زياد جيوسي
كاتب واعلامي
الحوار المتمدن-العدد: 8429 - 2025 / 8 / 9 - 22:47
المحور:
الادب والفن
بقلم: زياد جيوسي
لعل عنوان المعرض التشكيلي "همهمات الصخور" للفنانة الأردنية من أصول قوقازية فاديا ماتوخ هو أول ما شدّني لحضور المعرض الذي افتُتح في قاعة زارا سنتر في عمّان مساء 2/10/2024. فقد أنسنت الفنانة الصخور، وجعلت منها كائنات حيّة تتنفس وتصدر همهمات، آخذة بيد المتأمل في اللوحات إلى رحلة خيالية بين صخور البتراء الوردية والملونة، والسيق والخزنة في إحدى وعشرين لوحة، وبين شروق وادي رم وغروبه، وأعمدة الحكمة السبعة، ونقوش الطبيعة والجبال، والنقوش الحجرية في ثماني عشرة لوحة. كنت أقف بصمت وأشعر بالصخور تلقي على مسامعي قصائد ملونة بنكهة المكان وسحره، فلكل مكان طعم وملمس وعبق خاص، وبين صخور البتراء وسحر وادي رم وجدت نفسي كفراشة هائمة بين وردتين، تستحضر ذاكرتي شريطًا من الزيارات والجولات السابقة لهذين المكانين، ومئات اللقطات التي وثّقتها عدستي لسحرهما.
البتراء...
كان المحور الأول في المعرض مخصصًا للبتراء، حيث ركزت الفنانة على أربعة محاور أساسية. خصصت اثنتي عشرة لوحة لصخور البتراء الملونة، التقطت فيها بعينها الفنية جمالية الصخور التي هي بحق إبداعات الخالق في الطبيعة، وحوّلتها من صخور صمّاء إلى لوحات فنية نابضة، تكشف جماليات قد تمرّ على كثير من الزائرين دون انتباه خاص. بعضهم يكتفي بالإعجاب العابر، وقليلون هم من يلتقطون هذا الجمال ويحيلونه إلى فن خالد، سواء عبر الريشة أو عدسة التصوير. والفنانة هنا لم تكتفِ بنقل جمال الصخور بالألوان، بل مزجت في العديد من اللوحات حصى ورمال هذه الصخور، فجاءت اللوحات نافرة الملمس، أقرب إلى القلب، وكأننا نستمع فعلاً لهمهمات الصخور.
في غالبية هذه المجموعة، لجأت الفنانة إلى التكوينات العمودية، محاكية المشهد الشاهق لصخور البتراء. اعتمدت الأسلوب البنائي الفني، مما منح اللوحات مهابة وقوة، وأشاع الاعتزاز بتراث الأجداد الأنباط. فقد حولت الصخور من مادة جامدة إلى مشاهد بصرية تخلق علاقة وجدانية بين المشاهد والصخور، مستخدمة خطوطًا لونية متموجة ومنحنية، مبتعدة عن الخطوط الحادة، وهو ما جعل الصخور تتأرجح بين الثبات والحركة.
كما نجد أن عشر لوحات اعتمدت على تصوير مقاطع منتقاة من الصخور، تبرز تفاصيل الخطوط الطولية والأفقية والمنحنية، بينما لوحة واحدة فقط خرجت عن هذا النمط، فصورت كتلتين صخريتين متجاورتين، تاركة للمشاهد حرية التوقف عند الجمالية العامة أو الغوص في التفاصيل. وفي هذه الأعمال، وزعت الفنانة المساحات اللونية والخطوط والانحناءات معتمدة التباين، فجاءت كل لوحة كمقطوعة موسيقية، بينما جاءت لوحة الكتل الكبيرة والمتجاورة في قلب التكوين، محاطة بمساحات من السماء والأرض كمتنفس بصري.
أما المحور الثاني للبتراء فكان عن السيق، الممر الضيق بين جبلين المؤدي إلى قلب المدينة وساحتها حيث الخزنة، التي شكّلت رمز البتراء عبر العصور. خصصت الفنانة ست لوحات طولية لإبراز الجمال العمودي لصخور السيق، مبتعدة عن النمط المألوف الذي يركّز على نهاية السيق مقابل الخزنة، إذ ركزت خمس لوحات على ارتفاعات الصخور وجماليتها التي تصل إلى ثمانين مترًا والتي نحت الأنباط جزءًا منها، مع تباين ألوانها بفعل انعكاسات الشمس، فيما لوحة واحدة فقط أظهرت المشهد التقليدي للخزنة في نهاية الممر.
المحور الثالث تناول النقوش المنتشرة في البتراء، خصوصًا في السيق وهي رموز من حروف وأشكال مختلفة، ومنها منحوتة قافلة الجمال، والرموز النبطية الوثنية قرب قنوات المياه بسبب ايمان الأنباط بقدسية المياه، ونقوش باليونانية القديمة تشير إلى شخصية تاريخية تدعى سابينوس. بجوار منحوتات "أصنام سابينوس" تشير انه كان ابنا للاسكندر، وأمر بنحت هذه المنحوتات تكريما للآلهة النبطية، رسمت الفنانة لوحتين لهذا المحور، إحداهما لقافلة الجمال، والأخرى لمنحوتات رمزية وأشكال حروف يونانية. أما المحور الرابع والأخير للبتراء فكان لوحة واحدة للخزنة، إذ كان تركيز الفنانة منصبًا على همهمة الصخور أكثر من الرموز المعمارية.
وفي مجموعتها عن البتراء، تميزت الفنانة بمزج الخيال مع الرؤية الواقعية مع تعدد الأساليب الفنية ووحدة الفكرة، فأدخلت ألوانًا غير مألوفة في طبيعة المكان، مثل البنفسجي والأزرق الفيروزي، ودمجتها مع ألوان وتكوين الصخور الجيولوجية الحقيقية، مما خلق إحساسًا بصريًا جديدًا وخروجًا عن المألوف. اعتمدت التباين بين العتمة والنور، والشمس والظل، فأعطت اللوحات أبعادًا بصرية تلامس روح المشاهد وتجعله وكأنه يستمع لموسيقى وأشعار بصرية.
وادي رم
انتقلت الفنانة بعد ذلك إلى سبعة محاور عن وادي رم، أو كما يُسمى "وادي القمر". كان الغروب محورها الأول، حيث أولته اهتمامًا خاصًا. ومعروف أن غروب الشمس في وادي رم له سحره الخاص؛ فالزوار عادة تُقلّهم مركبات الدفع الرباعي عبر الوادي للتمتع بالمشاهد، وتنتهي الرحلة إلى منطقة رملية واسعة يجلسون فيها موجهين أنظارهم نحو الغرب، انتظارًا للحظة الغروب الساحرة. وقد جسدت الفنانة هذه اللحظات في ست لوحات، أبرزت انعكاسات الشمس على الصخور قبل غيابها، فخلقت تباينًا لونيًا بين الظل والنور، مع توزيع المشاهد في اللوحة بين كتل صخرية معتمة وأخرى مضاءة جزئيًا. معتمدة في اللوحة على خلق ثلاثة مشاهد متجاورة للصخور، مجموعة على اليمين معتمة، ومجموعة الوسط منارة تقريبا وعلى الأرض أمامها، والثالثة منارة والظل يغطي وسطها حتى القاعدة، وكان التعبير باللون يعطي هذه اللوحة التوجه للتأمل بجمال تباين النور وانعكاساته، علما أن المساحة للأرض في المقدمة أخذت اللون البنفسجي مع نبتة صحراوية على يسار اللوحة.
في لوحة أخرى، كانت السماء حمراء تتخللها توشيحات بالأصفر والشمس تتهيأ للغياب، وتظهر في قاعدة اللوحة جبال رم، ما يترك المشاهد في حالة صمت وتأمل. وفي مشهد ثالث، تظهر الشمس في الأفق على وشك الغياب خلف الجبال، بينما الرمال الممتدة أمامها متماوجة الألوان، مما أضفى على اللوحة جمالًا إضافيًا. وقد أنهت مشاهد الغروب بلوحة لتلال صخرية أمام الشمس في لحظة غروبها، وأخرى لمقطع صخري بتماوج لوني نادر، مما منح اللوحات محاكاة كبيرة للطبيعة وجماليات خاصة في البناء اللوني والتباين بين الداكن والفاتح.
أما الشروق فكان المحور الثاني، حيث جسدته في ثلاث لوحات، لكل منها خصوصيتها في زوايا الإضاءة وتدرجات الألوان على الجبال والنباتات الصحراوية. لوحة صورت لحظات الشروق الأولى مع النباتات الصحراوية في مقدمة اللوحة والتدرج اللوني في أعلاها، وأخرى بعد أن انتشر الضياء في الأفق قبل بزوغ الشمس، فكان مشهد جمالي يظهر الجبال والنباتات الصحرواية المنتشرة، والثالثة لحظات سقوط الضوء على قمم الجبال المواجهة للشمس فأظهرت التباين في الألوان والجمالية في المساقط الضوئية وخاصة على قمم الجبال الصخرية، فكان التفاعل الضوئي مع المشهد في كل لوحة له خصوصية حسب زوايا الرؤية والمشاهدة للفنانة.
المحور الثالث كان النقوش على الصخور، حيث التقطت الفنانة مقطعين مختلفين أبدعت فيهما التعرية الجوية أشكالًا فنية، أحدهما مقطع طولي والثاني أشبه بأمواج البحر. والمحور الرابع كان لوحتين لجبال وادي رم، الأولى بألوان طبيعية ذهبية بفعل انعكاس الشمس، والثانية بتباين لوني بين البنفسجي والذهبي، الأولى أقرب بألوانها للطبيعة حيث الجبال في الأفق مع انعكاسات الشمس عليها فظهرت كجبال ذهبية تمتد الرمال أمامها مع نباتات صحرواية، فتمازج اللون الذهبي مع الأصفر المغبر مع الأخضر المتناثر، في لوحة تأسر الناظر إليها، واللوحة الثانية أظهرت جمال الشمس على طرف أعلى الجبال وإنعكاسها الذهبي على تلة من التلال، بينما باقي التلال على جانبيها تفاوتت ألوانها بين العتمة والبنفسجي، والأرض الممتدة باللون البنفسجي الساحر الموشح بالأصفر المتفاوت بين لون رمل وادي رم الطبيعي وبين اللون الذهبي، مزينة ببعض النباتات الصحراوية على يمين اللوحة وشجيرات جافة في زاوية اللوحة اليسرى، خالقة جمال آخر اعتمد على حرفية التباين والتناقض بين الألوان.
المحور الخامس تضمن ثلاث لوحات لنقوش ورموز تروي قصصًا من تاريخ قديم، أما المحور السادس فكان لوحة واحدة لأعمدة الحكمة السبعة، وهي كتل صخرية شاهقة الارتفاع، ارتبط اسمها بكتاب "أعمدة الحكمة السبعة" للجاسوس البريطاني لورنس العرب، الذي استمد التسمية من نص في العهد القديم: "الحكمة بنت بيتها، نحتت أعمدتها السبعة، ذبحت ذبحها، مزجت خمرها، وأيضًا رتبت مائدتها". ومن المعروف أن الجاسوس لورنس كان مغرم بوادي رم وكان يتستر تحت غطاء عالم آثار، فهل أطلق الاسم كي يقول الصهاينة أن أجدادهم مروا من هنا؟ وبالتالي يدعون أنها لهم بوعد الهي كما عهدهم بالتزوير والكذب؟
ومع ذلك، لا يوجد دليل تاريخي على قدسية المكان أو ارتباطه بعقيدة دينية، بل هو منظر طبيعي خلاب بكتل صخرية ضخمة نحتتها التعرية الجوية في قلب الصحراء، وهي تمتد على مساحات شاسعة. وقد أبرزت الفنانة في لوحتها انعكاس الشمس الذهبية على الصخور مع الظل الداكن وآثار التعرية الطبيعية، ومع انعكاس الشمس عليها سواء بالشروق أو الغروب نرى مشهدا ساحرا خلابا.
واختتمت الفنانة معرضها بالمحور السابع، بلوحة تحمل أبعادًا فلسفية لشجرة خضراء في قلب الصحراء، تتناثر أمامها الحجارة، وخلفها جبال رم، وكأن الشجرة تهمس: رغم قسوة الطبيعة، هناك في هذه الأرض ما يجعلنا نواصل الحياة وننتصر.
في نهاية استماعي بشغف لهمهمات الصخور في البتراء ووادي رم، رأيت أن الفنانة تأملت هذه المناطق بعين المبدع لا بعين العابر، في لوحات خرجت عن المألوف، فمزجت الحصى والرمال مع اللون، فجاءت لوحاتها بارزة وخشنة الملمس كطبيعة المكان، وبدون أي انسيالات أو عيوب لونية، محافظة على انسجام الشكل والموضوع. دمجت بين الواقعية والتجريد، وبين الألوان الدافئة والمحايدة والباردة، محافظة على هوية الأمكنة. وجعلت خلفيات اللوحات أبعادًا جمالية خاصة، تتناغم مع البتراء وطبيعة وادي رم.
"همهمات الصخور" لم يكن معرضًا عاديًا، بل تجربة فنية قائمة على معايشة المكان والإنصات لروحه، حيث تحوّل المشهد الجامد إلى روح نابضة وألحان لونية، ومعايشة وملامسة الرمال والاستماع لموسيقاها التي استمعت لها بهدوء في ظل الصمت مع نسمات الهواء التي تحرك الرمال فتتولد موسيقى طبيعية غير معتادة، فكانت روح الفنانة مترافقة مع خيالها قادرة على تحويل المشهد الجامد إلى روح نابضة ونغمات لونية موسيقية، لوحات تهمس للمشاهد بالتناغم البصري بين الأبعاد والألوان، فتجعل التجربة جديرة بالاحترام والتقدير.
لم يكن معرض "همهمات الصخور" مجرد عرض للوحات على جدران قاعة فنية، بل كان نافذة مفتوحة على روح المكان، ومرآة عاكسة لنبض التاريخ والحجر والرمال. لقد استطاعت فاديا ماتوخ أن تمنح الصخور صوتًا، وأن تترجم صمتها إلى لغة بصرية تنبض بالألوان والتكوينات، فتقود المشاهد في رحلة من ممرات السيق إلى ذرى وادي رم، ومن همس الشروق إلى أنفاس الغروب. إنها تجربة فنية تبرهن أن الجمال لا يقتصر على ما تراه العين، بل يمتد إلى ما يهمس به الحجر حين نصغي له بقلب مفتوح. وربما هذا هو سرّ الفن الحقيقي؛ أن يحوّل المشهد الجامد إلى حياة نابضة، ويجعلنا نرى ما لم نكن نراه، ونسمع ما لم نكن نسمعه، حتى من الصخور الصامتة.
"عمَّان 6/8/2025"
#زياد_جيوسي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟