أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رابح لونيسي - لماذا فضلت قيادات الثورة الجزائرية فرانز فانون على مالك بن نبي؟















المزيد.....

لماذا فضلت قيادات الثورة الجزائرية فرانز فانون على مالك بن نبي؟


رابح لونيسي
أكاديمي

(Rabah Lounici)


الحوار المتمدن-العدد: 8428 - 2025 / 8 / 8 - 16:25
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


عاد مؤخرا في الجزائر الحديث حول شخصيتين فكريتين جزائريتين هما مالك بن نبي وفرانز فانون، فلنشر بأن مالك بن نبي دائما ينتقد قيادة الثورة والسلطة في الجزائر بعد 1962 تبنيها وإحتضانها لفرانز فانون، خاصة من الرئيس هواري بومدين، ويقول دائما بأنه يتم تجاهله برغم من أنه اقرب إلى نفسية المجتمع الجزائري عكس فانون - في نظره طبعا- بالرغم من أن فانون كان أكبر محلل للمجتمع الجزائري، خاصة من الناحية النفسية بحكم أنه طبيب نفساني، كما درس بالتفصيل التحولات الاجتماعية التي أحدثتها الثورة في سلوك الإنسان الجزائري من خلال كتابه "سوسيولوجية الثورة الجزائرية في عامها الخامس" الذي نشره عام1959، وأيضا كتابه "المعذبون في الٍأرض" الذي هو مستوحى في الحقيقة من التحربة الثورية الجزائرية التي عايشها عن قرب بعد إلتحاقه بها والإحتكاك بالمجاهدين وقيادات الثورة، ثم تمثيله الجزائر في عدة مؤتمرات، وكذلك كسفير لثورتها في القارة الأفريقية وغيرها من الوظائف والأدوار التي أشتغلها خدمة للجزائر وثورتها. لكن السؤال المطروح هو لماذا أبعدت الثورة الجزائرية ثم السلطة بعد 1962مالك بن نبي، وأحتضنت فرانز فانون؟. وقبل الإجابة على ذلك نعرف بإيجاز بفرانز فانون الذي لا يعرفه جيل الشباب اليوم في الجزائرللأسف الشديد.
أرتبط فرانز فانون بالثورة الجزائرية نظريا وعمليا في الميدان، فأغلب كتاباته دارت حول هذه الثورة وتحليلها لدرجة إعتقاد الكثير أنه منظرا لهذه الثورة، لكنه في الحقيقة كان يستمد نظرياته من معايشاته لواقعها، ومن خلالها تمكن من وضع نظرية العالمثالثية لتطبيق الإشتراكية في بلدان العالم الثالث بالإعتماد على الفلاحين والريفيين بدل طبقة البروليتاريا المنعدمة في هذه الدول بسبب ضعف القطاع الصناعي. فقد أكتشف فانون أنه ليس مستحيلا قيام هذه الثورة في دول العالم الثالث لأنها لاتمتلك طبقة البروليتاريا التي تقوم بها لأنها ضعيفة صناعيا. ونشير أن فلاديمير لنين حل المشكلة في روسيا بوضعه النظرية الماركسية-اللنينية بسبب التأخر الصناعي في هذا البلد، فأقام ديكتاتورية البروليتاريا التي ستركز على التصنيع، أي الإستيلاء على الدولة ثم القيام بتصنيع مكثف لخلق هذه الطبقة البروليتاريبا التي ستقود إلى الشيوعية، أي الإنطلاق من أطراف الرأسمالية العالمية للقيام بها، على عكس ما طرحه ماركس من أنها ستقوم في الدول الأكثر تصنيعا مثل أنجلترا، وهو نفس ما طرحه سمير أمين فيما بعد بالقول بثورة إشتراكية إنطلاقا من دول العالم الثالث بعد ما يصل الإستغلال الرأسمالي العالمي أوجه في هذه البلدان.
أما فانون، فقد لاحظ بإمكانية قيام هذه الثورة الإشتراكية بالإستناد على الفلاحين والريف، وأنطلق في ذلك مما لاحظه في الثورة الجزائرية من ثورية الفلاحين ودورهم الكبير فيها، لكن في الحقيقة بالنسبة للجزائر، فقد سبقه إلى هذا الطرح مصطفى لشرف الذي أطلق على المقاومات الشعبية الجزائرية في القرن19 ب"ثورة الفلاحين" رابطا أياها بالأرض التي أغتصبها المعمرون، وذلك في مقالة له في مجلة إيسبري في 1954، أي قبل إندلاع الثورة، لكن يبدو أن ماوتسي تونغ قد سبقهم إلى ذلك عالميا، وطبقه على أرض الواقع، ولم تكن طروحات ماوتسي تونغ صالحة في هذا المجال فقط، بل حتى نظريته الثورية القائلة بمحاصرة المدن من الأرياف والأطراف لإسقاط النظام في بكين وإقامة دولة إشتراكية قد أخذ بها تنظيم داعش الذي شرع في إقامة إمارات دينية في أطراف العالم الإسلامي التي تعرف فقرا وفوضى، ومنها تحاصر المراكز الكبرى في هذا العالم، لكن قبل ماوتسي تونغ ولشرف وفانون، فقد سبق فريدريك أنجلز أن تحدث عن ثورات الفلاحين في القرن 17 في ألمانيا، لكنه لا يعتبرها ثورة شيوعية، مما يعني أن النظرية الماركسية تدحض طروحات ماوتسي تونغ وفانون.
يبدو أن الرئيس الجزائري هواري بومدين قد تأثر كثيرا بفانون الذي كان يلقي محاضراته على قيادات جيش التحرير الوطني وإطاراته على الحدود التونسية والجزائرية، وبتأثير من فانون أنطلق بومدين في ثورته الإشتراكية من الأرياف وبالثورة الزراعية مع تكثيف الصناعات الثقيلة، لكن لا ننسى أيضا بأن بومدين رغم تاُثره الكبير بفرانز فانون، فقد استند أيضا في تأميمه للآراضي الفلاحية على الشرعيتين الدينية والتاريخية، فالدينية بنشره فكرة ومقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه "الأرض لمن يخدمها"، وقد كان عنوانا لنص في أحد الإمتحانات في السبعينيات، وكانت هذه المقولة تدرس بقوة في المدرسة الجزائرية في عهده، أما الشرعية التاريخية، فيستند على فكرة أن الآراضي في الجزائر قبل 1830 كانت ملكية للعرش، أي ملكية جماعية، أين العرش يعمل في الأرض جماعيا، ويستفيدون من محاصيلها جماعيا أيضا، وذلك قبل أن تصدر القوانين الإستعمارية التي أستهدفت تفتيت الأرض وتحويلها إلى ملكيات فردية، وعلى رأسها قانون سيناتوس كونسولت 1863 وقانون فارنيي1873، والتي أستهدفت أيضا تفكيك المجتمع الجزائري بخلق صراعات بين أفراد العرش الواحد ذاته حول حدود الملكيات الفردية من جهة، والذي لازال سائدا إلى اليوم، ومن جهة أخرى القضاء على تضامن العرش كله ضد أي محاولة عدوانية ضده من الإستعمار، ونشير إلى أن ماركس قد أشار في رسالة له إلى صديقه أنجلس إلى ما أسماه وجود شيوعية بدائية في الجزائر بعد إقامته لمدة فيها للتداوي بهوائها النظيف بعد إصابته بمرض صعوبة التنفس.
اما نظرية فرانز فانون فقد ظهرت في كتابه "معذبو الأرض" الذي أصبح بمثابة أنجيل للشعوب المضطهدة، بما فيهم الزنوج في أمريكا، لكنه يعتمد على العنف، وأيده سارتر الذي كتب مقدمة هذا الكتاب عند نشره لأول مرة في 1962، وقبل هذا الكتاب نشر كتابا آخر حول "سوسيولوجية الثورة الجزائرية في عامها الخامس" أين حلل الثورة الإجتماعية التي أحدثها العنف الثوري في نفسية المجتمع الجزائري، خاصة في قضايا المرأة والتحديث ومواجهة البعض من التقاليد أو تبنيها كمظاهر للمقاومة ضد المستعمر، وأحسن ما كتب فانون حول المرأة وتحررها هو تبنيها ممارسات جديدة عصرية ومنافية للتقاليد القديمة مثل الإحتجاب وعدم الإختلاط بالذكور والسفر لوحدها، وبشأن ذلك علينا أن نشير إلى معاناة بعض بنات بعض الشخصيات التابعة لجمعية العلماء المسلمين الذين بقوا أكثر محافظة، ورفضوا لبناتهم الإنخراط في العمل الثوري بسبب سيطرة هذه التقاليد، وهو ما يشير، وندد به بوضوح أحمد طالب الإبراهيمي عند نشره الرسائل التي كانت تصله من هاته البنات التي يشتكين من أبائهن، ويمكن التأكد من ذلك بالعودة إلى كتابه "رسائل من السجن". لكن ما يؤسف له أن هذا التطور الثوري للمرأة الجزائرية لم يستمر بعد إسترجاع الإستقلال، فعادت القهقري إلى الوراء بسبب سيطرة تيارات أيديولوجية منغلقة همها قمع المرأة، والتي تسعى لإعادة المرأة إلى البيت كحريم بدل مشاركتها كعنصر فعال إلى جانب الرجل في بناء الدولة مع الحفاظ على هويتها الإسلامية، أي أمرأة مسلمة حديثة كما دعا إلى ذلك قاسم أمين ومحمد عبده في مصر في نهاية القرن 19، وتعرضا للتكفير من المنغلقين والمتعصبين آنذاك بنفس الأسلوب الذي يقوم به الوهابيين اليوم ضد المثقفين وعلماء الدين المستنيرين، وقد كرر مثلا نفس دعوة محمد عبده كل من الشيخ بن باديس في الجزائر والطاهر الحداد في تونس في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، وغرابة الأمر ما دعا إليه هؤلاء، ومنهم خاصة محمد عبده هو الممارس اليوم بعد قرن من الزمن، مما يدل أن هؤلاء المتعصبين والمنغلقين تحت غطاء الدين والتحريم يعرقلون التطور الإجتماعي، ثم يعترفون بعد عقود وفوات الآوان أنهم كانوا مخطئين، فيحللون ماحرموه من قبل، فيضيعون عمرا من حياة أممنا ودولنا.
كما عرف عن فانون دوره في إقناع اليسار في أوروبا لإتخاذ موقف صريح مؤيد للثورة الجزائرية، وذلك من خلال مقالاته العديدة والمتسلسلة التي نشرت في المجاهد لسان حال الثورة الجزائرية بالفرنسية.
لكننا نعتقد أن أهم كتاب لفانون على الإطلاق في نظري، والذي لم يلق إهتماما كبيرا هو "بشرة سوداء، قناع أبيض" الذي ألفه عام ،1952 أي قبل إندلاع الثورة الجزائرية، فلم يول له إهتماما كبيرا بسبب ربط فانون بالثورة الجزائرية، ففي هذا الكتاب قام بتحليل نفسية الإنسان الزنجي بسبب الإضطهاد العنصري والثقافي والإستعماري الذي مارسه ضده الإنسان الأبيض، وهو نفس الإهتمام الذي نجده لدى إيمي سيزر أستاذ فانون، وكذلك ايديولوجية النغريتود للسنيغالي ليوبولد سنغور، لكن مايثير الإنتباه في تحليل فانون لظاهرة الزنوجة وعلاقة الزنجي بالأبيض هي عقدة النقص القاتلة التي خلقت لدى الزنجي رغبة ملحة في التخلص من زنوجته والتشبه بالإنسان الأبيض، وهو نفس ما يسميها بن خلدون "المغلوب مولع بالغالب"، لكن لاحظ فانون، وهو الطبيب النفساني، بأن رغبة الزنجي في التخلص من زنوجته هي مستحيلة بسب إستحالة تغيير جلده، ولهذا فهو يرغب لو تمكن من إستبدال ذلك بقناع أبيض، وهو ما قام به الفنان مايكل جاكسون منذ سنوات ادت إلى وفاته، فهو ما يعني عند فانون ان عقدة الإنسان الزنجي مركبة، ومن الصعب حلها إلا بالقضاء على الإنسان الأبيض، فهنا تولدت نظرية العنف الثوري لدى فانون، وهي نفس النظرية التي نقلها إلى علاقة المستعمر بالمستعمر والتنظير للعنف الثوري، وبأن القضاء على الإستعمار يتم بالقضاء على المعمر.
لكن لم يذهب فانون في كتابه "بشرة سوداء، قناع أبيض" أبعد من مسألة الزنجي، ولم يطرح مسألة كل الشعوب المغلوبة، والتي تعرضت للإضطهاد العنصري والثقافي عبر التاريخ، والتي تتشابه نسبيا في السحنة واللون مع المضطهد، مما يعني تشبهه بالمضطهد والتخلص من ذاته ليس أمرا صعبا ومعقدا كما هو الحال في علاقة الزنجي بالإنسان البيض، ففي حالة التشابه النسبي في السحنة واللون، فمن السهل على المضطهد سياسيا وثقافيا وتمييزيا التشبه بمضطهده، لأن ماعليه إلا التخلص من هويته وثقافته ولغته، ويتبنى أصل وهوية المضطهد له، فيصبح مثله. أليس ما طرحه فانون يعد مفتاحا هاما في يد المؤرخين وعلماء الإجتماع لفهم العديد من المظاهر والتحولات الثقافية والإقتصادية والسياسية عبر التاريخ؟.
فبعد هذا التعريف المقتضب بفانون الذي تبنته الثورة الجزائرية، وأحتضنته، نعود إلى سؤالنا وهو لماذا لم يلق بن نبي نفس الترحاب الذي لقيه فانون، مما جعل بن نبي يذكر دائما فانون بنوع من العداء له.
ففي الحقيقة لا يمكن لأي أكاديمي أن ينفي بأن بن نبي من العقول الكبيرة التي أنجبها العالم الإسلامي المعاصر، ويمكن تشبيهه بأبن خلدون العصر، ولايمكن الإنتقاص من قيمة أفكاره الكبرى، خاصة بغوصه في عمق مشكلة الإنسان المسلم اليوم الذي يجب تحويله إلى إنسان فعال وتحريره من الأفكار المميتة التي سيطرت عليه منذ دخوله عصور الإنحطاط أو مايسميها بن نبي بأفكار"إنسان مابعد الموحدين"، وكذلك فكرته القائلة بأن مشكلتنا هي حضارية، وليست دينية، كما يركز على ضرورة الإستثمار في بناء الإنسان الفعال كما فعلت مثلا اليابان وألمانيا الذي يأخذهما دائما كنماذج. لكن السؤال المطروح والمحير لماذا لم نجد له أي دور في الثورة الجزائرية؟.
أجاب بن نبي في العديد من كتاباته عن هذا السؤال بالقول أنه أنتقل إلى القاهرة، وما فتأ يعرض نفسه على قيادات الثورة، لكنه وجد رفضا له لدرجة تحوله كرد فعل عاطفي وإنفعالي منه إلى خصم لدود لأغلب هذه القيادات، ولم ينج أغلبها إن لم نقل كلها من إنتقاداته والتهجم عليها، وهو ما لايجب أن يقع فيه مفكرا كبيرا مثله، لكن للأسف لكل إنسان نقاط قوته ونقاط ضعفه، فالأنبياء والرسل فقط هم المعصومون من الخطا وسوء التقدير.
ولفهم أسباب ذلك علينا الإشارة بأن بن نبي قد تعرض لغضب شديد من بعض الوطنيين الإستقلاليين بعد طرحه فكرة القابلية للإستعمار التي أسيء فهمها، وأولت أنها إستسلام منه لهذا الإستعمار، وهي مأساة المثقفين الصادحين شعوبهم بالحقيقة، الذين عادة ما تؤول مقولاتهم سلبيا بالرغم أنهم لم يقصدوا ذلك إطلاقا، فبن نبي في الحقيقة نظر إلى عمق المسألة، وهي تحرير الإنسان من الداخل وإخراجه من السلبية، وما يسميه ب"ذهان السهولة" وأخذ مصيره بيده بالفعل، وليس بالمطالبة.
لكن نعتقد أن أسباب رفضه من القيادات أعمق من ذلك بكثير، فليس فقط لأنه مثقف سيحرص على إستقلاليته، مما يمس بالإنضباط الذي يعد شرطا أساسيا لنجاح أي ثورة، لكن السبب أنه غير حركي وعملي مثل الكثير من المثقفين التنظيريين، كما خشيت القيادة من سعيه للسيطرة عليها، فبن نبي طموحا جدا ليس للقيادة المباشرة، بل للتحول إلى المنظر والموجه، وكان مهووسا بوضع أفكاره موضع التنفيذ لدرجة أنه كان يقترب من أي سلطة تحقق له هذا الهدف، فمثلا لم يعد إلى الجزائر مباشرة بعد إسترجاع الإستقلال، وفضل البقاء في ليبيا لعل نظام الملك السنوسي يعطي له فرصة لتنفيذ أفكاره، وبعد عودته إلى الجزائر في1963 تقرب من نظام بن بلة طمعا في هذا الهدف لدرجة تشويهه خصوم بن بلة شهداء وأحياء لإرضائه ليس طمعا في السلطة، بل رغبة منه في إيجاد أرضية لتنفيذ أفكاره على أرض الواقع، فهو مهموم بذلك.
ويبدو أن قيادة الثورة تعرف نفسيته جيدا، فهذه القيادة كانت تسعى لجمع الأمة الجزائرية كلها لمواجهة الإستعمار دون إثارة الإختلافات الأيديولوجية والطبقية والثقافية وغيرها، أي تكوين"الكتلة التاريخية"-حسب تعبير محمد عابد الجابري اليوم-، لكن بن نبي أقل حركية وكثير التنظير، فخشيت القيادات من إثارته للمسائل الفكرية والأيديولوجية، مما يمكن أن يؤثر سلبا على تماسك الثورة ووحدتها.
يبدو أن قيادات الثورة كانت ترى أن بن نبي لن يقدم لها شيئا إيجابيا بحكم إعتقادها - وأؤكد على إعتقادها-، لأن في نظرها أن الخطاب الديني يغلب عليه نوعا ما حتى ولو أخذ طابعا حديثا، خاصة أن بن نبي أول كتاب ألفه هو حول القرآن الكريم بعنوان "الظاهرة القرآنية" مما يعطي إنطباعا لمن لايعرفه جيدا، ويقرأ كتاباته بأن المسائل الدينية هي إهتماماته، وهو ما وقعت فيه هذه القيادات، خاصة أن أغلبها ذوي ميولات يسارية، فلا ننسى أن جذور جبهة التحرير الوطني الجزائري التي اشعلت فتيل الثورة تمتد إلى نجم شمال أفريقيا الذي أسسه مهاجرون جزائريون في فرنسا متأثرين بالأفكار الأوروبية، خاصة اليسارية منها، فمثلا بن بلة كانت أفكاره لاتختلف إطلاقا عن بوضياف أو آيت أحمد أو عبان رمضان وغيرهم قبل أن يتأثر بأيديولوجية القومية العربية لعبد الناصر فيما بعد، وكي نأخذ فكرة عن هذه القيادات نشير مثلا إلى بن بلة ذاته الذي آخذ عبان رمضان بعد إدخاله جمعية العلماء في الثورة في1956 بمقولة شهيرة يعرفها الداني والقاصي، وهي منشورة ضمن الرسائل التي كانت بين القيادة في القاهرة والجزائر منتقدا خطوة عبان المتفتح على الجميع بما فيهم العلماء قائلا عنه "لم يبق له- أي عبان رمضان- إلا إدخال هؤلاء المعممين-أي العلماء- إلى الثورة"، وهو الذي سيظهر فيما بعد في سلوكات بن بلة مع الشيخ البشير الإبراهيمي بعد1962.
فبناء على ذلك كله فإن قيادات الثورة الجزائرية كانت ترى أنه لو تحدث مثقفا كبن نبي عن الثورة بشكل رسمي، فبإمكانه القضاء على فكرة أساسية تستند عليها هذه الثورة وهي "أنها ثورة وطنية، وليست حربا دينية"، مما سيقلب الغرب والشرق الشيوعي ضدها، لأن هذه القيادة تعتقد أن بن نبي بخطابه الديني -في نظرها-، وأؤكد على كلمة نظرها، سيضر بتدويل القضية الجزائرية، وبأنه لم يفهم إستراتيجية الثورة التي ليست فقط انها ثورة وطنية، بل أيضا أن خطابها وطني وموجها إلى العالم كله، خاصة الغربي والشيوعي لكسب دعمها للقضة الجزائرية، وبأنها قضية تحرر وطني، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بأقلام ولسان يساريين ومثقفين إنسانيين وتقدميين، وهو ما لا يتماشى مع بن نبي الذي سيحصر -في نظرها-، وأؤكد مرة أخرى على نظرها الثورة بخطابه داخل الفضاء الحضاري الإسلامي الذي هو أصلا مع هذه الثورة، لكنه فضاء ليس بيده مفاتيح السياسة الدولية، ولعل هذه القيادة كانت تجهل نوعا ما خطاب بن نبي الحضاري والإنساني، لأن بن نبي في الحقيقة لم يحصر خطابه في مجال ديني إطلاقا كما يعتقد الكثير الذين لم يقرأوه بعمق، بل كان خطابه حضاريا وإنسانيا، ويستلهم من عدة ثقافات سواء كانت أوروبية أو إسلامية أو حتى هندية، فهو شديد التأثر بالماهاتما غاندي وفلسفته "اللاعنف"، كما كان متأثرا نسبيا بالتجربة الصينية بقيادة ماوتسي تونغ، خاصة تحريكه وتفعيله للإنسان الصيني آنذاك.
لكن هناك سبب آخر جوهري وراء تردد قيادات الثورة تجاه مالك بن نبي، وتتمثل في وقوعه تحت تأثير النظام المصري، وهو ما تخشاه الثورة، ولم يكن تقربه من الأجهزة المصرية إلا بدافع إيجاد مكانة لتنفيذ أفكاره، إلا أنه بدل تحقيق هدفه أصبح ضحية لتلاعبات ومناورات المخابرات المصرية دون وعي منه، وهو الذي يعتقد بأنه أشد العارفين بالحروب الخفية، كما وظفه عبدالناصر لضرب الإخوان المسلمين، خاصة أنه كان في خلاف شديد مع منظر الإخوان آنذاك سيد قطب.
لكن الكثير لا يعلم أن بن نبي يظهر من خلال كتاباته أنه غير عارف تماما بمسار الثورة الجزائرية وخباياها، وهذا لا يحسب عليه، لأنه ليس عيبا إن غابت أشياء عن أي مثقف مثله، ويبرز ذلك بجلاء في الكثير من مقولاته ومواقفه من الثورة التي تحتاج إلى مقالة أخرى او ممكن مقالات. ولهذا فبن نبي كمفكر كبير لا غبار عليه أم أن يعتبره البعض كمصدر للثورة الجزائرية فإنه خطا منهجي فادح، لأنه كان بعيد ليس فقط عن الثورة الجزائرية ومسارها، بل حتى عن تنظيمات الحركة الوطنية، خاصة تيارها الإستقلالي المتمثل في نجم شمال أفريقيا الذي سيتحول إلى حزب الشعب ثم الحركة من أجل الإنتصار للحريات الديمقراطية الذي سيؤسس المنظمة الخاصة، ومنها سينبثق جيش وجبهة التحرير الوطنيتين التي ستفجر الثورة التحريرية، وكل مفجريها كانوا من تنظيم حزب الشعب-الحركة من أجل الإنتصار للحريات الديمقراطية الذي كان بن نبي لايعرف عنهم شيئا، وبعيد جدا جدا عنهم، كما كان هؤلاء المناضلين ينظرون إليه نظرة إرتياب، وهو عامل من العوامل التي لعبت دورا في إستبعاده وعدم إحتضانه على عكس فانون.



#رابح_لونيسي (هاشتاغ)       Rabah_Lounici#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل قرأ رشيد بوجدرة فعلا مالك بن نبي؟
- دور بريجنسكي في إنشاء مخربي دول منطقتنا
- ما الهدف من الترويج الإعلامي لكتاب قديم للروائي رشيد بوجدرة؟
- من وضع الجزائر في عين الإعصار؟
- الإستعمار النفسي أعلى مراحل الرأسمالية
- جذور وخلفيات دعوة ترامب إلى عمليات التهجير في الشرق الأوسط
- إتفاق إسرائيل-حماس الأخير بين الوهم والحقيقة
- ما حقيقة مشروع -الولايات المتحدة الإبراهيمية- في الشرق الأوس ...
- دور الإعلام والمجتمع المدني في النظام السياسي البديل
- السلطة التنفيذية والرقابة الشعبية لها في النظام السياسي البد ...
- مسألة الحريات وحقوق الإنسان في النظام السياسي البديل
- تطور تكنولوجيا الإتصالات ومستقبل الديمقراطية في الغرب ومنطقت ...
- تغييب مشكلة السلطة في التراث الفكري الإسلامي وإنعكاساته؟
- مستقبل منطقتنا بين سيطرة الكمبرادورية وسلطة العلم والمعرفة
- تنظيم بديل للمصارف وتمويل المشاريع الإقتصادية
- من أجل نموذج جديد للتنمية
- تنظيم جديد لمؤسسات الإنتاج الإقتصادية وتوزيع الدخل
- مباديء وأسس النظام الإقتصادي البديل
- لماذا فشلت كل الإختيارات الإقتصادية في منطقتنا؟
- هل فعلا الندرة هي وراء المشكلة الإقتصادية؟


المزيد.....




- بلجيكا تستدعي السفير الإسرائيلي لديها على خلفية -خطة غزة-.. ...
- مسؤول إسرائيلي لـCNN: تم الصراخ على رئيس الأركان خلال اجتماع ...
- إدانات أممية وأوروبية لخطة إسرائيل السيطرة على مدينة غزة ودع ...
- مخصص لكشف الأهداف الجوية.. الجيش الروسي يدمر رادارًا إسرائيل ...
- إسرائيل تقرّ خطة -للسيطرة- على مدينة غزة
- قانون دوبلوم: المجلس الدستوري يحظر إعادة إدخال المبيدات المح ...
- الكونغو الديمقراطية تغازل رجال النفط بتكساس لتطوير قطاع الطا ...
- سرايا القدس تقصف حشودا للاحتلال جنوبي غزة
- تقرير -مقلق- للكنيست عن تراجع في عودة الإسرائيليين
- -ادفع لتصبح محمد صلاح-.. هكذا يتلاعب السماسرة بأحلام ملايين ...


المزيد.....

- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي
- كشف الاسرار عن سحر الاحجار / عبدالاله السباهي
- زمن العزلة / عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رابح لونيسي - لماذا فضلت قيادات الثورة الجزائرية فرانز فانون على مالك بن نبي؟