زياد جيوسي
كاتب واعلامي
الحوار المتمدن-العدد: 8422 - 2025 / 8 / 2 - 00:11
المحور:
الادب والفن
بقلم: زياد جيوسي
كيف يمكن للمرء أن يجول في مدارات التيه ويخرج منها سالمًا؟ هذا أول تساؤل خطر ببالي قبل أن أجول في المعرض التشكيلي للفنان عماد أبو حشيش. هذه المدارات تذكرني بصحراء التيه الواقعة في وسط شبه جزيرة سيناء، والتي سُمّيت بهذا الاسم نسبةً إلى التيه الذي عاقب الله سبحانه وتعالى به بني إسرائيل، وما زال اسم عشائر التياهة يُطلق على العشائر هناك.
حين دخلتُ صالة العرض وبدأتُ التجوال وحيدًا، شعرتُ بالرهبة من طبيعة الألوان التي سادت اللوحات، لكنني حين بدأتُ التأمل وجدتُ أن المعرض يروي حكاية فكرة عنيفة، رواية تبدأ من اللوحة الأولى حتى اللوحة الأخيرة التي تحمل رقم (26). الفنان لم يُسمِّ اللوحات حتى لا يؤثر على المتأمل، بل تركها تحمل تسلسل الأرقام، تاركًا للمشاهد أن يستمع للرواية التي تتحدث بها اللوحات بقوة وصوت مرتفع، ويفكّر فيها. لوحات الفنان لم تكف عن الصراخ والثورة إلى حد الجنون.
خلال تجوالي مرتين في المعرض، وجدتُ أن المعرض يقوم على ثلاثة محاور واضحة من خلال تسلسل اللوحات. وفي قراءتي التالية للوحات، سأستعرض عدة لوحات من كل محور، إذ لا يتسع المجال لقراءة نقدية لكل لوحة على حدة، مع أن كل لوحة تستحق بجدارة قراءة تفكيكية وتأثرية.
المحور الأول: براكين الغضب من اللوحة الأولى حتى اللوحة الثانية عشرة، تتفجر الألوان كما تتفجر البراكين من جوف الأرض في لحظة غير متوقعة؛ ألوان حمراء قانية كالحمم، وسوداء معتمة تثير الرهبة، وأصفر مشتعل كأسنّة اللهب. خطوطها لا تعرف الاستقرار أو الهدوء، تميل إلى التمرد والثورة، وفيها تتحطم الأشكال التقليدية لتمنح المكان قوة الزلزال والدمار.
إنها لحظة انفجار الذات على نفسها، حين تغدو اللغة والأبجديات عاجزة، فينطق اللون وتنطق الريشة بما لا يُقال. الغضب هنا ليس فعلًا لحظيًا تولّد في لحظة غير محسوبة النتائج، بل هو تراكمات من الوجع، والظلم، والانكسار، تنفجر أخيرًا في وجه عالم صامت ومتآمر. التراكمات الكمية تولّد تراكمات نوعية، ولوحات كهذه تنقلنا إلى مدارات من التيه لا تُشاهد بهدوء، بل تُعاش كنبض مرتفع وصرخة مدوّية، كفجوة في الصدر.
من اللوحة الأولى يشدنا الفنان إلى ثورة كأنها براكين غضب، تمتزج فيها الألوان بقوة، مزيج بين الباردة والحارة، وبين لون الأرض والتراب، مع بروز الأزرق اللازوردي في الزوايا المختلفة. في منتصف اللوحة ينتصب تجريد كأنه جسد إنسان، رأسه كتلة من نار كأنها بركان يتصاعد حتى يشكّل خلفية اللوحة. لا أيادٍ للجسد، وعلى كتفه تجريد آخر يقابله، حيث نرى ضربات قوية بالفرشاة أشبه بتلافيف دماغ أو قطع متناثرة من الفطر البني. في أرجاء اللوحة تجريد لمبانٍ وأشخاص يوحي بأن الجميع يدور في مدارات تيه، وخلفهم انفجار بركاني.
في اللوحة الثانية، تمازجت الألوان مع مادة "بلاستيكية"، وطغى اللون القاتم على المشهد، إضافةً إلى سيطرة اللون الأحمر ومشتقاته الحارة كالبرتقالي، بينما على يسار اللوحة اعتمد الفنان على مزج قطع من الخيش مع الألوان، وتدرجات الأسود والبني والأزرق والأبيض. كانت اللوحة حافلة بالرموز اللونية؛ على يسارها بدا كأن هناك شخصين يتصارعان يغلب عليهما الأزرق، بينما الخيوط العنكبوتية متناثرة في اللوحة، وكأنها تشير إلى حدث قادم. ومع ذلك، برزت طاقات الانفراج بلون الشمس في أكثر من موقع، إلى جانب أشكال أشبه بأشخاص، وكأنهم أدوات الثورة والمستقبل.
بعض الرموز وأنماط الألوان تتكرر بجنون في اللوحة الثالثة، حيث يبرز في قلبها أشكال أشبه بشياطين تفجر جحيمًا يجتاح المساحات. ويواصل الفنان تفجير هذه البراكين الغاضبة في باقي اللوحات، وكأنه يروي حكاية متسلسلة من الغضب، كل لوحة تكمل ما في سابقتها.
في اللوحة الثامنة نجد عاصفة من الجنون التعبيري: دماء، نيران، وعاصفة قوية تدفع الشخوص الرمزية في يسار اللوحة للفرار إلى يمينها، حيث الوحوش التي لا ترحم. ورغم وجود فجوة انفراج بلون أبيض، إلا أنها مغلقة بالحبال والأسلاك، وكأن الفنان يخاطب الثائرين أن الانفراجة طريقها مليء بالدم والمعاناة والخوف.
وتصل هذه المجموعة ذروتها في اللوحة الثانية عشرة، حيث يتجسد تفجر بركان الثورة بعد مراحل الغضب السابقة؛ اللون الأصفر بلون الشمس في بؤرة اللوحة يتألق كطائر الفينيق ناهضًا من قلب الرماد، فيما محيط اللوحة أشبه بانفجارات بركانية تتخللها أشكال رمزية لأناس ومقاتلين. يمين اللوحة أقل عتمة من يسارها، في إشارة إلى مستقبل وردي، لكن يبقى السؤال: هل الثورات المستلبة حققت مستقبلًا ورديًا حقًا؟
المحور الثاني: الثورة والأمل في هذه اللوحات تتقاطع النيران مع الشمس، فالثورة ليست غضبًا عابرًا، بل تراكم يتجمع تحت السطح حتى لحظة التفجر؛ لحظة محسوبة بوقت مقدّر. هي فعل بالرصاص والدم من أجل التغيير. ألوان اللوحات هنا مشحونة بالحياة والحلم، رغم العتمة والدمار، والسواد المحيط باللوحات، وفي اللوحات مجموعة من الرموز يمكن تفسيرها بأنها قبضات مرفوعة في وجه الأنظمة، أطفال يحملون ورود، دمار كبير ولكن هناك رايات مرفوعة من قلب الدخان والنار، والحلم بفرح آت، فالأمل في هذه المجموعة من اللوحات ليست مجرد حلم، بل نلمسه من خلال اللغة اللونية التي استخدمها الفنان، فنجد في التكوين اللوني طاقات ومساحات من اللون الأصفر بلون الشمس، وانفرجات بين ثنايا اللوحات باللون الأبيض، فتظهر كما النور في قلب العتمة.
في اللوحة الأولى من هذه المجموعة نجد الثورة باللون الأحمر الموشح بالأصفر، المتفجر كبركان غضب، وعملاق مشتعل ينبثق من قاعدة خضراء، في إشارة إلى أن الثورة تنطلق من الأرض والشعب. الأصفر المشرق يحتل ثلث اللوحة الأعلى، كرمز لشمس مشرقة.
في اللوحة الثانية، عمالقة من نار يحيط بهم لون الشمس، يغلب على اللوحة اللون الأحمر والبرتقالي الموشح بالأصفر في رمزية أن الثورة يرافقها الأمل.
أما الثالثة، فهي أشبه بجماهير متكاتفة ومندفعة يغلب عليها البني لون الأرض، والأبيض في أشكال ورود، رمزًا للأمل.
اللوحة الرابعة تمزج المكان بالشخوص: قباب، مآذن، بوابات، وأشخاص يسيرون نحو الأمام، وآخرون يجلسون ويراقبون، مع سيطرة الأصفر المطفي والبني، وغياب الأحمر المشتعل، وكأنها لحظات قرب إشراقة الفجر.
تتواصل الحكاية في هذه المجموعة من اللوحات، حكاية الثورة والأمل، ففي اللوحة التالية وهي الخامسة من هذه المجموعة نجد بداية التغلب على العاصفة، والوقوف في مواجهة ما تبقى منها، وكل لوحة تطرح سؤال من خلال تكويناتها اللونية والرمزية، وفي اللوحة التالية نجد الفنان لجأ للألوان الأكثر بهجة وفرح رغم أن الدوامة ما زالت في قلب اللوحة، حتى يصل بنا الى اللوحة الأخيرة من هذه المجموعة، حيث الأعمدة تنهار وتشتعل، والأفق ومحيط اللوحة وكأنه رمز لرأس قلب يغطي أفق اللوحة ويضم من خاضوا غمار الثورة بداخله، وفي اعلى اللوحة ويسارها يبدأ الأمل ينتشر من خلال اللون الأبيض وتوشيحات من اللون الأصفر، وكأن حلم المهمشين لاح بالأفق.
المحور الثالث: الغد والمستقبل في اللوحات الخمس الأخيرة، يبدأ اللون الأبيض ودرجات الأزرق والأخضر الفاتحة بالتسلل تدريجيًا. الرموز أكثر تجريدًا: دوائر، خطوط أفقية وعمودية، سماء واسعة، وأشجار تنبت بعد أن ارتوت الأرض بالدم.
اللوحة الأولى تفتح باب التأمل بعد التوتر السابق؛ وجوه تائهة بين الماضي وحلم الغد، واللون الأبيض يحيط باللوحة، فيما الأصفر ينبعث من القاعدة رمزًا لما تحقّق من الثورة، فالفنان يأخذنا بريشته لفضاء آخر، حتى شعرت أني أعود من التيه إلى التيه من جديد، فالعيون والوجوه التشكيلية بين ثنايا رمزيات اللوحة تائهة بين الماضي وبين حلم الغد المتمثل باللون الأبيض المحيط بجانبي اللوحة وأعلاها، وطاقات انفراج في قلب اللوحة واللون الأصفر دلالة على النور ينبعث من القاعدة في رمزية مباشرة أن ما تحقق من الثورة، ينير الغد وحياة الناس في قاعدة المجتمعات.
في الثانية، بداية طريق منير أشبه بسيق البتراء، ينتهي بمدينة تنيرها الشمس، والحشود على جانبي الطريق كأنها في عناق، وبوابة يفتحها عملاق.
الثالثة تعود فيها العتمة لتحيط بالناس، إذ تبدأ خفافيش الظلام بسرقة الثورة وحرف المسار، رغم الأمل المتبقي في الأفق، ولكن حجم العتمة يغطي معظم المساحات ولا يتبقى الا أفق محدود وطاقات فرج محدودة.
الرابعة تقول برمزيتها: "آتُون، فالفكرة لن تموت، وسنعيد بناء ما تهدم ودمر"، حتى تصل بنا الخامسة، الخاتمة، حيث الأخضر لون الخصب يتوشح بزرقة البحر والسماء، والأبيض والأصفر يغلبان المشهد، في لوحة فرح وأمل، وكأن الفنان يعلن تحقق الحلم.
لكنني أرى أن الغد ليس وعدًا بل احتمال بالنجاح، والمستقبل ليس يقينًا بل أفق نرسمه بأيدينا. الهدوء في اللوحات الأخيرة قد يكون هدوءًا يسبق العاصفة، ويحمل حركة خفية تموج نمو، نهوض، تحوّل.
كنتُ قد وصلت إلى ربى عمّان التي أعشق في 12 تشرين الثاني 2010، بعد اثنتين وعشرين ساعة من المعاناة التي فرضها الاحتلال، ولم أكن أعلم أنني سألتقي هذه المدارات وأدخل دوامة التيه التي أوقعني فيها الفنان. المؤسف أنني علمت بالمعرض بعد افتتاحه، حين كنت أستعد للسفر إلى حمص وعدة مدن في سوريا برحلة سياحية برفقة زوجتي، فوعدت نفسي أن أزوره فور عودتي. وهذا ما كان، إذ زرت المعرض قبل يوم من اختتامه.
وعندما عدت إلى رام الله كتبت مسودة هذا المقال، لكن الملف اختفى ودخل الأرشيف بالخطأ، ولم أعثر عليه إلا مؤخرًا.
ويبقى السؤال: هل كان الفنان يسقط مساحات اللوحات على الواقع العربي والجنون الذي اجتاحه فيما سُمّي بـ"الربيع العربي" وأسميه أنا "الوبال العربي"، قبل أن تصل النار إلى سوريا، أم كان يستشرف المستقبل؟
ما شاهدته في اللوحات كان جنونًا وثورة وبراكين، وحلمًا تقدمه لنا اللوحات في ثنائيات متضادة: الجدران المهدمة والعين المضيئة، النار والورود، الشمس والعتمة، الصرخة والصمت. اللوحات تبني جسرًا بصريًا بين الإرادة والجرح، وكل لوحة تقول: نحترق... لكننا سنحيا حين يتحقق الحلم.
وهكذا، فإن "مدارات التيه" لم تكن مجرّد معرض تشكيلي، بل كانت رحلة بصرية ووجدانية، أخذتنا من جحيم البراكين إلى بزوغ الفجر، ومن صرخة الغضب إلى همس الأمل. لقد نجح الفنان عماد أبو حشيش في تحويل اللوحة إلى مرآة تعكس نبض الشارع وارتجافات الروح، فكانت أعماله مزيجًا من التوثيق والانفعال، ومن الحلم والحقيقة.
وما بين التيه والانعتاق، تبقى أسئلة اللوحات معلّقة في فضاء المتلقي: هل يكفي أن نحلم بالغد؟ أم علينا أن نصنعه رغم الخوف والجراح؟ في النهاية، ربما الفن لا يمنح الإجابات، لكنه يوقظ الوعي ويشعل الأسئلة، ويتركنا على حافة الدهشة… تمامًا كما فعلت بي مدارات التيه.
"عمَّان 29/7/2025"
#زياد_جيوسي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟