خالد سالم
أستاذ جامعي
(Khaled Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8386 - 2025 / 6 / 27 - 12:43
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
" لكنها تدور يا ملوك الطوائف..."
الآداب الأميريكية اللاتينية آداب غنية، ويضرب بجذورها الثرية في الحضارات المحلية التي كانت قبل وصول الرجل الأبيض على يد كريستوفر كولمبس. وقد رفدت الآداب الأوروبية والعالمية بتيارات ذاتية، لعل أبرزها الحداثة الشعرية والواقعية السحرية.
من شعراء هذه القارة المجددين الفنزويلي غوستابو بيريرا، فهو شاعر وناقد من نوع غير منتشر في زماننا، يغوص في أعمال الهوية المحلية، تاريخ السكان الأصليين وتراثهم قبل وصول كولمبس وبدء الإستعمار الأوربي لهذه القارة ومياهها.
والماضي في بلد كفنزويلا يكتسب أهمية إذا أخذنا في الحسبان أنها متعددة الأعراق والثقافات بسبب الهجرات التي استقبلها لتضاف إلى ما يُطلق عليهم خطأً الهنود الحمر في الأمريكيتين.
والشاعر غوستابو بيريرا مثقف نوعي، زاهد في المناصب السياسية، وكان في امكانه أن يصل إلى منصب وزير، لكنه يقر أنه يستمتع بالجلوس على مكتبه خلف أوراقه ومسودات دواوينه وكتبه، مؤثرًا عدم بعثرة جهده والانكفاء على مهامه الأدبية والفكرية. وهو في هذا يختلف مع مثقفي هذا العصر بصفة عامة، والمرة الوحيدة التي كسر فيها هذا الخط هو قبوله رئاسة لجنة الثقافة في مجلس النواب التأسيسي عام 1999، واكتفى بكتابة مقدمة الدستور الفنزويلي. وضمنه قوانين ثقافية جوهرية تحفظ هوية الوطن ، وألح على أسباب وحقائق جوهرية للدفاع عن حقوق الإنسان في مقدمة الدستور.
ولد الشاعر غوستابو بيريرا عام 1940، في جزيرة مارغاريتا، وإلى جانب نظم الشعر فهو ناقد وأستاذ جامعي. حصل على الدكتوراه من جامعة باريس، ثم أسس قسم العلوم الإنسانية والعلوم الإجتماعية ومركز البحوث الإجتماعية الإنسانية. وأسس مجلة تروبيكو أونو" الأدبية Revista Tropico Uno .
حاز بيريرا العديد من الجوائز،أولها كانت جائزة الشعر للشباب من الجامعة الوطنية (1965)، وجائزة شعر بلدية كاراكاس (1988)، وجائزة فوندارتي للشعر Fundarte (1993)، وجائزة بينالي خوسيه أنطونيو راموس سوكري الأدبي الثاني عشر (1997). لكن أبرز الجوائز كلها هي الجائزة الوطنية للأدب في فنزويلا (2000).
له العديد من الدواوين والكتب الفكرية من بينها ديوان "الرشد المفقود"، Razon perdida.، الذي نشره عام 2022. وعنوان الديوان يحمل المتلقي على التوقف. فعند بدء قراءة "الرشد المفقود" والولوج فيه تتجسد خواطر وتُطرح أسئلة سريعة، من بينها: هل نحن أمام شكل جديد لشعر الهايكو الياباني الذي أدخله إلى أميركا اللاتينية الشاعر التشيلي المنسي بيثنتي ويدوبرو Vicente Huidobro في النصف الأول من القرن العشرين؟
وهذا يؤدي إلى طرح سؤال: هل نحن أمام ديوان يقوم على التنافي الدلالي، أو التناقض اللفظي، فالرشد يتنافى مع المفقود. والتناقض مجاز لغوي يتضمن استخدام كلمتين متعارضتين في المعنى، مثل: اضطراب منظم أو عاطفة باردة، أو شبل أسد مفترس…. قد يبدو هذا الجمع بين المصطلحين المتناقضين مستحيلاً أو عبثيًا للوهلة الأولى. وهو تركيب، بنفس البنية النحوية، لكلمتين أو تعبيرين لهما معنيان متضادان، لكنهما يُنتجان معنى جديدًا، كما في الصمت المطبق.
وهذه الدلالة تتكرر في قصائد ديوان "الرشد المفقود" ، فعلى سبيل المثال يقول:
سومارية تحت المطر الليلي
في الضباب المعتم لبكور الميناء
أنت
مُصِرّ على الجَرْح بألف طعنة خنجر
من أين تأتي بحق الشياطين؟
وللشاعر رأيه بخصوص عنوان الديون إذ يقول: "أطلقت على مجموعتي الشعرية الأخيرة اسم "العقل المفقود"، أو الرشد المفقود، لأن نظم الشعر في هذا الزمان يعادل فقدان الصواب، فنحن نعيش في عالم تهيمن عليه النخب التي تمارس وتعزز الفردية البراغماتية المناهضة للشعر. لكن لحسن الحظ، هناك، وسيظل هناك دائمًا، أناسٌ تُمثّل قيمُ حساسية الشعر المُتمردة، بالنسبة لهم، ما هو إنسانيٌّ حقًّا، مُقارنةً بقيمِ الحيوانيةِ البدائيةِ المُضادة. وهم مَن يُمهّدون الطريقَ الشاقَّ".
تبدأ هذه المجموعة الشعرية بقصيدة سومارية تليها قصائد أخرى تحمل العنوان نفسه. والقصيدة السومارية من ابداع غوستابو بيريرا نفسه، وهي مرآة للواقع الثقافي اليومي، مكتوبة بلغة الحياة اليومية، وقد خصص لهذا النوع من القصائد ديوانًا كاملاً،بعنوان "سوماريات، أصدره عام 1974، Somaris. والسومارية مُصغّراتٌ، منمنمات،تكشف عن كمال الفعل الشعري. إنها بمثابة دفقاتٍ من البصيرة في الحالة الإبداعية، تتجاوز الملموس.واللفظ بالإسبانية Somari، وقد اِرتأى د. علي البمبي، مترجم الديوان، نسخ الكلمة مؤنثة من منطلق أن كلمة قصيدة مؤنثة في العربية، أي المقابل العربي لكلمة Poema الإسبانية. وهي قصيدة قصيرة، وكثيرًا ما يتم الخلط بينها وبين المثل والحكمة المأثورة ذات الطبيعة الحكيمة، والمتعلقة بالأمثال الشعبية، والفقيرة في الموارد:
سومارية
مِنّة الفِرار ليست بسبب تضاؤل التفاؤل
بل لأنك تجهل كُنْه المكيدة
التي تنتظرك في الرحيل
وهذه القصائد الحرة والموجزة والقوية تميز الشكل الإبداعي لغوستابو بيريرا، وفيها رؤية نقدية للزمان الذي يعيشه العالم، وخاصة في أميركا اللاتينية التي تدور ضمن العالم الثالث رغم كونها امتدادًا للعالم الغربي. اكتشف غوستابو بيريرا هذا النوع من القصيدة المقتضبة في بحثه عن شكل شعري فريد، فتوصل إلى هذا المسمى الذي يضرب بجذوره في ثقافة السكان الأصليين لفنزويلا.
وقصائد الديوان فيها تكثيف في الدلالات والكلمات، ومن أبرزها سومارية تقترب من لغة الحياة اليومية والفلسفية، ويسعى من خلال هذه "القصائد القصيرة"، لإثارة مناوشات ذهنية تسعى إلى التوفيق بين زوال الحياة، والفكاهة، والخسارة، والحماقة، والعصيان.
درس الفلسفة الأول
يبتدأ الأمر بإعلان مبدأ الوجود،
دون أن يكون هناك يقين يعادل الوجود،
أو لا وجود لمبدأ
وعندئذ عندما يُقال وجود، فلا يعني هذا التواجد
أو بالأحرى يُقال
تَواجد بلا وجود
أو وجود بلا تواجد)
* وتكشف السومارية عن المخفي، ويرتبط جمالها بلغة صارمة وموحية، ولكن دون منعطفات بلاغية، حيث يكمل الصمت البيت، " فالمبتور أو الهارب هو الذي يبقى ويدوم. وكما كتب أحد النقاد، قال: " إن الإرادة المعلنة بأن القصائد هي أفعال تظهر في السومارية، وأعتقد في هذا الصدد أنها تتفوق علينا في تجليها كإلهام موجز أو "قطعة أثرية."
هذه الصيغة الشعرية، المتمثلة في محتوى "الرشد المفقود" ، المستحدثة تمثل شكلاً شعريًا يتميز بالإيجاز والاختصار اللفظي، وعمق الجملة، بأسلوب أصيل يجعله سمة مميزة لعمله، الغني أيضًا بتنوعه.
سومارية التشاؤم (النسخة الأولى)
لو كان التشاؤم يُفيد في شيء
لتحّوّل عندئذ إلى تفاؤل.
وهذه القصائد قصيرة، سوماريس، تتخذ ه شكلًا محددًا كالهايكو والتانكا اليابانيين أو السوناتات الإيطالية، أو الأبيغرامات اليونانية ، لكن القصيدة الوليدة تتميز بالإيجازها، وحرية شكلها، وتعدد ألفاظها، واختصارها في أغلب الأحيان. والديوان ينم عن قدرة عظيمة على الإيحاء البسيط في الشعر الموروث من تراث فنزويلا الشعري. وقد جاءت بعض قصائده كقصف جبهة أو لدغة، لذلك خرجت الموازاة بين السومارية والإبيغرام أو الحكمة الساخرة. وتتميز بكثافتها:
سومارية من يشتاقون إلى الجنة
من يشتاقون إلى جنة الخارج
يمضون بقية أيامهم
محاولين إلقاء حَطَب
على النار التي تستهلكهم في الداخل.
هذا الديوان لشاعر يعيش حياة الناسك، الزاهد، المنكب على نتاجه الفكري والشعري، يمثل خطوة جديد لتمايز الشعر الفنزويلا في زمن رفض القهر، اللايقين، والرغبة في الحياة. وهو كشف جديد في دنيا الشعر في أميركا الناطقة بالإسبانية. وبقدر إجادة الشاعر في نقل ما في جوفه فإن المترجم، الدكتور علي البمبي، لا يقل إبداعًا في نقل قصائد الديوان إلى العربية.
وقد تُرجم هذا الديوان وثلاثة دوواين أخرى لشعراء فنزويليين استعدادًا لمشاركة مصر ضيف شرف معرض فنزويلا الدولي للكتاب، في العاصمة كاراكاس، في الفترة من 3 إلى 13 يوليو المقبل، لتكون أول بلد يُشارك بهذه الصفة من خارج الدائرة اللاتينية، وإيمانًا من مصر بالقوة الناعمة المتمثلة في صناعة ثقافتها، وعلى وجه الخصوص صناعة الكتاب. وهو الحدث الذي عبأت له طاقات كبيرة من خلال وزارة الخارجية والثقافة والهيئة العامة للكتاب والمركز القومي للترجمة ودور نشر خاصة، الطاقات التي تتمثل عشرات العناوين المترجمة غلىة العربية وبعض المؤلفة بالإسبانية.
#خالد_سالم (هاشتاغ)
Khaled_Salem#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟