أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - حميد بوعمال - الجزء السادس: في رحاب المدرسة














المزيد.....

الجزء السادس: في رحاب المدرسة


حميد بوعمال

الحوار المتمدن-العدد: 8435 - 2025 / 8 / 15 - 08:26
المحور: سيرة ذاتية
    


أثناء فترة الاستراحة، كنا نلعب لعبة البلي في ساحة المدرسة. كنّا نشكّل فرقًا صغيرة، ينقسم فيها الصف إلى عصابتين من الأطفال، كلٌّ يسعى للفوز بما في جيب الآخر. كنا نحفر حفرة صغيرة في التراب، ونحدد لها مسافة، ثم تبدأ المنافسة: من يصيب ومن يخطئ، من يربح ومن يخسر كراته الزجاجية الملونة التي كنّا نحرسها كما يُحرس الكنز. كنت ألعب في فريقٍ مع أصدقاء الطفولة،كنّا نضع كراتنا تحت أشعة الشمس، نفتخر بما فيها من لمعان، ونبالغ في تقدير قيمتها، فكل كرة كانت تحمل اسمًا، وقصة، وانتصارًا أو هزيمة.

صوت الجرس كان يقاطعنا فجأة، فنهرول إلى الصف محمّلين بغبار اللعب، وقلوبنا لا تزال في الساحة، حيث تنتظرنا جولة أخرى، وربما انتقام آخر من الهزيمة.

كانت ساحة المدرسة عالمًا واسعًا رغم ضيقها، تتخلل أطرافها بضع شجيرات الكالبتوس التي كنا نحتمي بظلها. و على جنبات الاقسام بعض المزروعات التي عمل التلاميذ على غرسها فقط لتزيين الساحة، لا تقي من حر الشمس. هناك، بين ركن الحائط وباب القسم، كنا نخطط لألعابنا ونتآمر على الوقت.

بعد جولات البلي، كنا ننتقل إلى لعبات أخرى: السبع حجار، نرتب الأحجار الصغيرة فوق بعضها ثم نرشقها بكرة قماشية قديمة، نركض، ونتصايح، ونتفرق في الفوضى، بينما يحاول الفريق الآخر إعادة ترتيب الأحجار قبل أن يُمسك بنا. كانت صرخاتنا تعلو، وأحيانًا يسقط أحدنا فيضحك الآخرون ويُكملون اللعبة دون شفقة.

في الزوايا الأكثر هدوءًا، كان بعض الأطفال يجلسون القرفصاء، يتبادلون أوراق اللعب القديمة أو بطاقات لاعبي كرة القدم، يحلمون بأن يجمعوا صور بعض اللاعبين المعروفين أمثال زيدان أو رونالدو، كما لو أن حيازة تلك الورقة تعني امتلاك شيء من المجد.

أما البنات، فكنّ يجتمعن في دائرة صغيرة، يلعبن الحجلة أو يتبادلن الأناشيد المدرسية، أصواتهن خفيفة، وأقدامهن تقفز فوق مربعات مرسومة بالطباشير، تنبع من لعبهن براءة لا تشبه صخبنا الذكوري.

وكان هناك من لا يلعب، يجلس قرب الحائط بصمت، يراقب، أو يفتّش في حقيبته عن كسرة خبز، أو ربما يحمل دفتراً يرسم فيه شيئًا لا نفهمه، لكنه يفهمه جيدًا.

تلك الساحة، على ضيقها، كانت وطنًا صغيرًا. فيها تعلمنا أن نفرح، وأن نحزن، وأن نخسر دون بكاء، وأن نربح دون غرور، وأن ننتظر الجرس... كأنه ساعة قدر.

وفي فترة الغداء، كان كلّ شيء يتغيّر في المدرسة. تختفي الفوضى، ويهدأ الصراخ، وتبدأ طقوسنا الخاصة. كنا نجتمع في أماكن قمنا بتخصيصها لهذا الغرض، لا أحد طلب منا ذلك، لكننا فعلناه بالفطرة، كأننا نُعيد ترتيب العالم على طريقتنا.

كان بعضنا يفضل الجلوس وراء الأقسام، مستظلين بجدرانها المتشققة، محتمين من الشمس، يتكئون على محافظهم ويمضغون ما في لفائفهم من خبز وزيتون أو بيض مسلوق. والبعض الآخر كان يتجه نحو النخلة العجوز قرب منبع العين، يجلسون تحت ظلّها المتداعي، يضحكون ويملؤون قنانيهم بماء العين البارد.

أما أنا، فقد كنت مع بضعة زملاء نختار مكانًا لم يكن يُغري أحدًا: المقبرة. كانت خلف المدرسة، يغزوها شوك وأعشاب برية. لم نكن نخافها، بل أحببناها بطريقتنا. كانت لنا فيها جلسة هادئة لا يزعجنا فيها أحد. كل واحد يخرج ما هيأته له أمه: قطعة خبز، علبة سردين، أو تمر وحليب، لكن لا أحد منّا كان يستغني عن الوجبة المفضلة: الشاي بالنعناع في قنينة زجاجية، ملفوفة في قطعة قماش كي تبقى دافئة.

كنا نفتح القنينات بحذر، نتناوب على سكب الشاي في أغطية صغيرة، ونشربه ببطء، وكأننا نُقيم طقوسًا مقدّسة بين قبور لا تشتكي، ونخوض حوارات صامتة مع الموت، ونحن نأكل ونضحك. لم نكن نفهم معنى المقبرة تمامًا، لكنها كانت بالنسبة لنا مكانًا بلا قوانين، بلا معلمين، بلا جرس يفرض علينا الانصراف.

أحيانًا كنا ننسى أنفسنا هناك، نحكي القصص، نختلق الأشباح، نتخيل الأرواح تتسلل من القبور، لكننا نضحك أكثر مما نخاف. المقبرة لم تكن موحشة كما يتخيلها الكبار، بل كانت لنا بيتًا آخر، نعرف شواهد قبوره واحدًا واحدًا، وكأننا نعرف من يرقد تحتها.

ذلك الشاي بالنعناع، وسط المقبرة، وتحت سماء زرقاء تراقبنا بصمت، ما زال في ذاكرتي أطيب مذاق عرفته طفولتي.



#حميد_بوعمال (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجزء الخامس : الطريق إلى مدرسة عين القصب(2)
- الجزء الرابع: الطريق إلى مدرسة عين القصب(1)
- الجزء الثالث : بيتنا الأول
- الجزء الثاني: بيتنا الأول
- الجزء الأول: بيتنا الأول
- موقد الذكرى
- حين يبكي الطلل


المزيد.....




- -هدد بالمغادرة-.. أبرز تصريحات ترامب قبل قمة ألاسكا مع بوتين ...
- نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى
- اليابان على أعتاب تحول إستراتيجي من إرث السلام إلى الاستعداد ...
- 41 شهيدا بغزة والاحتلال يدفع بقوات إلى حي الزيتون
- دعوى قضائية لوقف سيطرة ترامب على شرطة واشنطن
- وفرة في الشهادات وندرة في المناوبين.. أين يذهب أطباء الأردن؟ ...
- قمة ترامب وبوتين.. ما أسباب اختيار ألاسكا تحديدا؟
- زيلينسكي: حان الوقت لإنهاء الحرب ونعتمد على واشنطن
- نواف سلام يرد على ‏-تهديدات- أمين عام حزب الله
- قمة ألاسكا.. الكرملين يكشف -طريقة الاستقبال- ومدة المحادثات ...


المزيد.....

- أعلام شيوعية فلسطينية(جبرا نقولا)استراتيجية تروتسكية لفلسطين ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة / تاج السر عثمان
- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - حميد بوعمال - الجزء السادس: في رحاب المدرسة