حسام حسين نعمان
الحوار المتمدن-العدد: 8408 - 2025 / 7 / 19 - 17:25
المحور:
كتابات ساخرة
إذا كنتَ تظن أنَّ "الديكتاتور" مجرد لقب يُمنح لأولئك الذين يملكون شواربَ مُهيبة أو قُبَّعات عسكرية لامعة، فأنت مخطئ, الديكتاتور هو ذلك الشخص الذي يُصرُّ على أن يُعلِّم العالم فنَّ "الغباء المُتفوِّق"، بينما يُحيط نفسه بطبقة من الحاشية الذين يَعتقدون أنَّ النفاقَ فنٌّ والتملُّقَ فلسفة. إنهم مثل الأطفال في حفلة عيد ميلاد، لكن بدلًا من البالونات والحلوى، لديهم دبابات وخطابات نارية عن "المجد الوطني". دعونا نستعرض معًا هذه الظاهرة الإنسانية العجيبة، التي تثبت أنَّ الغرور لا يحتاج إلى ذكاء، بل فقط إلى ميكروفون عالٍ الصوت.
إذا كنتَ تعتقد أن مسرحية "الملك لير" لشكسبير هي المثال الأكثر إثارةً للشفقة لشخصية تائهة في أوهام العظمة، فأنت لم تلتقِ بعد بديكتاتورٍ عصري. الديكتاتور العصري لا يحتاج إلى مسرحيات تراجيدية، فهو يكتب سيناريو حياته بنفسه، ويجبر الملايين على تمثيل دور الجمهور الذي يصفّق بحماس بينما يرقص على أنقاض حقوقهم. إنه الفنان الوحيد الذي يملك "حق النقض" على الواقع، ويُعيد تشكيله ليصبح كوميديا سوداء بطلها الوحيد... هو.
المشهد الأول: عبادة الشخصية... أو كيف تبيع الهواء على أنه عطر فاخر؟
لا تكتمل الديكتاتورية دون أن يُعلّق الديكتاتور صورته في كل زاوية، حتى في أماكن لم تكن تخطر على بال أحد. الصورة الرسمية له عادةً ما تكون مُلوّنة بدرجة مبالغ فيها، لدرجة أن لون بشرته يشبه مزيجاً من الكركم ومسحوق الغسيل، وعيناه تلمعان كأنهما تعكسان أشعة ليزر من كوكب آخر. التماثيل؟ نعم، تماثيله تُنحت بكل حب... أو بالأحرى، نُحتت تحت تهديد السلاح. بعضها يبلغ طوله عشرة أمتار، بينما يبلغ طوله الحقيقي متراً ونصف، لكن من قال إن الديكتاتور يحتاج إلى الصدق حتى في القياسات؟
اللقب الرسمي للديكتاتور هو دائماً تحفة فنية: "قائد الأمة، أب الشعب، منقذ البشرية من خطر الفشل في إدارة مزرعة دجاج". اللقب يجب أن يكون طويلاً لدرجة أن المواطنين ينسون أسماءهم الأصلية من فرط ترديده. أما الشعارات، فهي عادةً جمل مُكرّرة حتى تفقد معناها، مثل: "الشعب يُريد"، لكن ما لا يقوله الديكتاتور هو أن "الشعب يُريد" الهرب إلى أقرب حدود.
ولا يصبح المشهد الديكتاتوري كاملاً بدون "الحاشية"، أولئك الذين يبيعون ضمائرهم في سوق النفاق اليومي، مقابل بطاقة عبور إلى غرفة القائد. مهمتهم بسيطة: تأكيد أنَّ الديكتاتور هو الأذكى، والأجمل، والأقوى… حتى لو كان يلبس بدلةً مخططةً تجعله يشبه "مهرج سيرك" , والمثير للدهشةأن الحاشية نفسها تعيش في حالة دائمة من الخوف: خوفٌ من أن يكتشف الديكتاتور أنهم لا يُحبونه حقًا كما يريد ويتخيل، وخوفٌ من أن يكتشف الشعب أنهم كذبة وكيان هلامي لامعنى له. ميزتهم الأهم أنهم بارعون في إقناع الديكتاتور بأن الفشل دائمًا ما يكون خطأ "الآخرين": الغرب، الجواسيس، أو حتى الطقس "يا زعيم، المواطنون جائعون لأنَّ الأمطار لم تأتِ هذا العام… نعم، بالطبع هذا بسبب مؤامرة أمريكية"
المشهد الثاني: الانتخابات... أو مسرحية "اخترناك لأننا لا نستطيع اختيار غيرك"
الانتخابات في الدولة الديكتاتورية هي أشبه بمسابقة جمال يُشارك فيها مرشح واحد، ويحصل على 99.9% من الأصوات. النسبة العشرية المتبقية تكون عادةً خطأً حسابياً من آلة فرز الأصوات، والتي يُعدمها الحرس الرئاسي لاحقاً بتهمة الخيانة العظمى. أما الشعب، فيُطلب منه التصويت بكل "حرية"، مع وجود صناديق اقتراع شفافة لضمان أن كل ورقة تُكتب باسم القائد، وإلا... فإن الصندوق نفسه سينقلب إلى زنزانة منفردة في فرع أمني ما.
الخطاب الانتخابي الوحيد يكون عادةً كالتالي:
"أيها الشعب الكريم، لقد قررت التضحية بنفسي مرة أخرى وتحمل عبء الحكم، لأنني الوحيد القادر على حمل هذا العبء... أو حمل حقائب أموالكم إلى حساباتي السويسرية".
المشهد الثالث: الإعلام... أو كيف تُحوّل الحمير إلى خيول سباق؟
الإعلام في الدولة الديكتاتورية لا يبيع الأخبار، بل يبيع الوهم. القناة الرسمية تشبه حلقة من مسلسل خيال علمي: الرئيس يطير في الفضاء، الرئيس يغوص إلى قاع المحيط، الرئيس يتحدث إلى النمل والطيور والزواحف ... والأخبار الوحيدة المسموح بنشرها هي تلك التي تثبت أن البلاد هي "جنة الله على الأرض"، بينما العالم الخارجي عبارة عن جحيم مُلوّث بالفيروسات الديمقراطية.
البرامج التلفزيونية تتنافس في مدح القائد. هناك برنامج طبخ يُسمى "أطباق الشعب المُخلصة"، حيث تُحشى الدجاجة بـ"قوانين الطوارئ" وتُقدم مع صلصة "التضحية الوطنية". البرنامج الوحيد الذي يُسمح بالنقد فيه هو نقد من ينتقد .
المشهد الرابع: الشرطة السرية أو المخابرات ... أو "نحن نعرف أنك تعرف أننا نعرف"
الشرطة السرية في النظام الديكتاتوري هي مزيج بين "أوبرا الجواسيس" وفرقة مسرحية فاشلة. مهمتهم هي مراقبة كل همسة، حتى لو كانت مجرد حوار بين قطتين في الزقاق. جواسيسهم موجودون في كل مكان: في المقاهي، في المدارس، وحتى داخل الثلاجات (في حالة بحثهم عن البيض المُعارض).
إذا سُئلوا عن سبب اعتقال شخص ما، تكون الإجابة جاهزة: "لأنه تنفّس بطريقة تشكك في حكمة القائد" أو "لأنه نظر إلى صورته بطريقة غير محترمة". أما التحقيق، فهو عملية يُطلب فيها من الضحية أن تعترف بأنها من سكان المريخ، وأنها خططت لسرقة شمس البلاد ونقلها إلى الخارج.
المشهد الخامس: الاقتصاد... أو كيف تُحوّل العملة إلى ورق تواليت فاخر؟
الاقتصاد الديكتاتوري يعتمد على نظرية "كل شيء ممكن... طالما لا نفعل أي شيء". العملة المحلية تُطبع بكميات تفوق إنتاج الذهب الأسود، لدرجة أن سعر الخبز يصبح مليار، لكن لا مشكلة فالقائد يُصدر قراراً: "من الآن، الأرقام تُحذف من الآلة الحاسبة لتحسين معنويات الشعب ".
المشاريع التنموية عادةً ما تكون عبارة عن نصب تذكارية للقائد: تمثال هنا، قصر هناك، مطار باسمه في قرية لا يوجد بها سوى ثلاث بقرات. أما الشعب، فيُطلب منه أن يعيش على "الفخر الوطني" بدلاً من الخبز. وبحسب الإحصاءات الرسمية، فإن 120% من المواطنين سعداء تماماً... (الـ20% الزائدة تأتي من أصوات الموتى الذين صوّتوا من القبور برغبة القائد ).
المشهد السادس: المعارضة... أو كيف تُصبح "الفأرة" بطلاً في عالم القطط؟
المعارضة في النظام الديكتاتوري تُشبه شخصاً يحاول إشعال عود ثقاب في إعصار. إن وجدت، فهي إما معارضة وهمية (ممثلة من قبل ابن عم الديكتاتور)، أو معارضة حقيقية لكنها تعيش في قبو مظلم وتتواصل عبر رسائل مشفرة.
أشهر تكتيكات الديكتاتور للتعامل معها هو تحويلها إلى "كائن أسطوري" يُستخدم لتخويف الأطفال: "إذا لم تنم باكراً، ستهاجمك المعارضة وتُعلّمك التفكير النقدي". أما إذا تجرأ أحدهم وانتقد النظام، فسيُمنح لقب "بطل كوميدي" في عروض السيرك الحكومي .
عندما يسقط القناع... أو لماذا الديكتاتوريات تنتهي دائماً كفزاعة في حقل ؟
التاريخ يُخبرنا أنَّ نهاية الديكتاتور تشبه دائمًا فيلم كوميدي سيء: مليء بالصراخ، والركض، والفضائح. فبعد سنوات من ادعاء الخلود، ينتهي بهم المطاف إما مقتولين من قِبل شعوبهم، أو هاربين في نفق سري، أو في أفضل الحالات مُحاكمين أمام شعوب كانوا يظنونهم أغبياء. خذ مثلًا الديكتاتور الروماني نيكولاي تشاوشينكو، الذي أُجبر الجماهير على هتافات "المجد" لسنوات، حتى اكتشف فجأة أن الهتافات تحولت إلى "أعدمُوه".
ولا ننسى بوكاسا، إمبراطور أفريقيا الوسطى الذي أنفق ثلث ميزانية دولته على حفل تتويجه (نسخة رخيصة من تتويج نابليون)، ثم انتهى به الحال يُقتل ويُرمى في مقبرة جماعية. يبدو أنَّ التاريخ يُكرر نفسه كالنكتة نفسها، لكن مع تغيير الأسماء.
قد تبدو الديكتاتورية ظاهرة مأساوية، لكنها أيضًا في جانب منها مليئة بالسخرية والكوميديا التي تفضح تناقضات البشر. الديكتاتور يبدأ كـ "بطل"، وينتهي كـ "مُهرج". وحاشيته تتحول من "حراس المجد" إلى "فئران تفر من السفينة الغارقة". والشعوب تكتشف في النهاية أن الملك عارٍ… لكن بعد أن تكون قد أضاعت سنواتٍ في تصديق أن "عراء الملوك موضة جديدة"
لذا، إذا صادفتَ يومًا ديكتاتورًا، تذكَّر: كل ما عليك فعله هو الانتظار. فالقوانين الفيزيائية لا تُخادع: كلما ارتفعتَ أكثر على جماجم الشعب، سقطتْ سريعاً في الفراغ… أو في قفص الاتهام
الديكتاتور يخاف من الكلمة الحرة، والمزحة الذكية، والذاكرة التي لا تموت.
التاريخ يخبرنا أن كل ديكتاتور ينتهي إما بثورة، أو بموتٍ فجائي أو فرار , تراثه يصبح كومة من التماثيل المكسورة، وكتب التاريخ تسخر منه كشخصية لم تستطع حتى إدارة كشك لبيع السجائر بكرامة.
الديكتاتوريات لا تموت لأنها قوية، بل لأننا ننسى أحياناً أن الضحك سلاح. عندما نرى الديكتاتور كمهرّج يختبئ وراء دبابة من الكرتون، نستعيد وعينا بأن السلطة الحقيقية هي للشعوب .
الديكتاتورية هي مسرحية هزليّة، لكن تذكّروا: الجمهور له الحق في أن يرمي بالطماطم الفاسدة على المسرح.
#حسام_حسين_نعمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟