرك للتنمية؟ هل نركز على الزراعة أو الصناعة؟ وإذا ركزنا على الصناعة، فهل نبدأ بالصناعات الخفيفة أم الثقيلة أم بالتوازن فيما بينهما ؟. لو تأملنا جيدا مختلف تجارب التنمية التي جرت في الكثير من بلدان منطقتنا بعد إسترجاع إستقلالها، نلاحظ أن أحد أسباب فشلها هو إهمالها الزراعة كمحرك للتنمية، لأن هذه البلدان تجاهلت الدراسة الموضوعية لدور الزراعة في أوروبا قبل قيام الثورة الصناعية في النصف الثاني من القرن18. فقد أثبتت التجربة الأوروبية والدراسات الاقتصادية أن الثورة الزراعية قد سبقت الثورة الصناعية في أوروبا، بل هي أحد الشروط الأساسية لقيامها، ولعل هذا ما جعل آدام سميث (1723-1790) المعاصر لتلك الفترة في أوروبا يقول "إن إتباعنا المسار الطبيعي للأمور يتبين لنا أن رأسمال أية أمة ناشئة يتجه في البداية نحو الزراعة ثم الصناعة وفي الأخير إلى التجارة الخارجية "لأن تطور الصناعة في المدن يتطلب فائض إنتاج في الزراعة". ويبدو أنه نفس الأمر الذي جعل الفيزيوقراطيين في القرن 18م يقولون بأن الزراعة هي المصدر الوحيد للثروة، ويؤكد بول بايروخ Paul Bairoch أن الثورات الزراعية بدأت 50 سنة قبل الثورة الصناعية في أوروبا، فمثلا انجلترا كانت مكتفية غذائيا فلم تستورد الغذاء لمدة 80 سنة، وبلغت صادراتها من الحبوب في عام 1750 حوالي 200 ألف طن، أي ما بين 13% إلى 15% من استهلاكها المحلي، وكان يطلق عليها آنذاك "مطمورة أوروبا". ويذهب بايروخ إلى أبعد من ذلك عندما يرى أن انتشار الصناعة كان في بدايتها في المراكز الزراعية، وليس في المراكز التجارية، مما يفسر نشوء الصناعة في بريطانيا وفرنسا وليس في هولندا والبرتغال وإسبانيا. ولم يكتف تطوير الزراعة عشية الثورة الصناعية في أوروبا بتوفير الغذاء وتحسين مستوى المعيشة للسكان، بل لعبت دورا كبيرا في ظهور الصناعات النسيجية وصناعة الحديد والصلب بفعل حاجة الفلاح إلى تطوير آلات الإنتاج الزراعية، بالإضافة إلى تحول الرأسمالي الزراعي إلى رأسمالي صناعي، خاصة في صناعة النسيج، ولعل الدور الكبير الذي تلعبه الزراعة في التنمية الاقتصادية هو الذي دفع الاقتصادي سوازان جورج Susan George في مداخلة له ألقاها في الندوة الدولية حول الإستراتيجيات وبدائل التنمية في المستقبل في آسيا، والتي انعقدت بنيودلهي ما بين 11 إلى 17 مارس 1980 إلى القول "إن الاستثمار في الزراعة لا يكون فقط إجراء صحيحا، بل يعبر عن ذكاء أكبر، لأنه بارتفاع مدخول الفلاحين بفعل زيادة الإنتاج، فإن إنفاقهم سيحرك باقي النشاطات الاقتصادية دون الحديث عن دورهم في توفير المواد الغذائية بدل التوجه إلى الاستيراد". إن تحقيق الأمن الغذائي لا يوفر فقط على منطقتنا إنفاق الملايير من الدولارات أو الأورو سنويا لإستيراد المواد الغذائية، بل سيؤدي إلى تحسين التغذية، مما سيوفر أمولا باهظة تنفق على الصحة بسبب الأمراض العديدة الناتجة عن سوء التغذية، مثلما ستتحسن بشكل فعال مردودية الإنتاج للإنسان، لأن سوء التغذية هو الذي جعل إنسان منطقتنا ينتج أقل فكريا وجسديا، لأن الغذاء ضروري لتنمية القوة البدنية والعقلية للإنسان. فبتطوير الزراعة، نكون قد وفرنا أموالا ضخمة يمكن استثمارها في إقامة الصناعة والبحث العلمي والتكنولوجي، وعلى رأس هذه الصناعات كصناعة آلات الإنتاج بالاعتماد على الآلات البسيطة التي يمكن استيرادها ثم تطويرها شيئا فشيئا بالاستناد إلى البحث العلمي والتكنولوجي الذي من المفروض أن يكون مرتبطا بالإنتاج الاقتصادي وتطوير قوى الإنتاج على أساس حاجياتنا وإمكانياتنا، فنتخلص تدريجيا من التبعية التكنولوجية. كما يمكننا إقامة شبكة صناعية مترابطة أين تختص الصناعات الخفيفة في إنتاج الحاجات الأساسية للسكان، أما المصانع الإستراتيجية الكبرى، فتختص بالصناعات المعقدة، وعلى رأسها آلات الإنتاج، وتتخلى في نفس الوقت عن صناعة بعض المواد وقطع الغيار السهلة للإنتاج لورشات صغيرة يمكن أن تكون عائلية، وتكون في خدمة هذه المصانع الكبرى، ونستند في ذلك إلى تبسيط عمليات التصنيع، فتكون في متناول الكثير من أفراد المجتمع بدل الإستناد إلى التعقيد، لأننا لا يمكن أن ننسى دور بساطة التقنية في تشجيع الثورة الصناعية في أوروبا. ونعتقد أنه بهذا الشكل نكون قد قمنا بثورات زراعية وصناعية وتكنولوجية في منطقتنا تخلصها نهائيا من الاعتماد على الخارج في مأكله وملبسه ومركبه... وغيرها من الحاجات حتى ولو كانت تكاليف هذه العملية أكبر من تكاليف الاستيراد السهل، لأنه كما يقول المثل الصيني "المهم ليس أن تعطيه سمكة، بل المهم هو أن تعلمه كيف يصطاد السمكة"، وأما الذين يتحدثون عن التكاليف نوصيهم بالتمعن فيما قاله أحد مسؤولي وزارة الخارجية الفرنسية عام 1952".. فلنعط هذا العالم الإسلامي ما يشاء، ولنقو في نفسه الرغبة في عدم الإنتاج الصناعي والفني، حتى لا ينهض، فإذا عجزنا عن تحقيق هذا الهدف، بإبقاء المسلم متخلف، وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه، فقد بؤنا بإخفاق خطير، وأصبح خطر العالم الإسلامي وما وراءه من الطاقات الضخمة خطرا داهما ينتهي به الغرب، وتنتهي معه وظيفته الحضارية كقائد للعالم". وسنعود في المقالة القادمة إلى مشكلة تمويل المشاريع التنموية وتنظيم المصارف والبنوك.
#رابح_لونيسي (هاشتاغ)
Rabah_Lounici#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تنظيم جديد لمؤسسات الإنتاج الإقتصادية وتوزيع الدخل
-
مباديء وأسس النظام الإقتصادي البديل
-
لماذا فشلت كل الإختيارات الإقتصادية في منطقتنا؟
-
هل فعلا الندرة هي وراء المشكلة الإقتصادية؟
-
ما هي الإشكاليات الواجب حلها لإخراج منطقتنا من التخلف؟
-
تفسير- ماركس وأنجلس - لتخلف منطقتنا
-
تفاسير عنصرية وإستعلائية لتخلف منطقتنا
-
ماذا بعد الرئاسيات الأخيرة في الجزائر؟
-
تفسير مالك بن نبي لتخلف منطقتنا
-
ما مسؤولية الطبقات الحاكمة في منطقتنا ما قبل الاستعمار في تخ
...
-
تفسير سمير أمين لتخلف منطقتنا
-
هل للتوسع الرأسمالي علاقة بتخلف منطقتنا؟
-
أخطار العولمة الرأسمالية على مستقبل الإنسانية
-
كيف تنشأ الأزمات المالية في النظام الرأسمالي، وما تأثيراتها؟
-
لماذا أستمر الإستغلال الرأسمالي الغربي لمنطقتنا بعد خروج الإ
...
-
كيف أنقذ الإستعمار النظام الرأسمالي في الغرب؟
-
مراحل تطور النظام الرأسمالي في الغرب
-
هل فعلا النظام الرأسمالي وراء تقدم الغرب؟
-
نحو مشروع إنساني بديل
-
هل تم تكفير علي شريعتي في إيران؟
المزيد.....
-
هل النظام السوري مهدد بالسقوط؟
-
بلينكن: وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله -صامد-
-
بوتين: اليوم كل ما يأتي من الشرق هو جيد ومثمر
-
-ثلاث أدوات أمام ترامب للضغط على حماس لكن خياراته العسكرية م
...
-
التلفزيون السوري -أكثر من 1600 قتيل من الإرهابيين بنيران الج
...
-
كوريا الجنوبية وزلّة الأحكام العرفية: استقالة وزير الدفاع ر
...
-
بلينكن يحمل الأسد وحلفاءه مسؤولية هجمات -هيئة تحرير الشام-
-
كوريا الجنوبية.. المتظاهرون يطالبون باستقالة الرئيس يون سيوك
...
-
شولتس: لن نسمح بضربات داخل العمق الروسي بأسلحتنا ولن نرسل أف
...
-
-العدالة والتنمية- ردا على المعارضة التركية: الأسد لم يستجب
...
المزيد.....
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
المزيد.....
|