|
جان كريستوف بايلي: “الأسماء المشتركة- و-الرواية الواقعية-
أحمد رباص
كاتب
(Ahmed Rabass)
الحوار المتمدن-العدد: 8425 - 2025 / 8 / 5 - 02:29
المحور:
الادب والفن
في غضون السنة الماضية (2024)، طلع علينا مارسيلو جاك دي مورايس، أستاذ الأدب الفرنسي في الجامعة الفيدرالية في ريو دي جانيرو، بمقال بعنوان “جان كريستوف بايلي: الأسماء المشتركة والرواية الواقعية”، منشور على موقع journals.openedition.org كما سبق له أن نشر العديد من المقالات النقدية الأدبية في مجلات أكاديمية ومجموعات بحثية في البرازيل وفرنسا. صدرت له عدة كتب، وترجم أعمال العديد من الكُتّاب الفرنسيين إلى الإسبانية، ومنهم مؤخرا جورج باطاي، وليليان جيرودون، ومارييل ماسيه، وجان كريستوف بايلي. في بداية مقاله عن هذا الأخير، قال دي مورايس: “لطالما ركّزت أعمال جان كريستوف بايلي، التي أصبحت اليوم واسعة الانتشار، على حدود الغموض بين الأنواع الأدبية. مقالاته، نثره، قصائده ومسرحياته، تستكشف وتُشوّش موارد رسمية واستراتيجيات بلاغية ومجالات تخصصية، انطلاقا من ثيمات ومواضيع ذات اهتمام متنوع للغاية: من بينها، “ملكة اللامحدودية” في اللغة منذ الرومانسية الألمانية؛ وشروط ظهور المعنى في الشعر والنثر والدراما من جهة، وفي الصور من جهة أخرى، لا سيما في التصوير الفوتوغرافي والرسم؛ وتجارب مشاركة المشترك والانفصال منذ تغيّر المكان وانسيابية الحدود الجغرافية والهوياتية؛ أو بالأحرى، أنماط الوجود الحسي للجمادات، وكذلك الحيوانات والنباتات”. بشكل عام، يبدو أن بايلي يتساءل في عمله عن أشكال الحياة وأنظمة العلاقات الفردية التي تأتي منها هذه الأشكال إلى اللغة – وإلى كل واحد منا – كأسماء وجمل، وتنتشر أو تصبح لا نهائية إلى ما لا نهاية، وتشكل أو تؤدي، على هذا النحو ما يسميه مع نوفاليس هذه “الرواية الضخمة” التي هي دائما بدون ناشر وحيث نوجد ونعيش معا. يتركز اهتمام دي مورايس في هذا المقال على استكشاف بعض خطوط القوة الحاضرة في أعمال بايلي، مع الوقوف بشكل خاص على نهج يبدو أنه يخترق كل تجاربه الكتابية، بينما يبقى بالنسبة له الشرط الأساسي للقصيدة – أو توسعها – كما يحدده ويمارسه في نصوص مختلفة: الحفاظ على اللغة “في حالة اضطراب”، كمنطقة استقبال، كاتصالات، كأصداء، وجعل التلاعب بها من قبل العبارة حركة مقاومة لـ”دافع الإغلاق” تحت اسم “المنفتح”، وهذا يعني ما ينادي علينا من المجهول. باختصار، بالنسبة له، الأمر يتعلق بـ”كشفٍ لا نهاية له”، وبـ”نزع جوهر” المنفتح ، وبإعادة فتح العالم في ظل اللغة، وبـ”نزع تسميته”، إذا استخدمنا هنا المصطلحات والتعبيرات التي يستخدمها غالبًا للحديث عن كتاباته. وبذلك، يتعلق الأمر بإعادة اكتشاف أساطيره ونشرها، أساطير العالم – بكل معاني اسم “الأسطورة”، والتي سيعود إليها كاتب المقال لاحقا – وبإعادة استدعاء الأصوات التي تنبعث من العالم وإعادة تمثيلها. وهكذا نستطيع أن ننتج هذه التجربة المتعلقة بالمعنى التي تظهر في كثير من الأحيان عند بايلي تحت عنوان فقدان الاتجاه، هذا الإحساس بإعادة اكتشاف معنى للواقع في نضارته وكثافته، في ألفته الغريبة، وعلى حدود تبديده. من هذا المنظور، يُعدّ العمل الذي قام به الكاتب في “خصوصية اللغة”. أسفار إلى بلاد الأسماء المشتركة” نموذجيا، إذ هو مجموعة من النصوص القصيرة، ذات استقلالية نسبية، موزعة بين النثر المقالي والنثر الشعري، تحمل أسماءً مشتركة كعناوين لها، مرتبة بدقة وفقًا لمبدأ الترتيب الأبجدي الاعتباطي. تُقدّم هذه المداخل للقارئ تجربة ارتباك في اللغة – وبالتالي في العالم الملموس قليلا أو كثيرا الذي تستحضره – انطلاقا من تنشيط “روح” الكلمات من خلال “التعبير”، كما يقول بايلي، مثلا، في مدخل “صانع الآلات الموسيقية”: “للكمان روح، وليس لكلمة “كمان” روح. لا تصل الروح إلى الكلمات إلا بالصوت والرنة، اللذين يُفجّران المعنى كالزجاج”. لم يغب عن مورايس كون “الصوت” و”الجِرس” اللذين يُضفيان “المعنى” هنا هما، بالطبع، صوت الكاتب. فمن خلال المرور وإعادة المرور، ليس فقط بين الأسماء المشتركة، بل أيضا بين الأسماء العلم التي داخلها وبينها يرتد صداها، يتابع بايلي ويردد صدى “خارجٍ يتراجع بلا نهاية”، هذه “الرواية الواقعية” التي لا تكف اللغة عن سبر أغوارها، والتي تبدو جميع هذه الأسماء بمثابة مؤشراتها، “مؤشرات تائهة، إشارات متناثرة لسردٍ بلا بداية ولا نهاية.” للتأمل قليلاً في رهانات ونطاق تفكير بايلي في العلاقات بين الأسماء والجملة والواقع، بدأ دي مورايس مما سرده، في حواره المطول مع فيليب رو، عن زيارته للسجن من أجل إلقاء دروس في الفلسفة على السجناء وتأطير نقاش معهم حول أحد كتبه. يستحضر الكاتب هذا المشهد في سياق اهتمامه بفكرة “الهروب”، التي يعتبرها ذات أهمية جوهرية للأدب والممارسات الفنية عموما. يقول إنه على الرغم من أنها لم تكن المرة الأولى التي يزور فيها السجناء، إلا أنها “كانت عنيفة وقوية بشكل خاص”. ففي هذا السجن، الذي بُني عام 1900، وحيث “كل شيء مُعدّ بحيث لا يمكن للمرء رؤية الأفق أبدا”، يُشكّل هذا السجن نفسه “مساحة للحرمان الحسي”. “في هذا الفضاء المشيد لغرض الحرمان، ندرك من خلال التحدث، ومن خلال التواجد أمام من يمكثون هنا لسنوات طويلة، أن كل ما هو موجود – سواء أكان شيئا أم كلمة – يكتسب قدرا من الرنين لا يُقارن بما يمكن أن يكون عليه في الخارج، لأنه في الخارج موزعٌ على جميع الكثافات الأخرى. هنا، تتركّز الكثافة؛ إنها أشبه بالمسرح، إنها مسرحية مُرعبة.” ويروي بعد ذلك أنه في وسط المناقشة مع السجناء، وبينما كان يستخدم، بشكل لا إرادي، حسب قوله، كلمة الهروب، سمع تنهيدات وتأوهات عميقة، “غير منبعثة من صوت واحد، بل من حناجر أو أفواه متعددة (هنا أخبرني الناس أنهم يحبون الذباب لأنه يأتي من الخارج ويخرج بحرية؛ فهم لا يقتلونه). وينهي الكاتب سرده قائلا: “الهروب هو المعنى الكامل لهذه التنهيدات. الظهور المفاجئ والعنيف لخارج.” يبدو أن هذه “التنهيدات” في جوقة “الأصوات والحناجر والأفواه” – على الحد الفاصل بين الزفير والغناء – تردد صدى عمل هذه “الصمامات” التي، كما يقول الكاتب في مدخل “الخارج” لكتاب “خصوصية اللغة”، “تحكم الدخول من الخارج إلى “داخل” الأجساد”، بقدر ما تمسرح بطريقة رمزية ودرامية “الرغبة في الخروج من الذات” والتي “غالبا [- وقد مررنا جميعا بهذه التجربة بالفعل -]، ما ترتفع من أعماق الداخل مثل نداء”. ينهي الكاتب سرده قائلا: “الهروب هو المعنى الكامل لهذه التنهيدات. الظهور المفاجئ والعنيف لخارج.” يبدو أن هذه “التنهيدات” في جوقة “الأصوات والحناجر والأفواه” – على الحد الفاصل بين الزفير والغناء – تردد صدى عمل هذه “الصمامات” التي، كما يقول الكاتب في مدخل “الخارج” لكتاب “خصوصية اللغة”، “تحكم الدخول من الخارج إلى “داخل” الأجساد”، بقدر ما تمسرح بطريقة رمزية ودرامية “الرغبة في الخروج من الذات” والتي “غالبا [- وقد مررنا جميعا بهذه التجربة بالفعل -]، ما ترتفع من أعماق الداخل مثل نداء”. مع ذلك، أكثر من ذلك، بما أن هذه التنهيدة الجماعية والصدوية تستجيب لكلمة، لاسم يأتي من الخارج – لكلمة “هروب” هاته، التي ينطق بها الزائر بدقة – والتي تعمل بالتالي كـ”غطاء” ينفتح بدوره على الخارج، يمكننا أن نسمع هذه التنهيدة كنوع من التأكيد الحيوي الذي يرفض للحظة إساءة وصف هذه الحيوات الأكثر هشاشة من حياة الذباب، الذي يرفض الإنكار الذي يستبعدها من أي مشاركة، والذي يرفض – وسأستحضر هنا مدخل “نعم” من نفس الكتاب – “اللا [التي] تحوم” حول هذه الحيوات، والتي تقول لها، لهذه الحيوات، “نعم”، “مما يجعل التأكيد يتردد صداه مثل حد داخل اللامحدودية التي ينشرها [:] متميزا، مرئيا ورنانا، هذا الحد هو بالضبط ما نسميه المعنى”. لكن “المعنى” الذي تُحدثه هذه الزفرة في رنينها المتصادي – وهو رنين يتردد صداه بشكل ملحوظ في (وانطلاقا من) سرد بايلي نفسه – لا يبدو أنه يُشير إلى أي معنى مُحدد، بل يبدو ببساطة أنه يُشير إلى البُعد المشترك للوجود، الذي يكشف عنه بكل حيويته، والذي يتشاركه السجناء للحظة فيما بينهم، هم والزائر، ونحن الذين نقرأ القصة. وهكذا يبدو بُعد مشاركة الوجود كحركة حيوية خاصة به، أي انفتاح، أو إعادة انفتاح، على معنى قابل للمشاركة، أو ربما أقل من ذلك، انفتاح على مشاركة المعنى كإمكانية، كقوة المعنى ذاتها. يتعلق الأمر، كما يرى مورايس، بـ”السؤال القديم عن المعنى”، إذا اردنا استعمال الصيغة الطريفة نوعا ما التي استخدمها جان لوك نانسي في رواية “الظهور”. واستنادا إليه، يمكننا القول إن المعنى يظهر هنا “كعنصر دلالة الوجود باعتباره (هو ذاته) ما يظهر، وأنه ليس هناك معنى لواحد […].” “ال’معنى’، يقول نانسي باختصار، لا يتحقق إلا في أكثر من واحد. حتى، وخاصةً، عندما يفرض “الأوحد” و”المفرد” معناه.” ويترتب على ذلك، كما يبدو لمورايس، أنه دائما في مواجهة الخارج الذي يجلبه الآخر، يمكن للواحد أن يميز نفسه، وأن يصل إلى “المطالبة بمعناه”. وأخيرا، وباستخدام كلمات بايلي في مقدمته الخاصة بالطبعة الثانية الصادرة عام 2007 لنفس الكتاب، فإن الأمر يتعلق بـ “المعنى الذي يظهر من مجرد حقيقة ظهورنا”. وهي كلمة يحددها الكاتب في الفقرة التالية: “حدثُ الوجودِ المشتركِ، هذا ما سميناه بـ الظهور : نظهرُ معا، ليسَ ذلك عرضا فرديا يصيبُ جوهرا فرديا ينبغي أن يُعفيَ نفسه منه أو يعتذرَ عليه، وليس أبدا جماعةً يتعين الاندماج فيها. نظهرُ أمامَ الآخر، بمقتضى حكمٍ لم يسبقُه ولا يُنظِّمُه أيُّ قانون. نظهرُ أمامَ أنفسنا، أي أمامَ تماثلٍية ليسَت هويةً، تجمعُنا وهي تفرقنا […]”. إن هذا الظهور المشترك للذات والآخر أمام الذات والآخر، من خلال “مطلب” ينتهي إلى أن يكون متبادلاً، هذا الظهور الذي يفصلنا عن أنفسنا في مشاركة مجتمع الوجود – دون أن يخلق رابطا مجتمعيا – هذا الظهور هو الذي يبرزه بايلي ونانسي من خلال كلمة “ظهور”. بالعودة من هذا المنظور إلى مشهد السجن، يبدو أن تجربة الظهور تضع على المحك، تطرح للتداول، تضع موضع سؤال، المشترك، بُعد “مجتمع” البشر الفانين، بالمعنى المزدوج لهذه الكلمة، بطبيعة الحال، ما دام أنه صفة المشترك، “الوجود المشترك”، التي تعزز، على وجه التحديد، ظهور مجتمع حول “حلم بشيء”، كما يقول بايلي أيضا في كتابه “عودة إلى الظهور” الصادر عام 2009؛ وبذلك، تشوه هذه التجربة – دون إعادة تشكيلها – صورة السجناء الذين لا منظور لهم والذين اختزلوا إلى حالتهم الخاصة من الاستبعاد، كما لو أن الحاضر، الوقت الحاضر، يمكن أن يكون حينها، في إطار هذه “الكثافة المركزة”، من هذه “المسرحية المخيفة” التي تم الحصول عليها من خلال صدى كلمات البعض على كلمات الآخرين (اسم “الهروب” و”آه” التي تستجيب لها)، صدى يسمح لكليهما، بمشاركة الظهور المشترك لـ”لما هو قادم”، وبالتالي لـ”نحن”، كما لو أن الحاضر المكثف بهذه الطريقة يمكن أن ينفصل عن نفسه، ينتزع نفسه بعيدا عن نفسه، يهرب، لماذا لا؟، من نفسه، في “ما هو قادم قادر على كسر جمود عالم تراكمي قائم على غياب الحدث”. يبدو لمورايس، باختصار، أنه من الممكن الإشارة إلى جوقة السجناء هذه كتجربة تُشير إلى تكوين “نحن”، وليس “نحن” “مُشمعة” و”حصرية ومنغلقة”، “منطوية على ذاتها”، بل “نحن” “لا تستقر”، “لا تلتف”: “بدلاً من دائرة، دائرة في ممر”. “نحن” تنفلت، إذن، من “نحن” المطلقة [أو من “هم”] التي تُعطي جوهرا لما سيُعرّفه بايلي، في مقال يُسمى بدقة “”نحن لا تلتف علينا”، بأنه “المشهد الضميري الشمولي”. وكما قال بايلي في “العودة إلى الظهور”، إنها “جوقة غير متطابقة”، “لن يكون لها صوتها الخاص أبدا ولكنها ستعرف كيف تتعرف على نفسها عند رحيل كل صوت”. بعد ذلك، أراد مورايس ربط هذا الحدث الصوتي في مشهد السجن، وتجربة الظهور هذه، و”ارتعاش المعنى” الذي تردد صداه، و”الخروج المحض عن المعنى”، بإحدى تأملات بايلي في القصيدة، آخذا إياها، القصيدة، لا كمثال على نوع أدبي، بل كـ”حالة الوجود في عالم اللغة دون أي شيء آخر سواها، […] أي في مطلق اللغة، في مطلق إمكانية المعنى”. في مثل هذه الحالة، يقول بايلي مجددا في النص نفسه: “[…] ما يُقدَّم ليس مسرحة لذات، بل شريطة إمكان قادمة، يُمكن اعتبارها كذلك. تتصوَّر هذه الشريطة انسحابا، بل انسحابا مطلقا: في اللحظة t من بداية القصيدة، لا يوجد شيء، لكن هذه الحالة من الاختناق ليست مصفاةً تتدفق عبرها ذاتٌ تحلم بذاتها، بل هي قناةٌ يدخل منها العالم. حركة العالم هاته للمجيء إلى اللغة بالقصيدة، حيث “ينسحب” العالم بينما هو “يدخل”، يمكن تلخيصها بما أسماه بايلي، إذا جاز هذا التجديد اللغوي، “أسطرته”، أي أسطورة العالم. في تأمله في كلمة “الأسطورة”، التي أتينا على ذكرها منذ البداية، والتي هي كذلك موضوع مدخل في كتاب “خصوصية اللغة”، يتناولها بايلي بمعناها المزدوج: “التعيين” من جهة، و”الخيال” و”السرد” من جهة أخرى، قبل أن يتأمل في عملية “الاسطرة” كتجربة مكثفة و”مركزة”، تتجلى فيها “أشدّ إجراءات الإقامة الجبرية صرامةً وأعنف رحيل في آنٍ واحد”. بهذا المعنى، يمكن فهم سرد بايلي، وهو “يؤسطر”، كما يمكن القول، مشهد تنهد السجناء، انطلاقا من العلاقات التي يقيمها بين الأسطرة وظهور الجملة، أو القصيدة. على حد تعبير الكاتب، في مدخل “الأسطورة”: إنما في كل اسم تُعطى الحقيقة وتُفقد، متذبذبة، وفي هذا التذبذب بين الثبات والانطلاق بين الاختصاص والخيال، تكشف اللغة عن حقيقتها. بين الأسطورة التي تُضفي على الأشياء طابعا أسطوريا وما يجعلها أسطورية، لا توجد سوى نبضة. من أحدهما إلى الآخر، ليست اللغة ترددا، بل مسارا: سلسلة من اللمسات أو الارتدادات التي تتلاطم بالحقيقة والأسطورة. تتحرك كل كلمة على طول المؤشر الذي ينتقل من الثبات إلى الرنين، والصياغة ليست سوى فن جعل هذه الإزاحات تلعب بإرسالها إلى ما هو غير متوقع. إن التعبير الصحيح هو الحفاظ على الاهتزاز ، وتبيان أين نوجد بالكلمة التي نلقيها. لا يقتضي الامر تسميرها، أو تثبيتها، بل تركها تنبض، جعلنا قادرين على معرفة كيف نؤسطر بها من جديد. إذا كان الأمر كذلك، فربما يمكننا القول إن الكتابة هي البحث عن أسطورة انطلاقا من أسطورة أخرى، عن جملة انطلاقا من جملة أخرى… “التمسك بالاهتزاز”، العلاقة “الصحيحة”، القادمة دائما، بين الكلمات والجمل التي لا تسمح لنفسها بأن تكون “ثابتة”، والتي لا تكف عن أن تتأسطر “من جديد”. إنها “البحث عن جملة”، التطلع إلى “الهيئة” التي يتخذها المعنى بتشتته “كحلقة دخان”، على حد تعبير بيير ألفيري، الذي رحل عنا مؤخرا، والذي يُلمّح هنا، بدوره، إلى “الروح الكاملة المُختصرة” لأبيات مالارميه، إلى روح الشاعر أو الأدب نفسه التي “نتنفسها ببطء/ في حلقات دخان متعددة/تُلغى في حلقات أخرى”. أو كـ”ارتداد”، كما يُذكّرنا بذلك مدخل آخر من كتاب “خصوصية اللغة”، حيث يُمسرح بايلي، في صورة فكرية تتكرر مرارا في نصوصه، “اللقاء” العابر بين اللغة والمعنى. إليكم بداية النص: “في الارتداد تكمن سعادة : الحجر الذي يُلقى على الماء لا يبتلعه الماء فورا، بل يترك آثارا، من خلال سلسلة من الارتدادات، مسارا، تكون فيه كل مرحلة من هذا المسار المتقلب، حتى الأخيرة، انطلاقة جديدة. […] إن الطريقة التي يُخدش بها الماء مع كل ارتداد تُشبه الطريقة التي تلتقي بها اللغة بالمعنى: دفقة عابرة، لمسة: القصيدة أو الكتاب ليسا سوى سلسلة من الارتدادات على سطح المعنى”. ولكن ما نوع “السعادة” التي نتحدث عنها؟ أود أن أقول إن السعادة التي يتعلق بها الأمر لدى بايلي (والتي يتردد صداها أيضا في “آه…!” السجناء) هي سعادة الدلالة، سعادة “نعم”، كما رأينا، سعادة هذه النعم للحياة التي، في “رشة” معناها – أي، في ظهورها في جملة في “سلسلة من الارتدادات” (حتى لو كانت الجملة مقتصرة على هذه ال”آه…!”) – تظهر، وتجد للحظة اهتزازها، صداها، “الصدى المدوّي من الخارج الذي يرحب بنا ولكنه لا يعيقنا”، كما يقول بايلي أيضا في مدخل “الخارج”، سعادة الحياة التي تجد (أريد أن آخذ الكلمة بالمعنى البروستي، يمكنني أيضًا أن أقول: “التي تعيد كتابة”…) “أسطورتها” أو أساطيرها، وبالتالي إعادة تأهيل نفسها كشكل، كشكل في الحياة، سعادة الحياة التي تجد بالتالي إمكان، أو قوة، مجيئها إلى الحياة، حياتها القادمة، المنفتحة هكذا”. أو، لتقديم صورة أخرى للفكر مع هذه الكلمة الأخرى العزيزة على بايلي: سعادة الابتعاد عن كل شيء، وانتزاع أنفسنا بطريقة ما من المكان، أو من اللامكان، أي من هذا المكان “الذي لم ينفتح للقادم أو الذي لا يريده، والذي لا ينتظر أي أثر، ولا قصة”؛ الهروب من هذا المكان، أو اللامكان، الذي نحدد به أنفسنا و”نتثبت”، والذي “نعلق” عليه هشاشة الحياة، واستبعادها. فضلا عن ذلك، فإن “تغيير المشهد” هو، كما نعلم، عنوان كتاب لجان كريستوف بايلي يروي فيه “رحلات في فرنسا” (هذا هو العنوان الفرعي للكتاب)، منتبها دائما، على وجه التحديد، إلى الحياة، وأشكالها، تلك التي تظهر، أو توجد، في حيويتها الخاصة، في المواقع الأكثر جفافا أو الأكثر هشاشة في البلاد، مما دفع بايلي إلى الاستنتاج بأن المكان “ليس أبدا “لا مكان”، وليس شيئا يمكن إرساله في ثلاث جمل، حتى لو فعلنا ذلك”. بعيدا عن أشكلة مسألة الهوية، والتي تظل دائما ملحة، والتي لن يتناولها هنا، يبدو مورايس مهتما بشكل خاص بالطريقة التي يسمح بها الموقف المغير للمشهد، إذا جاز لنا أن نصفه على هذا النحو، بإعطاء صوت، ولو جزئيا، لـ “للإشارات” الحيوية “السرية” إلى حد ما لأي شكل من أشكال الحياة التي تتخذها “الفظاظة التكنوقراطية” المهيمنة كما هي غير منتجة أو هشة أو حتى “غير مهمة”، بالطريقة التي يسمح لنا بها مثل هذا الموقف بإعطاء صوت لهذه “الإشارات” التي “لا تأتي فقط في أعقاب انواع من الأضلاع، بل تنزلق نحو بعضها البعض، مشكلةً ارتداداتٍ، موجاتٍ تتداخل في ما بينها. ليس فقط حيث نتوقعها، في المناطق التي قتلت ذهابا وإيابا، بل بشكلٍ غير متوقع، من أي نقطةٍ في العالم أو في المعرفة. في مقدمة ترجمته لكتاب “الرومانسيون الألمان”* (عام 2000)، الذي نُشر لأول مرة عام 1976، أشار بايلي إلى تجربة هؤلاء الكُتّاب في القرن الثامن عشر “كدوامة، كسلسلة لا نهاية لها […] من الروابط والارتدادات”، ثم شرح العنوان الذي اختاره للكتاب على النحو التالي: “الأسطورة المتفرقة هي الاسم الذي أطلقته على حركة التحرر هذه، على هذا الانتشار المفرق والمُجمّع للمعنى في آنٍ واحد”. من الواضح أن هذا العنوان يتماشى مع هذه العبارة بنوفاليس التي اقتبسها بايلي في أكثر من نص: “الفردوس، إن صح التعبير، مُشتّت على الأرض كلها”، وهو ما يعني بالنسبة إلى بايلي، الحاجة إلى “التطلع نحو اليوتوبيا، التي لم تعد تُصوَّر ككلٍّ قادم، بل كشيء مُجزّئ وقابل للحمل …” أخيرا، أود أن أقول، من منظور جان كريستوف بايلي، وبالانحراف قليلًا عن تعليقه على جملة نوفاليس، إن قوة الحياة “المتقطعة والمتنقلة” لدى أكثر الحيوات والكائنات تفاهةً ظاهريًا هي ما تهدف القصيدة إلى إيقاظه وتشتيته، من خلال تعليقها، في “رقصة ثنائية” لا تنتهي بين “تسميتها وصياغتها”. بإعادة توطينها، وتوثيقها، لمَ لا؟ كأشكال حية، كأشكال حياة، تظهر، وهي مشوشة، وترتدّ، وتُعلّق على نفسها – وتختبر نفسها كـ” نحن قابلة للامتداد ومفتوحة“. في هذا المعنى، سوف نختم بمقطع من قصيدة للكاتب، مأخوذة من مجموعته “جهير مستمر”، والتي ربما يمكن أيضا، من خلال “الريح الهادئة” لكلماتها، أن تكون بمثابة عنوان لمشهد تنهد السجناء الذين يحلمون بالهروب: ليست أغنية بل جهيرا مستمرا تحت، نعم، تحت الكلمات، فيها، يرتفع معها يرفع معها ما تحتفظ به قبل ما تكون الأشياء تقول لهم موجة واقفة قبل المعنى لكن بدونها سيضيع تماما موجة، أي نقر: لا حدث لا صدفة لا حتى (حتى ليس الآن) رمية نرد: اتصال – الريح الثابتة للكلمة بدون قاعدة وبدون نقطة تشير، تتوجه قوية إلى غربال الهلاك هكذا مع دواز يعني تركها تمر، تأتي تأتي إلى الضفة: أغاني الزورق. ________________________ (*) كتاب جماعي ساهم في تأليفه: سيباستيان ألبين، ماكسيم ألكسندر، ألبير بيجين، جان كارير، كازاليس، أندريه كوروي، يانيت ديليتانج تارديف، أوغست ديتريش، دكتور دوسارت، رينيه جينيار، جان كلود هميري، لا فليز، جان لامبير ، لورو ، ريمي لوريلار، لورنس لينتين، موريس ميترلينك، دينيس نافيل، غابرييل بيكابيا، جان كلود شنايدر، لويز سيرفيسن، هنري توماس، جان ثوريل وبيير فيلو.
#أحمد_رباص (هاشتاغ)
Ahmed_Rabass#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جان كريستوف بايلي: الأسماء المشتركة والرواية الواقعية (3/3)
-
جان كريستوف بايلي: “الأسماء المشتركة” و”الرواية الواقعية” (3
...
-
ترامب يأمر بنشر غواصتين نوويتين على مشارف روسيا ردا على تصري
...
-
أحمد التوفيق يعفي محمد بن علي من مهامه على رأس المجلس العلمي
...
-
جان كريستوف بايلي: -الأسماء المشتركة- و-الرواية الواقعية- (2
...
-
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء
...
-
سعد برادة يجلس مع النقابات التعليمية على طاولة الحوار تفاديا
...
-
خريبگة: ساكنة المدينة بين سندان المرضى النفسيين والمختلين عق
...
-
ألمانيا تمعن في تزويد أوكرانيا بالأسلحة وتستعد لدق طبول الحر
...
-
باتريسيا لومبار كوساك: الناطق باسم الاتحاد الأوروبي يؤكد أن
...
-
فرنسا تبلور المراجعة الاستراتيجية الوطنية 2025 تحسبا للسينار
...
-
الحزب الاشتراكي الموحد يعقد مؤتمره الجهوي الثالث بجهة بني مل
...
-
الجيش الإسرائيلي يعترض سفينة حنظلة الإنسانية وعلى متنها الصح
...
-
الهواتف المسروقة في المملكة المتحدة ينتهي المطاف بجزء منها ف
...
-
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء
...
-
إصلاح نظام التقاعد في المغرب: جبهة نقابية واقتصادية ضد “الثا
...
-
اليمن، عشر سنوات من الحرب. مقابلة مع لوران بونفوا
-
أكثر من 100 منظمة إنسانية تحذر من “مجاعة جماعية” في غزة
-
هل يسخر أحمد الشرع من السوريين؟ (2/2)
-
هل يسخر أحمد الشرع من السوريين؟ (2/1)
المزيد.....
-
وفاة الممثلة الأميركية لوني أندرسون عن عمر ناهز 79 عاما
-
الدراما العراقية توّدع المخرج مهدي طالب
-
جامعة البصرة تمنح شهادة الماجستير في اللغة الانكليزية لإحدى
...
-
الجوع كخط درامي.. كيف صورت السينما الفلسطينية المجاعة؟
-
الجوع كخط درامي.. كيف صورت السينما الفلسطينية المجاعة؟
-
صدر حديثا : -سحاب وقصائد - ديوان شعر للشاعر الدكتور صالح عبو
...
-
تناقض واضح في الرواية الإسرائيلية حول الأسرى والمجاعة بغزة+
...
-
تضامنا مع القضية الفلسطينية.. مجموعة الصايغ تدعم إنتاج الفيل
...
-
الخبز يصبح حلما بعيد المنال للفلسطينيين في غزة
-
صوت الأمعاء الخاوية أعلى من ضجيج الحرب.. يوميات التجويع في غ
...
المزيد.....
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
المزيد.....
|