احمد هاشم الحبوبي
الحوار المتمدن-العدد: 8425 - 2025 / 8 / 5 - 18:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المقدمة
في سياق التحولات السياسية والدينية التي شهدها العالم الإسلامي منذ العصور الصفوية وحتى الزمن المعاصر، تبرز العلاقة بين إيران وشيعة لبنان كواحدة من أكثر العلاقات تعقيدًا وتشابكًا. هذه العلاقة لم تنشأ في فراغ، بل تبلورت ضمن تفاعلات فقهية وفكرية، ساهم فيها علماء من جبل عامل، أبرزهم الشيخ علي الكركي، ثم أعيد تشكيلها لاحقًا على يد الإمام موسى الصدر، لتأخذ بُعدًا مؤسسيًا واضحًا بعد الثورة الإسلامية في إيران وتأسيس حزب الله.
يهدف هذا المقال إلى استقصاء الخلفيات التاريخية والعقائدية لهذه العلاقة، من خلال تحليل مراحلها المفصلية، وتسليط الضوء على كيفية تجذّر نظرية «ولاية الفقيه» في السياق الشيعي اللبناني. كما يدرس المقال تأثير هذه النظرية على التكوين السياسي لحزب الله، وكيف أعادت إنتاج العلاقة بين المرجعية الدينية في إيران وبين التنظيمات الشيعية في لبنان، ضمن رؤية تتجاوز الأطر الوطنية إلى فضاء "الأمة" كما تُصوّره النظرية الثيوقراطية الحديثة.
أولًا: البدايات الصفوية ودور جبل عامل
مع قيام الدولة الصفوية (1501–1722) بقيادة الشاه إسماعيل الصفوي (1487–1524)، تم اعتماد المذهب الشيعي الاثني عشري مذهبًا رسميًا في إيران. ونظرًا لحداثة اعتماد هذا المذهب رسميًا، لم يكن هناك عدد كافٍ من الفقهاء المحليين، ما دفع الشاه إسماعيل إلى البحث عن علماء من خارج البلاد للمساعدة في تأصيل المذهب وتنظيم شؤونه. فبدأ بمراسلة علماء في القطيف والعراق، إلا أن الردود التي تلقّاها كانت متحفظة، إذ رُفِضَت الدعوة على أساس ديني، مفاده أن أي راية تُرفع قبل راية الإمام المهدي تُعدّ راية ضلال.
في هذا السياق، وجّه الشاه إسماعيل دعوته إلى علماء جبل عامل في لبنان، فاستجاب له الفقيه علي الكركي العاملي، المعروف بالمحقق الكركي (1464–1533م) [1]، والذي كان من كبار فقهاء الشيعة في عصره، وله آراء مهمة في مسألة «ولاية الفقيه». وقد لبّى الكركي الدعوة وانتقل إلى إيران، وقد منحه الشاه صلاحيات واسعة لتولي الشؤون الدينية، وتولى تعيين العلماء وأئمة الجماعة والقضاة، كما أقنع عددًا من زملائه وتلاميذه في جبل عامل بالهجرة إلى إيران لتوسيع العمل العلمي والديني.
يُعدُّ علي الكركي العاملي أول فقيه بارز في العصر الصفوي يتبنّى بصورة عملية وواسعة فكرة أن للفقيه الجامع للشرائط حقّ تولّي مناصب الحكم والتشريع والقضاء نيابةً عن الإمام المهدي في عصر الغيبة.
ورغم أن الكركي لم يقدّم نظرية «ولاية الفقيه المطلقة» بالصورة التي طرحها لاحقًا الإمام الخميني، إلا أنه وضع أساسًا فقهيًا وعمليًا لفكرة «ولاية الفقيه العامة»، حيث رأى أن للفقيه صلاحية إدارة شؤون الأمة الدينية والقضائية، وليس مجرد الإفتاء أو التعليم. وقد شكّلت تجربته في الدولة الصفوية نموذجًا مبكرًا لتوسيع دور الفقيه في الحكم والإدارة ضمن الفكر الشيعي.
وبناءً على ذلك، يمكن القول إن المحقق الكركي كان أول فقيه في العصر الصفوي، بل في تاريخ الفقه الشيعي الإمامي، مارس منصب «نائب الإمام» بصيغة شبه رسمية داخل الدولة، مما جعله حجر الأساس في البناء الفقهي لنظرية «ولاية الفقيه» كما تطوّرت لاحقًا.
ثانيًا: موسى الصدر وتحوّل العلاقة في القرن العشرين
في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، اتخذت العلاقة بين إيران وشيعة لبنان مسارًا جديدًا من خلال شخصية الإمام موسى الصدر. ووفقًا للخبير والباحث السياسي عماد آبشناس، فقد أرسل الشاه محمد رضا بهلوي أبا عماد وموسى الصدر إلى لبنان عام 1959 [2]. وسرعان ما أصبح موسى الصدر المرجع الأبرز للطائفة الشيعية، وأسهم في رفع مستوى وعيها السياسي والاجتماعي.
أسّس موسى الصدر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى عام 1969، كأول إطار رسمي للطائفة، وأطلق مشاريع تنموية وتعليمية واسعة، كما أنشأ «حركة المحرومين» وأفواج المقاومة اللبنانية «حركة أمل». وقد تميّز موسى الصدر بخطاب معتدل، ورفض الحرب الأهلية، ودافع بقوة عن العيش المشترك، مما جعل مشروعه نقطة توازن داخل النسيج اللبناني. لكن هذا المشروع انقطع باختفائه الغامض في ليبيا عام 1978.
ولا بد من الإشارة إلى أن موسى الصدر اختلف مع الشاه محمد رضا بهلوي بسبب رؤيته في ما يتعلق بمسألة التقارب مع إسرائيل، حيث عبّر الصدر عن معارضته الشديدة لهذا التوجّه.
ثالثًا: الثورة الإسلامية وتأسيس حزب الله
أدى انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 بقيادة الإمام الخميني إلى إحداث تغيير جذري في طبيعة العلاقة بين إيران وشيعة لبنان. فقد تبنّت الثورة نظرية «ولاية الفقيه المطلقة»، وهي نظرية وجدت صدى واسعًا لدى علماء الدين الشيعة وجماعات شيعية لبنانية. وتجلّى هذا التأثر عبر تأسيس «اللجان الإسلامية» التي انخرطت في أنشطة مؤيدة للثورة الإسلامية الإيرانية، ومهدت لمرحلة جديدة من العلاقة بين شيعة لبنان والجمهورية الإسلامية في إيران.
أما الحدث المفصلي الذي مهّد لتأسيس حزب الله، فكان الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، وما تبعه من تشكُّل فصائل مقاومة ذات طابع شيعي. وفي هذا السياق، قام وفدٌ لبناني مكوّن من تسعة أشخاص، مثّلوا علماء البقاع و«اللجان الإسلامية» و«حركة أمل الإسلامية» التي انشقت عن «حركة أمل» الأصلية بسبب خلافات حول كيفية التعاطي مع الاحتلال الإسرائيلي، بزيارة الإمام الخميني في طهران، حيث عرضوا عليه رغبتهم في تشكيل تنظيم يتبع ولاية الفقيه في لبنان، وطلبوا دعمه ومساندته لمواجهة الاحتلال. وقد وافق الإمام الخميني على هذا الطلب، ما شكّل الانطلاقة الفعلية لتأسيس حزب الله [3] [4].
في هذا الإطار، تأسس حزب الله كحركة مقاومة مسلحة ذات بُعد عقائدي وسياسي، تتبنّى ولاية الفقيه كمرجعية دينية وسياسية عليا، وتعلن التزامها المطلق بتوجيهات الولي الفقيه في إيران. وقد عبّر السيد حسن نصر الله، قبل توليه الأمانة العامة، عن هذا التوجه بشكل صريح بقوله: «مشروعنا الذي لا خيار لنا أن نتبناه، لأننا نؤمن به عقائديًا، هو إقامة دولة إسلامية، وأن يكون لبنان جزءًا من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحق، الولي الفقيه الإمام الخميني» [5].
ورغم هذا الالتزام العقائدي المطلق، فإن لحزب الله آليات داخلية محددة لاتخاذ القرار، كما يوضح الكاتب اللبناني المتخصص في الحركات الإسلامية قاسم قصير. إذ يتم اتخاذ القرارات عبر المجلس السياسي للحزب، وإذا لم يُتوصَّل إلى توافق، تُعرض القضية على مجلس شورى القرار، وإن بقي الخلاف قائمًا، يُرفع الأمر إلى الولي الفقيه للبتّ فيه نهائيًا. ويورد قصير مثالًا على هذه الآلية من خلال النقاش الذي دار داخل الحزب بشأن المشاركة في الانتخابات النيابية عام 1992، حيث ظهرت وجهتا نظر: الأولى ترى ضرورة الدخول إلى مجلس النواب كجزء من العمل السياسي، والثانية رفضت ذلك معتبرة أن الحزب يجب أن يبقى تنظيمًا مقاومًا لا يندمج في مؤسسات الدولة. ولما لم يُحسم القرار داخل مجلس الشورى، رُفع الأمر إلى الإمام علي خامنئي، الذي أفتى بأن «الأولى والأصلح هو المشاركة في الانتخابات»، فتم تبنّي هذا الموقف [3].
ويضيف قصير أن بعض قيادات الحزب رأت لاحقًا أنه من الطبيعي، بعد دخول مجلس النواب، الانتقال إلى المشاركة في الحكومة، غير أن الإمام خامنئي كان له رأي مختلف آنذاك، حيث اعتبر أن المشاركة في الحكومة تُحمّل الحزب مسؤولية تنفيذية مباشرة أمام الناس، ونصحهم بالتركيز على العمل النيابي في دعم المقاومة وخدمة المجتمع، دون الحاجة إلى الدخول في الحكومة. إلا أن الحزب، بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان عام 2005، رأى أن من مصلحته الاستراتيجية المشاركة في السلطة التنفيذية، فقرر خوض هذا المسار [3].
ورغم انخراطه في الحياة السياسية اللبنانية منذ عام 1992، لم يتراجع حزب الله عن التزامه العقائدي بولاية الفقيه. ففي تصريح له عام 2009، قال حسن نصر الله: «نحن موقفنا من مسألة ولاية الفقيه هو موقف فكري وعقائدي وديني، وليس موقفًا سياسيًا خاضعًا للمراجعة» [6].
هذا التصور الذي يطرحه نصر الله يعيد إلى الأذهان الدور الذي أدّاه الفقيه في الدولة الصفوية، حيث يُروى أن الشاه طهماسب، ابن الشاه إسماعيل الصفوي، سلّم مقاليد الحكم إلى الفقيه اللبناني الشيخ علي الكركي، وقال له: «أنت أولى مني بالملك، لأنك نائب الإمام حقاً، وأنا عامل منفذ». وقد أمر جميع الولاة والموظفين بطاعته وتنفيذ أوامره [7][8]. وهكذا تعود نظرية «نائب الإمام» التي نظّر لها المحقق الكركي قبل خمسة قرون ونيّف، ولكن بنسختها المحدَّثة كما صاغها الإمام الخميني، إلى مهدها اللبناني عبر حزب الله.
وفي هذا السياق، يعلق الصحفي والباحث في الشأن الإيراني علي هاشم بالقول: «حين نتحدث عن حزب الله، لا نتحدث عن أداة إيرانية، لا نتحدث عن حليف لإيران، نتحدث عن امتداد عضوي لفكرة ولاية الفقيه؛ كما الذراع، كما العقل، كما الرأس وكما العيون، هو جزء من هذا الجسم، جسم النظام وليس جسم الكيان. حزب الله لا يتبع الرئيس الإيراني أو الحكومة الإيرانية، حزب الله يتبع النظام، للفكرة، للولي الفقيه، جزء من هذه الدولة الممتدة كفكرة؛ "إمبراطورية الفكرة"» [1].
خاتمة
يتّضح من خلال تتبّع المسار التاريخي للعلاقة بين إيران وشيعة لبنان أن هذه العلاقة لم تكن وليدة مصالح آنية أو تحالفات سياسية ظرفية، بل هي امتداد لمسار فقهي وعقائدي تشكّل منذ العهد الصفوي، حين بدأ الفقيه يُمارس سلطة دينية وسياسية بوصفه نائبًا عن الإمام. وقد أُعيد بعث هذا النموذج في العصر الحديث من خلال نظرية «ولاية الفقيه» التي جسّدها حزب الله بصفته الامتداد العضوي لعقيدة الثورة الإسلامية.
ورغم ما فرضه الواقع اللبناني من ضرورات سياسية وتكيّف خطابي مع بنية النظام الطائفي، فإن الهيكل الأيديولوجي لحزب الله ظلّ قائمًا على ولاءٍ عقدي غير مشروط للولي الفقيه. وهذا ما يجعل العلاقة بين الحزب وطهران علاقة تتجاوز التحالف السياسي إلى مستوى الانتماء الفكري والمؤسسي لمنظومة «إمبراطورية الفكرة».
إن فهم هذه العلاقة لا يمكن أن ينفصل عن إدراك التحولات الكبرى في الفكر الشيعي الإمامي، حيث لم تعد «ولاية الفقيه» مجرد اجتهاد فقهي، بل مشروعًا سياسيًا عابرًا للحدود، يعيد تشكيل علاقة الدين بالدولة، ويضع المرجعية الدينية في موقع القيادة العليا ليس فقط للطائفة، بل لأمة شيعية عابرة للأوطان.
المراجع
[1] يوتيوب. بودكاست الشرق. لقاء مع علي هاشم. ماذا تريد إيران. المحاوِر: الصحفي والباحث عبد الرحمن ناصر. في 2 حزيران 2025.
https://www.youtube.com/watch?v=HzMZ1UjYSXM&t=6918s
[2] يوتيوب. إيران بودكاست. لقاء مع عماد آبشناس. جذور التيارات السياسية في إيران واجندة حكومة بزشكيان. المحاوِر: عدنان زماني. في 4 كانون الأول/ديسمبر 2024.
https://www.youtube.com/watch?v=TI4kMOxJEZY
[3] يوتيوب. إيران بودكاست. لقاء مع قاسم قصير. حزب الله.. من الآباء المؤسسين إلى طوفان الأقصى. قاسم قصير. إيران بودكاست. المحاوِر: عدنان زماني. في 9 نيسان 2025.
https://www.youtube.com/watch?v=XlH4xMnQy4Q
[4] يوتيوب. جسر بودكاست. لقاء مع علي هاشم. القصة الكاملة لحزب الله: من الولادة تحت النار إلى الطوفان. المحاور: خير الدين الجابري. في 28 شباط 2025.
https://www.youtube.com/watch?v=EYVVfPu2tCs&t=284s
[5] يوتيوب. زعيم ميليشيا حزب الله حسن نصر الله يعتبر لبنان جزء من إيران. الناشر: قناة الحدث الفضائية السعودية. في 6 آب 2021.
https://www.youtube.com/watch?v=QO6E-poO8VU&t=82s
[6] موقع قناة المنار الفضائية اللبنانية. العلاقات الإعلامية في حزب الله. حوار الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله مع الصحافيين بعد تلاوته الوثيقة السياسية للحزب 30-11-2009. تاريخ النشر: 10 تموز 2019.
https://mediarelations-lb.org/post.php?id=6454&utm_source=chatgpt.com
[7] Encyclopedia Iranica. (الموسوعة الإيرانية). كركي. في 15 كانون الأول 2010.
https://www.iranicaonline.org/articles/karaki/?utm_source=chatgpt.com
[8] العتبة الحسينية المقدسة. محمد طاهر الصفار. الدولة الصفوية ... الشرارة والانطلاق ... والخاتمة. في 19 أيار 2021.
https://imamhussain.org/persian/32514
#احمد_هاشم_الحبوبي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟