عبدالله بولرباح
كاتب وباحث
(Abdellah Boularbah)
الحوار المتمدن-العدد: 8447 - 2025 / 8 / 27 - 17:35
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، دخلت الدول النامية، وخاصة في العالم الثالث، في دوامة من الديون الخارجية التي تحولت بسرعة إلى أداة ابتزاز اقتصادي وسياسي. وهكذا، تحت ضغط برامج التقويم الهيكلي لصندوق النقد والبنك الدوليين، فرض على هذه الدول التنازل عن دورها التاريخي كفاعل اقتصادي عمومي، عبر تصفية مؤسساتها الإنتاجية وتفويت قطاعاتها الاستراتيجية للقطاع الخاص، تحت شعار "تحرير السوق" و"تشجيع الاستثمار". غير أن بوادر حركات مقاومة أخدت في الظهور والتوسع بعدة مناطق من العالم، تهدف إلى استرجاع الخدمات الأساسية التي تعتبر حقا من حقوق الانسان وملكا جماعيا، من يد الشركات الخاصة إلى يد الجماعات الترابية.
ومن المعلوم أن الليبرالية المتوحشة تعتبر توصيفا لحالة تتجاوز فيها النيوليبرالية، باعتبارها إطارا فكريا وسياسات اقتصادية ذات منطلقات محددة (تحرير السوق، الخوصصة، وتقليص دور الدولة)، حدودها النظرية، لتمارس بصورة تهمش البعد الاجتماعي تماما وتجعل السوق أداة افتراس بدل أن يكون أداة تنظيم اقتصادي.
مر مسلسل استحواذ الليبيرالية المتوحشة على الدول وعلى مقدرات المجتمعات بمراحل متعددة يمكن تناولها باختصار كما يلي:
المرحلة الأولى: تحييد الدولة
مثل تحييد الدولة الخطوة الأولى في مسار الهيمنة النيوليبرالية. ففي مطلع ثمانينيات القرن العشرين، ومع اشتداد أزمة الديون العالمية التي تفجرت إثر ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وانكماش الطلب العالمي، وجدت العديد من دول الجنوب نفسها عاجزة عن سداد التزاماتها الخارجية. هنا تدخل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بوصفهما "المنقذين"، لكن بشروط قاسية تمثلت في برامج التقويم الهيكلي. فرضت هذه البرامج على الحكومات خفض الإنفاق العمومي، وتحرير التجارة، وتقليص الدعم العمومي، وتجميد الأجور، وفتح الأسواق أمام رأس المال الأجنبي. ومع تراجع دور الدولة الاقتصادي، وضعف قدرتها على الاستثمار في القطاعات الإنتاجية والبنية التحتية، جرى الدفع نحو خوصصة المؤسسات العمومية وبيع الأصول الاستراتيجية بأسعار زهيدة، في صفقات شابها الفساد والمحسوبية، مما مهد الطريق أمام ترسخ هيمنة النيوليبرالية على مقدرات هذه الدول.
المرحلة الثانية: إخضاع الخدمات الاجتماعية للسوق
بعد تفكيك الشركات الوطنية وتجريد القطاع العام من قدراته الاستثمارية، اتجهت السياسات النيوليبرالية إلى أخطر حلقات المسار: خوصصة أو شبه خوصصة الخدمات الاجتماعية الأساسية مثل التعليم والصحة والنقل العمومي. تم ذلك عبر تقليص ميزانيات هذه القطاعات، وفتح المجال أمام القطاع الخاص للاستثمار فيها، بحجة تحسين الجودة ورفع الكفاءة. لكن النتيجة كانت اتساع الفوارق الاجتماعية، إذ تحولت الخدمات التي كانت حقا للجميع إلى سلعة تشترى وتباع، تخضع لمنطق الربح والخسارة، تاركة الفئات الفقيرة في مواجهة التهميش والحرمان.
هذا التحول لم يكن معزولا عن سياق العولمة المالية والضغط المتزايد من المؤسسات الدولية، التي رأت في الخدمات الاجتماعية سوقا واعدة للاستثمار، بدل كونها التزاما تضامنيا من الدولة تجاه مواطنيها.
المرحلة الثالثة: تفكيك القطاع العمومي
في أعقاب برامج التقويم الهيكلي التي فرضتها المؤسسات المالية الدولية منذ ثمانينيات القرن الماضي، ومع تزايد الضغط على الموازنات العمومية، وجدت الحكومات نفسها، بعد التفريط في الشركات الوطنية الكبرى، أمام موجة جديدة من الخوصصة استهدفت هذه المرة الخدمات المساندة للإدارة العمومية، مثل الحراسة والنظافة والصيانة. لم يكن ذلك إجراء تقنيا معزولا، بل جزءا من توجه عالمي نحو تقليص دور الدولة في التشغيل المباشر، وتحويلها إلى جهاز إداري محدود الصلاحيات يعتمد على القطاع الخاص حتى في أبسط الوظائف، مما عمق من هشاشته المؤسسية وزاد من تبعيته للأسواق والشركات العابرة للقارات.
المرحلة الرابعة: السيطرة على شرايين الحياة
بعد أن بسطت الليبيرالية المتوحشة هيمنتها على الشركات الكبرى، وأضعفت القطاع العمومي، وأخضعت الخدمات الاجتماعية لمنطق السوق، اتجهت إلى الحلقة الأشد حساسية: مصادرة ما تبقى من الخدمات العمومية المرتبطة مباشرة بحقوق الإنسان الأساسية، مثل الماء والكهرباء والتطهير السائل. تاريخيا، كانت هذه الخدمات تدار باعتبارها حقوقا جماعية غير قابلة للمساومة، تضمنها الدولة لحماية المصلحة العامة. لكن تحت ضغط سياسات الخوصصة واتفاقيات "تحرير الأسواق" التي فرضتها العولمة الاقتصادية منذ التسعينيات، جرى تحويلها إلى سلع تسعر وفق ميزان الربح والخسارة، لا وفق حاجات المجتمع. هذا التحول جعل الوصول إلى الماء الشروب أو الكهرباء امتيازا قابلا للحرمان، وأدخل حياة المواطنين في دائرة الابتزاز الاقتصادي المستمر.
النتيجة: خنق المجتمع وتقليص فضاءات التنفس
بهذا المسار، لم يعد الهدف مجرد "تحرير السوق" من الدولة، بل تحرير الدولة نفسها من واجباتها تجاه مواطنيها. النتيجة هي تحويل المواطن من "مالك جماعي" للخدمات العمومية إلى "زبون" في سوق احتكارية مغلقة، حيث تتحكم الشركات في الأسعار والجودة وشروط الاستفادة. إنها عملية استحواذ على مساحات الحياة المشتركة، وإعادة هندسة العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة على أسس تجارية بحتة.
مقاومة وممكنات الاسترجاع
رغم هذا الزحف، شهد العالم خلال العقدين الأخيرين موجة من المقاومات الشعبية والنقابية والسياسية لاستعادة الخدمات العمومية، عرفت بمفهوم إعادة البلدية (remunicipalisation) في مدن كبرى مثل باريس، برلين، وبوينس آيرس، نجحت التحالفات المجتمعية في استرجاع إدارة الماء والكهرباء والنقل من أيدي الشركات الخاصة إلى أيدي البلديات، مستندة إلى حجج تتعلق بالعدالة الاجتماعية والسيادة على الموارد وضمان الخدمة الشاملة.
تميز المغرب منذ انطلاق المرحلة الأولى لليبيرالية المتوحشة، بوقوف عدد من السياسيين والاقتصاديين المغاربة في وجه السياسات التي فرضتها المؤسسات الدولية، محذرين من آثارها الاجتماعية والاقتصادية. من بينهم علي يعتة، الأمين العام آنذاك لحزب التقدم والاشتراكية، الذي دافع من خلال صحافة الحزب وفي قبة البرلمان، عن دور الدولة في الاقتصاد، كضامنة أساسية للحفاظ على السيادة الاقتصادية الوطنية وتحقيق التطور، وفتح الله ولعلو، الذي فضح في كتاباته وفي البرلمان، اختلالات النموذج الليبرالي، ومحمد بنسعيد آيت إيدر، الأمين العام آنذاك لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، الذي ندد بالتبعية الاقتصادية. كما لعب النقابي نوبير الأموي دورا بارزا في قيادة احتجاجات نقابية ضد التقشف والخوصصة. أما المفكر مهدي المنجرة، فانتقد بشدة العولمة واعتبرها شكلا جديدا من الاستعمار. هؤلاء وغيرهم شكلوا صوتا معارضا قويا، مطالبين بنموذج تنموي أكثر عدالة واستقلالية.
في هذا السياق عرف المغرب في ثمانينيات القرن الماضي عدة انتفاضات تندد بسياسة التقشف. سبق أيضا للمغرب أن عرف حركات احتجاجية بسبب ما أثارته عقود التدبير المفوض للماء والكهرباء التي منحت لشركات أجنبية في الدار البيضاء وطنجة وتطوان، خاصة مع ارتفاع الأسعار وتردي الخدمات، ما دفع بعض المدن إلى التفكير في استرجاع التدبير المباشر.
في الأردن، فجرت خوصصة شركة الكهرباء الوطنية موجة احتجاجات، فيما شهدت تونس نقاشا حادا حول مصير المؤسسات العمومية بعد ضغوط صندوق النقد الدولي.
هذه الأمثلة، وتلك التجارب تثبت أن تفكيك القطاع العمومي ليس قدرا محتوما، وأن إعادة بناء الدولة الاجتماعية ممكن إذا توافرت الإرادة السياسية والتنظيم المجتمعي الفعال.
#عبدالله_بولرباح (هاشتاغ)
Abdellah_Boularbah#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟