أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسام حسين نعمان - زياد الرحباني: وداعاً أيها العاصي الجميل وأخر طفل مشاكس















المزيد.....

زياد الرحباني: وداعاً أيها العاصي الجميل وأخر طفل مشاكس


حسام حسين نعمان
شاعر وكاتب

(Hossam Naman)


الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 19:53
المحور: الادب والفن
    


رحل زياد الرحباني، فسكنت أصوات البيانو المشاكس، وخيّم صمت ثقيل على تلك الليالي التي رواها بألحانٍ حملت حنيننا وأوجاعنا وسخريتنا السوداء. لم يكن مجرد ملحن أو موسيقي أو كاتب أغانٍ؛ كان سارداً رئيسياً في حكاية الشرق الحديثة، حكاية مزّقتها الحرب وغمرها الشجن ورفعها الأمل، بينما وقف زياد، بمنظاره السميك وابتسامته الغامضة، يسجّل تفاصيلها بدقة الفيلسوف ومرارة الكوميديان وعمق الشاعر.
رحل زياد. رحل من كان يسمع نبض الشارع، نبض الحرب، نبض الغربة، نبض الحب المكسور، فيحوّلها إلى نوتات وكلمات تلامس الأعماق وتُقلب الواقع على رأسه بسخريةٍ لا ترحم.


ليس مجرد فنان: زياد الوعي الذي يغني


لم تكن أغاني زياد مجرد أنين. كانت وعيًا مُوسيقياً. كان حزنه حادًا مثل شظية، لأنه رأى بوضوح ما أراد الآخرون أن يُغمضوا أعينهم عنه. جرحه لم يكن شخصيًا وحسب؛ كان جرح وطنٍ يُشرّح نفسه. "أنا عندي حنين" لم يكن توقًا لماضي عاطفي فقط، بل كان صرخة تجاه زمنٍ ضائع، تجاه بيروت التي أكلتها "الطواحين" طواحين الحرب والطائفية والنسيان. حتى أغانيه لفيروز، أمه، حملت ثقلًا وجوديًا. لم يكن يكتب لحنًا جميلًا؛ كان يكتب أسئلةً مُلحّةً على البيانو: لماذا نُجرح؟ لماذا نُقتل؟ لماذا يتحول الجار إلى عدو؟ كان حزنه ذكاءً يُدرك عمق الكارثة، ويعزفها دون أن يخدعنا بوهمٍ زائف عن جمالها.


النضال: لا شعارات، بل موسيقى تكشف المستور

لم يكن نضال زياد الرحباني نضال رجل ماركسي يحمل بطاقة حزبٍ فحسب، بل كان نضالاً وجودياً وفنياً ضد كل أشكال القمع والخراب والجهل. حوّل الموسيقى إلى منبر. أغانيه كانت منشورات سياسية ملحّنة.كانت تشريحاً دامياً لآلية الحرب الأهلية وتحويل الشقيق إلى عدو. مسرحية "بالنسبة لبكرا، شو ؟" كانت سؤالاً وجودياً في زمنٍ انقطع فيه المستقبل، سؤالاً يلخص قلق جيلٍ كامل. حتى أغانيه التي تبدو شخصية، مثل "مربى الدلال "، تحمل في طياتها نقداً اجتماعياً لاذعاً للعادات البالية والكذب الاجتماعي. نضاله كان في رفضه للزيف، في فضحه للتناقضات، في تحديه للسلطات - سياسية كانت أم دينية أم اجتماعية - بموسيقى وكلمات لا تقل حدّة عن أي خطاب ثوري، لكنها أكثر تأثيراً وأبقى أثراً. كان يقول الحق بعيداً عن الخطابة الرنانة، مستخدماً لغة الشارع وصور الحياة اليومية، فجعل النضال قريباً وملموساً. كان شيوعياً في رفضه للاستغلال والطبقية والخرافات، وفي إيمانه بفنٍ يخاطب الناس جميعاً، لا النخبة فقط.
لم تكن شيوعيته مجرد انتماء سياسي عابر. كانت جوهر رؤيته للعالم والفن. رفض زياد أن يكون الفن زينةً للنخبة أو تسليةً للبسطاء. أراده سلاحًا. سلاحًا ضد الاستغلال ، ضد الخرافة الدينية ("أنا مش كافر" - بسخرية لاذعة تكشف التناقض)، ضد العادات البالية والكذب الاجتماعي. نضاله لم يكن خطبًا حماسية، بل كان تشريحًا دقيقًا باللحن والكلمة للآليات التي تُدمر الإنسان: آلة الحرب، الطبقية، التزمت، الزيف. كان يؤمن بأن الفن الحقيقي يجب أن يخاطب الجميع، أن يكون صادقًا، أن يكشف القبح حتى لو كان مؤلمًا. بيانوُه كان منبره، وأغانيه كانت منشوراته التي تخترق القلوب قبل العقول.


السخرية: الضحك في وجه الهاوية


من كان يسمع أغنية "أنا مش كافر" أو "بما إنو كلشي نضيف" دون أن تضغط ابتسامة على شفتيه رغم كل الألم؟.
كانت سخرية زياد الرحباني سلاحاً ذا حدين: تهتك قناع الواقع المزيف، وتقدم لنا منفذاً للتنفس في غرفة الحرب المغلقة. سخريته لم تكن هروباً، بل كانت مواجهة بآلية مختلفة. كانت طريقة لقول: "انظروا إلى هذا الجنون".
لم تكن كلماته مجرد أغنية طريفة، بل كانت صورة كاريكاتورية دقيقة للشخصية اللبنانية خاصة والعربية عموماً, الشخصية المتناقضة، المتعجرفة أحياناً، والمحبطة أحياناً، لكنها دائماً قادرة على إثارة الضحك رغم الدموع. حتى في أكثر أغانيه حزناً، هناك لمسة سوداوية ساخرة في تصوير عبثية الموت والبؤس الجماعي. هذه السخرية كانت تعبيراً عن الذكاء الحاد الذي يرى الخلفية المأساوية للكوميديا الإنسانية. كانت رحمة أيضاً، طريقة لتخفيف الوطأة علينا، لنقول: "نعم، إنه مؤلم، لكن انظروا كم هو أيضاً سخيف".
كانت هذه هي معجزته الكبرى. كيف يُخرج الضحكة من حنجرة اختنقت بالدموع؟ سخرية زياد لم تكن هروبًا من الواقع، بل كانت طريقة أخرى لمواجهته، ربما الأكثر إيلامًا للسلطة وللأوهام. كانت تقول: انظروا إلى تناقضاتنا لم تكن إهانة، بل كانت صورة مرآة موجعة ومضحكة في آنٍ واحد لشخصيتنا المُتشظية. سخرت من التفاهة في زمن الموت. حتى في قمة الحزن، هناك لمسة ساخرة. هذه السخرية كانت ذكاءً صافياً يرى أن المأساة، أحيانًا، لا تحتمل إلا الضحك كرد فعل، لأن البكاء وحده لا يكفي، بل قد يُقدّس الألم بلا جدوى. كانت رحمته بنا، أن منحنا هذا المنفذ.

لماذا يبقى زياد؟ لأنّه صار "حالنا"


رحل جسد زياد، لكن "زياد الرحباني" كفكرة، كإحساس، كصوت، لن يرحل. أغانيه هي دليلنا إلى الجمال والابتسامة والحرية. هي قاموس مشاعرنا الذي لا نعثر على مفرداته في مكان آخر. من يسمع "الحالة تعبانة ياليلى" أو "أنا اللي عليكي مشتاق" أو "يانور عينيا" أو "عايشة وحدا بلاك" دون أن يستشعر نبض الحياة اليومية بكل تناقضاتها وجمالها وقسوتها؟

فقدنا العاصي الجميل الذي رفض أن يكون نسخة عن أحد، حتى عن والده العظيم عاصي. فقدنا الملحن الذي جعل البيانو يبكي ويضحك ويثور. فقدنا الشاعر الذي صاغ كلماتنا التي عجزنا عن قولها. فقدنا الساخر الذي منحنا الضحكة في أحلك الليالي. فقدنا المناضل الذي حارب بالجمال ضد القبح، وبالحقيقة ضد الزيف.
لم يكتب زياد الرحباني أغاني؛ كتب قاموس المشاعر الإنسانية المعاصرة. من يستمع إلى ألحانه بجنونها المنظم، وكلماته بحلمها الهارب،بغربتها القاسية، بنوستالجيا المدينة الضائعة، يجد شظايا من ذاته. لقد حوّل التجارب اليومية, ركوب البوسطة، الانتظار، الحب الفاشل، الغربة، ذكريات الطفولة إلى أساطير حديثة.
لم يكن "ابن عاصي وفيروز" فقط. كان العاصي المختلف الذي شق طريقه بعناد وإبداع لا يُجارى. رفض القوالب الجاهزة، حتى قوالب والده العظيم. كان ملحنًا جعل البيانو يتحدث بلهجة بيروتية. كان شاعرًا يستخدم لغة الشارع ليصعد إلى الفلسفة. كان فيلسوفًا يطرح أسئلة الوجود بلغة "العبقري؟". كان الكوميديان الذي يضحكك ليبكيك على حقيقتك.

رحل الجسد. لكن زياد الرحباني، كـ ظاهرة فكرية ووجدانية وجمالية، باقٍ. هو باقٍ لأن أغانيه ليست مجرد تسجيلات، بل هي تشخيصٌ دائمٌ لوضعنا. تشخيصٌ لحزننا الذي يرفض الانكسار تمامًا، لغضبنا الصامت، لضحكتنا المرّة، لحنيننا المستحيل، ولتمردنا الخافت الذي لا ينطفئ. هو باقٍ لأننا كلما شعرنا أن كلماتنا تعجز عن وصف حالنا، نعود إلى كلماته وألحانه، فنجد أنها ما زالت تقول ما نعجز عن قوله، بصدقٍ يؤلم وبجمالٍ يُخلّص.



#حسام_حسين_نعمان (هاشتاغ)       Hossam_Naman#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين عينيك يا الله
- دليل الطبخ الاستعماري : وصفات سحرية لتمزيق الأوطان
- حزب البعث والذكاء الصنعي عندما تلتقي التكنولوجيا بمستحاثة إي ...
- أناشيد الديكتاتور: عندما يصبح النشاز سيمفونية وطنية
- نبوءات أخر الزمان : عندما يلتقي الجهل بالخيال
- الديكتاتورية : فن البقاء غبياً حتى النهاية


المزيد.....




- خالد كمال درويش: والآن، من يستقبلنا بابتسامته الملازمة!
- فنانون عالميون يتعهدون بمقاطعة مؤسسات إسرائيل السينمائية بسب ...
- الترجمة بين الثقافة والتاريخ في المعهد الثقافي الفرنسي
- مسرحية -سيرك- تحصد 3 جوائز بمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي
- لماذا شاع في ثقافة العرب استحالة ترجمة الشعر؟
- سلوم حداد.. تصريحات الممثل السوري حول نطق الفنانين المصريين ...
- جدل الفصحى.. الممثل السوري سلوم حداد يعتذر للمصريين بعد تصري ...
- السقا يفجر مفاجأة للجميع .. فيلم مافيا الجزء الثاني قريبًا “ ...
- تضارب الروايات حول اشتعال النيران في أسطول الحرية
- بسبب غزة.. 1800 فنان يتعهدون بمقاطعة مؤسسات الكيان السينمائي ...


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسام حسين نعمان - زياد الرحباني: وداعاً أيها العاصي الجميل وأخر طفل مشاكس