خالد سالم
أستاذ جامعي
(Khaled Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8439 - 2025 / 8 / 19 - 12:02
المحور:
الادب والفن
" لكنها تدور يا ملوك الطوائف..."
د.خالد سالم
على ضوء رحيل عظيم آخر من عظام الرواية العربية، صنع الله إبراهيم، يجول مشهد الذكريات، ومن نسالة الذكريات أحاول فيه نسج سجادة من نسالة الذاكرة، زربية عربية نسج خيوطها نفر آمنوا بجدوى مد جسور تواصل بين ضفتي البحر المتوسط في ظروف مواتية سنتئذ، لكن أحداث السنين الأخيرة خيبت الآمال وأضعفت صدى تلك الجهود في الساحة الإقليمية، بعد أن فقدت أوروبا روحها في محنة غزة القائمة، التي صنعتها روح مقولة كيبلنغ "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا".
في زمن تلك الأحلام الذاتية، شهدت إسبانيا اهتمامًا بالأدب العربي الحديث على إثر فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب عام 1988، وبذلك خرج الأدب العربي من دائرة الإستعراب الإسباني، المقصورة على أقسام اللغة العربية، فترجمت أعمال كثيرة، على رأسها حائز النوبل جلها، وأخرين من مصر ودول عربية كثيرة. كان صنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني ضمن القائمة الطويلة . عشنا حالة من النشوة، الشعور بأن لنا أدبًا يُعتد به، وتتسابق دور النشر على ترجمته.
كانت نوبل الأدب العربي اليتيمة فأل خير على نتاج آداب العربية، وكذلك بعض الدراسات المتعلقة بالفكر العربي والإسلامي، بدءًا من المغرب، مرورًا بتونس وليبيا ومصر وفلسطين وسورية وصولاً إلى العراق.
السياق الجديد جعلنا نعيش حالة زهو، لا يدركها إلا من عاش في الغرب وكابد الإهمال لما هو إبجابي في عالمنا العربي والتركيز على كل سلبي. رأينا في هذا الحراك الترجمي والإهتمام الأكاديمي والإعلامي رد اعتبار لأدب ثري يعلوه غبار إهمال الغرب المتعمد لدواعٍ سياسية تغوص في مركزية الذات الأوروبية التي لا ترى سوى نفسها ومن والاها ودار في فلكها الغربي.
كان النتاج الأدبي العربي حبيس دائرة الإستعراب، فلم تكن ترجمة أعمال عربية تزيد على أيام الشهر، ويعود الفضل في ذلك إلى المستعرب الفاعل سنتئذ بدرو مارتينيث مونتابيث الذي عاش وهج الحقبة الناصرية في القاهرة، في نهاية الخمسينات ومطلع الستينات، فكان أول من ترجم نجيب محفوظ وآخرين حمل أعمالهم في خُرجه الثقافي عند عودته إلى مدريد في العام الرابع من العقد السادس.
في خضم ذلك الحراك والنشوة إقتُرحت أسماء كثيرة لترجمة أعمالها، فكان لها ذلك خلال التسعينات. وتبارت دور نشر لها ثقلها في ترجمة الأدب العربي المغيب، وكأن العلاقة كانت قد تجمدت عند الحقبة الأندلسية.
كانت جهودًا فردية متناثرة يضطلع بها غالبًا مستعربون إسبان وبعض العرب المقيمين في إسبانيا. في ذلك السياق كان قد سطع نجم الكاتب الإسباني خوان غويتصولو من منفاه الطوعي بين باريس ومراكش، فاقترب من الثقافة العربية وأدابها، فطُرحت فكرة مشروع دار ليبرتارياس في مدريد وبدء سلسلة "كلمة" لترجمة أبرز أعمال الأدب العربي المعاصر إلى الإسبانية.
كان مشروع دار ليبرتاريس قد ولد قبل حصول محفوظ على النوبل بعام تقريبًا، إلا أن الإجراءات الإدارية والإمداد أدت إلى تباطؤ في بدء التنفيذ شهورًا فكانت مفاجأة نوبل نجيب محفوظ، ما رفع أسعار حقوق الملكية الفكرية للكتاب العرب، وعلى رأسهم نجيب محفوظ، لكن الناشر أنطونيو ويرغا والكاتب خوان غويتسولو، صاحب الفكرة، أصرا على البدء، وكان لي دور في الحصول على هذه الحقوق مجانًا من بعض الكتاب المصريين، من بينهم صنع الله إبراهيم. أما نجيب محفوظ فقد تعقدت الأمور جراء إستئثار الجامعة الأميركية بهذه الحقوق وضاعفتها. وكنت قد سُميت مستشارًا لدار النشر هذه، واختيرت أسماء كتاب لترجمة بعض أعمالهم، أتذكر من بينهم إدوار الخراط، أدونيس، زكريا تامر، محمد المديني، محمد زفزاف، وهشام جعيط الذي تُرجم له كتابه المهم "أوروبا والإسلام"، والإستشراق لإدوار سعيد، وآخرين كثيرين.
كانت رواية "اللجنة" باكورة الأعمال التي تُرجمت لصنع الله إبراهيم، نُشرت عام 1991، وعلى رأس الكتب التي صدرت ضمن سلسلة "كلمة"، ثم تلتها أعمال أخرى، فأخذ يُدعى المؤلف لندوات ولقاءات أدبية، كنت وراء بعضها. أخذ يتنامى الاهتمام بسرد مؤلف "بيروت، بيروت" و"ذات"، وقُورن أسلوبه السردي بأسلوب صاحب "مائة عام من العزلة"، رغم أن الروائي المصري لم يقرأ الكولمبي إلا بعد فوزه بنوبل الآداب عام 1980، ولا العكس.
جاء هذا المشروع الذي اضطلعت به دار ليبرتاريس، لصاحبها سنتئذ أنطونيو ويرغا، تحت شعار عربي "كلمة"، وكانت اختيار اللفظ موفقًا في سياق مشترك، ففِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، بغية مد جسر جديد بين الأدب العربي والمتلقي الإسباني والأميركي اللاتيني ونصب العين التراث المشترك ممثلاً في الأندلس.
كنا نحلم ونريد نجاحًا لمشروع وليد، فوضع كل واحد منا ما لديه من جهد وامكانات، فما كان لصنع الله إلا أن يتنازل عن حقوق الملكية الفكرية، في مخابرة هاتفية بيني وبينه، لم تَدم كثيرًا، إذ استجاب مباركًا هذه الخطوة، ولم يتأخر خطاب تنازله في الوصول إلى مدريد.
ومن يعرف العظيم صنع الله إبراهيم وزهده في الحياة وأسلوب حياته وفكره السياسية والاجتماعي لا يستغرب هذا التصرف. الحقيقة أن هذه الميزة، ممن تعاملت معهم في مشروعات ثقافية، يتقاسمها معه جمال الغيطاني، ولنا جولات من أجل الحضور المصري والعربي في إسبانيا، ندُر حدوثها، أو عُدمت.
كانت حمية الشباب تحملني إلى السعي لتقارب واجب بين ضفتي المتوسط، عكس روح مقولة روديارد كيبلنغ السارية في الشمال، أن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، لكن الواقع المؤلم في علاقة الغرب مع العرب أثبتت عكس نواياي الطيبة، وها نحن نشهد تصفيتهم لأهل غزة. وكلها أمور طفت على السطح في مواقف ومقابلات صاحب "تلك الرائحة". ولا أظن أنه لا يزال يعيش أحلام اللقاء بيننا وبينهم.
وهنا تحضرني طرفة إذ كنت أعد ملفًا لجريدة أخبار الأدب، بينما كان جمال الغيطاني يرأس تحريرها، حول المستعرب الإسباني بدرو مارتينيث مونتابيث، ما حملني على الاتصال بكتاب وزملاء من الجامعات المصرية والإسبانية. كانت المفاجأة أن أحد أبرز المشاركين في الملحق، وهو كانت مشرقي كبير، أرسل لي صورة ضوئية من مقاله، وضنّ عليّ بالأصل! قراءتي كانت أنه لا يريد أن يُباع النص الأصلي يومًا ما! المقال كان يقطر شعرًا لكني دُهشت من تصرف هذا الشاعر الكبير. الأحلام كانت كثيرة، وتحقق جزء لا بأس منها.
كانت رواية "اللجنة" فاتحة خير، بدء علاقة سيالة بين صنع الله إبراهيم وإسبانيا، ما ملأني زهوًا، ورضى عن الذات والنظر إلى العلاقات الثقافية بين مصر وإسبانيا وكلي أمل في تغيير لصالح الثقافة العربية بصفة عامة في هذا البلد الذي نتقاسم معه ماضيًا فريدًا في تاريخ البشرية، ولا يزال ماثلاً رغم براثن الصهيونية ودعاوى اليمين المتطرف بطمس الحضور العربي التاريخي في إسبانيا.
أخذت رقعة النشاط الترجمي تتسع ويضاف إليها كتاب جدد ممن يكتبون بالعربية. فتوالت ترجمة أعمال أخرى لصنع الله، من قِبل دور نشر يشرف عليها مثقفون مستنيرون، أدركوا أهمية هذا الأدب الذي كان مغيبًا لظروف عدة. دُعي صاحب "أمريكانلي" عدة مرات إلى إسبانيا لتقديم النسخة الإسبانية من روايته، كما دُعي للمشاركة في مؤتمرات وندوات، كانت حاضرًا في معظمها.
وهنا تحضرني واقعة محرجة، فبينما كان يلقي بحثه عن ظاهرة الحجاب، التي كانت تستفحل في مصر يومًا بعد يوم، مشيرًا إلى أن الحجاب زُج به إلى مصر بتأثير التيار الوهابي، كما أنه لا يمت للإسلام بصلة. خطاب صنع الله كان معتدلاً وهادئًا، لكن لسوء الحظ كان بين المتلقين أحد الزملاء الذين سافروا إلى إسبانيا لاعداد الأطروحة في جامعاتها، لكنه آثر البقاء هناك وتحول إلى الترجمة وتدريس اللغة العربية. كان سنتئذ معيدًا في معهد اللغات والترجمة -كلية لاحقًا-، في جامعة الآزهر، ومعروفًا بغيرته المتطرفة والمصطنعة على الدين. كان يجلس في مقصورة الترجمة الفورية وعلامات الغضب تعلو وجهه من خطاب صنع الله إبراهيم. وعندما انتهى من الترجمة قصدني كالسهم محتدًا وأخبرني أنه "سينال من الروائي جراء أفكاره العلمانية!" وصلت قلة الذوق إلى أن استهجن اسمه، بدلالته الدينية، يتعارض مع أفكاره هذه. حينها شرح توجه إلي في حديث يشرح كيف أن والده احتار في اختيار اسم للوليد فكان له أن فتح القرآن ووقعت عيناه على عبارة "هذا من صنع الله"، دون أن يعير ذلك المترجم المصري أهمية، ثم رحلنا.
أبلغ صنع الله باعتراضه على بحثه حول الحجاب، وبهدوئه المعهود وثباته في مواقفه وأفكاره، نصحه بأن يطلع على النص القرآني جيدًا، وعلى التفاسير التي لم تخرج من عباءة شيوخ السلطان. لكن المترجم الفوري، المعيد سابقًا، لم يقتنع بكلام الروائي، ثم صب جام غضبي عليّ، متهمًا إياي بأن وراء دعوته للمشاركة في المؤتمر، وكان هذا منافيًا للحقيقة.
عندما خفتت الأضواء عن الأدب العربي وتضاءل الاهتمام بترجمته عاد نتاج صاحب " إنسان السد العالي" إلى الساحة بعد الضجة العالمية التي أثارها رفضه لجائزة الرواية العربية عام 2003، فكان بمثابة صفعة لنظام مبارك، الخبر الذي أفردت له الإعلام الإسباني مساحة، ووصفوا خطابه أمام فاروق حسني وجابر عصفور وأعضاء لجنة التحكيم بالأسطور ووصفه بعضها بالبطل.
لم يتوقف مسلسل ترجمة أعمال صاحب "وردة" إلى اللغة الإسبانية، لعل من بين أبرزها "لعبة إستغماية" التي نشرتها دار الشرق والغرب عام 2013، وقُدت في البيت العربي في مدريد.
آخر عمل له تُرجم إلى اللغة القشتالية كانت رواية "ذات"، في عام 2014، من قِبل دار نشر "ليبروس لا بيينا"، التي أسستها مجموعة من قدامي طلاب جامعة مدريد أَوتونوما، وكانت من بواكير مشروعها في الترجمة والنشر.
شهدت قاعة طه حسين في المعهد المصري في مدريد تقديم بعض أعماله، كان أبرزها رواية "اللجنة" بمشاركتي أنا والناشر أنطونيو ويرغا، وحضور صاحب "نجمة أغسطس"، بينما كان المعهد المصري منارة مصرية عربية في سماء إسبانيا، قبل أن يُجمد في السنوات الأخيرة، ففقدنا صرحًا كان قبلة للمستعربين والعرب في إسبانيا ومقرًا لأنشطة ثقافية جاذبة لجمهور كان يملأ قاعة طه حسين والسلم والردهة المؤدية إلى البوابة.
#خالد_سالم (هاشتاغ)
Khaled_Salem#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟