جواد بولس
الحوار المتمدن-العدد: 8435 - 2025 / 8 / 15 - 02:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أكّد بنيامين نتنياهو خلال مقابلة صحفيه أجراها مع فضائية i 24 الاخبارية يوم الثلاثاء المنصرم على "انه مرتبط جدا برؤية "إسرائيل الكبرى، التي تشمل فلسطين وأجزاء من الأردن وسوريا ولبنان ومصر" .
لقد كُتب في الماضي على أن بنيامين نتنياهو الحقيقي، يؤمن "بحق" اليهود باقامة اسرائيلهم الكبرى، ويعمل من أجل تحقيق ذلك؛ فتصريحه الحالي، لم يأت كاسترضاء تكتيكي لحلفائه في الحكومة من الأحزاب الدينية والقومية المتطرفة، ولا كاستعراض استفزازي لبعض الدول العربية والاسلامية والأوروبية التي اعترضت في الآونة الأخيرة على سياسته الحربية.
لقد تعمّد نتنياهو اطلاق تصريحه في هذه الأيام بالذات ليوصل رسالة مطمئنة وواضحة لمؤيدي حكومته أولا، وليؤكد أمام "المجتمع الدولي" نوايا حكومته الجدّية ومخططها لترسيم خارطة جديدة للشرق الأوسط تتوسطها حدود إسرائيل الكبرى. وإذا توقفنا عند احتمالات تحقيق هذه الرؤية في الأوضاع السياسية الراهنة في منطقتنا وتقاطعها مع سباقات الدول الكبرى على تثبيت امتيازاتها في إرث امبراطورية "سايكس-بيكو" المتهاوية، سنجد أنه ماض في ترسيخ احتلاله لفلسطين فعليا، وقادر على ضم أجزاء من سوريا الرهينة عند نظام الجولاني صنيع أمريكا واسرائيل. أمّا حلمه باحتلال أجزاء من لبنان فقد يكون مستحيلا، إلّا اذا عادت دولة "المواطفين" (مواطن/ طائفي، والتعبير من نحت الاستاذ نصري الصايغ) الى جنونها اللبناني المهلك. وتبقى قصة المملكة الأردنية الهاشمية لغز نتنياهو المفضوح؛ فهو يتحدث عن عقيدة قديمة تؤمن بحسبها قطاعات واسعة داخل المجتمع اليهودي بأن الدولة الفلسطينية المطالب بها موجودة عمليا في الأردن وبأن لإسرائيل يوجد"حق تاريخي توراتي" على أجزاء من ضفة النهر الشرقية، تماما كما كتب وغنى جيل الأب الروحي لنتنياهو، زئيف جابوتنسكي : "يوجد ضفتين لنهر الأردن ، هذه لنا والثانية لنا أيضا "، وهو النشيد الذي تربت عليه وما زالت تغنيه أجيال بعد أجيال في حركات اليمين الصهيوني.
لقد أغضب تصريح نتنياهو جهات دولية عديدة؛ لكنني أعتقد أن الغضب الأردني الرسمي هو الأصدق ؛ لأنهم في الأردن يَعون خطورة التصريح في الظروف السياسية المتقلبة. لقد اعتبر الأردن وبحق أن تصريحات نتنياهو تعتبر "تصعيدًا استفزازيا خطيرًا وتهديدًا لسيادة الدول ومخالفة للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة"، ودعت الخارجية الأردنية الى ضرورة "تحرّك المجتمع الدولي فوريا لوقف جميع الاجراءات والتصريحات التحريضية الاسرائيلية والمهددة لاستقرار المنطقة والأمن والسلم الدوليين". سوف يعرف الأردن كيف يدافع عن سلامة أراضيه وكيف يحمي الاردن/الوطن؛ وسيعرف كيف يواجه خبائث ومكائد حكومة نتنياهو ومن يدعمها داخل اسرائيل وخارجها؛ لكن الخوف الحقيقي سيبقى على مصير فلسطين والفلسطينيين الذين لا يواجهون اعلان نوايا وحسب بل حربا حقيقية تستهدف، كما أعلنت حكومة نتنياهو وجيشها، احتلال الأرض الفلسطينية وتهجير من يبقى عليها من سكانها الأحياء.
لقد فقدت فلسطين كثيرا من عناصر قوتها، وأهمها فقدانها لاستقلالية قرارها، صائبا كان أم خاطئا. فبعد أن كانت قضيتها قضية تحرير شعب يرزح تحت الاحتلال أصبحت مرآة لصراعات "النظام الدولي" وميدانا تتقاطع فيه وعليه مصالح الدول المتنافسة.
ليس صعبا أن نوجز، ولو بعجالة، أدوار الدول الشريكة في صناعة المشهد الشرق أوسطي الحالي. فسنجد أمريكا تتصدّر الأحداث ببقائها كما كانت مظلة الحماية الدائمة لاسرائيل، وداعمتها الوثيقة الأولى، سياسيا وعسكريا واقتصاديا. أمريكا تنحاز لاسرائيل بشكل ممنهج وبثبات أعمى لم يتأثر من تعاقب إداراتها عبر العقود الماضية. ورغم أنها تعلن دعمها "لحل الدولتين" لكنها لم تدفع لانجاز هذا الحل بشكل صادق وحقيقي ولا مرة، فدأبها كان، ولم يزل، المحافظة على"تخثير" الصراع كي تبقى قادرة على إدارته بدون نيّة لحلّه.
أما حضور روسيا في النزاعات الدولية فقد ضعف بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، إلّا أنها عادت واستعادته في عهد الرئيس بوتين. تحتفظ موسكو بخطاب مؤيد للحقوق الفلسطينية، لكنها نادرا ما اتخذت خطوات حاسمة وعملية في سبيل تغيير موازين القوى على الأرض. تحافظ روسيا على علاقات وثيقة مع اسرائيل وتحرص ألا تتزعزع هذه العلاقات، خاصة بعد تداعيات ملفي سوريا وأوكرانيا وتورط الروس فيهما. تعلن روسيا أنها تقف الى جانب فلسطين، لكنها في الواقع، لم تستطع منع الحرب على غزة أو ايقافها، ولا أن توقف طوفان القمع والقتل في الضفة كما وانها لم تمنع هزيمة حليفها في لبنان - حزب الله، ولا أن تنقذ نظام ابنها المدلل بشار الأسد. أما عن دورها في المواجهات مع ايران فالتاريخ سيحكم !
واذا انتقلنا للصين، فسنجد أن نظامها يتبنّى هو أيضا في المحافل الدولية خطابا داعما لفلسطين، إلّا أنه تلتزم في المواقف العملية والمفصلية، الحذر. لقد كانت الصين تاريخيا أكثر قربا لمنظمة التحرير في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي؛ لكنها، بعد انخراطها العميق في بنى الاقتصاد العالمي وتعقيداته، تموقعت في خانة أبعد ممّا سبق. وبعد توطيد علاقاتها التجارية مع اسرائيل وتحسبها من تأثير اسرائيل على النظام المالي العالمي، بدأت تتجنب أي صدام مباشر معها. فاذا راجعنا مواقف الصين في السنوات الأخيرة سنجد أنها الى جانب وقوف قيادتها الدائم مع القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، بدأت هذه القيادات تعتبر ملف القضية الفلسطينية ورقة ضمن أوراق سياستها الكبرى على طريق بناء النظام العالمي متعدد الأقطاب.
ويبقى ملف الدول العربية هو أغرب الملفات؛ فتاريخ علاقات هذه الدول بالقضية الفلسطينية يحتاج الى مئات المجلدات، على أن يخصص جزء كبير منها لجمع بيانات الشجب والاستنكار التي أطلقها زعماء تلك الدول، منفردين ومجتمعين، ضد اسرائيل؛ ويخصص ما بقي للمكشوف من ذاك التاريخ والمستور منه. أما نهاية التوثيق فستكفيها قصاصة ورق كتلك التي كتبها شهيد معركة القسطل، عبدالقادر الحسيني، وتركها على طاولة الأمين العام للجامعه العربية في السادس من أبريل عام 1948، وخاطب فيها حكام العرب، بعد أن خذلوه، قائلا لهم: "إني أحملكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي في المعركة في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح". مرت العقود ولم يتغير حال العرب كثيرا .
كما ولن يغفر التاريخ دور الدول الأوربية التي كانت شريكة أساسية في خلق المأساة الفلسطينية وتداعياتها الدموية. إن تغيير مواقف بعض الدول الاوروبية واعتراف بعضها بفلسطين هو تطور لافت وهام، لكنه، اذا لم يُفضِ الى لجم التوغل الاسرائيلي وانهاء الاحتلال، فستبقى اعترافاتهم مجرد اعلانات "تجارية" معلقة على صفحة الضمير في أسواق تتاجر باللحوم البشرية .
والى تركيا التي تستثمر حكومتها في فلسطين المسلمة كي ترتفع أسهمها الاسلامية في بورصة السياسة التركية الداخلية. تركيا تتدخل في المنطقة من أجل تركيا وترعى الانقسام الفلسطيني وتعززه بكل وسيلة ممكنة تعزيزا لمصلحتها. تركيا تعادي اسرائيل بالعلن لكن علاقاتها الديبلوماسية والتجارية مع إسرائيل بقيت متينة وثابتة، قبل سقوط نظام الأسد وصارت بعد سقوطه قضية مصيرية ستضمن لها قسمة توافقية للغنائم .
بالموجز، لا يمكن الاستهتار بتصريح نتنياهو وعزمه على اقامة اسرائيل الكبرى؛ ولا يمكن التعويل على "المجتمع الدولي" الذي لا تحسب له أمريكا حسابا، وإذا بقيت الصين وروسيا توظفان الملف الفلسطيني في لعبة النفوذ مع الغرب وتحسين موقعيهما داخل النظام العالمي الجديد، واذا بقيت الأنظمة العربية رهائن للحماية الأمريكية ولدعم وكيلتها اسرائيل.
سيقول البعض: لولا موقف الاخوة العرب والمسلمين وحلفاء فلسطين المعلنين لكان وضع الفلسطينيين أسوأ وهذ منطق يرفض العقل قبوله ويجيب عليه أطفال غزة صارخين: وهل بعد هذا الجحيم جحيم ؟!
قد يساعد المجتمع الدولي فلسطين، ولكن، وهذا أهم من جميع ما ذكرنا، لن يُجدِ فلسطين شيئا، اذا بقيت ممزقة، وحماس تفاوض على مصير غزة وهو مفصول عن مصير فلسطين.
#جواد_بولس (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟