حسام حسين نعمان
الحوار المتمدن-العدد: 8409 - 2025 / 7 / 20 - 19:39
المحور:
كتابات ساخرة
في عالمٍ تتفوق فيه نبوءات آخر الزمان على مسلسلات الدراما في التشويق والإثارة، يبرز لنا فريقٌ من "المتنبئين" الذين يحوِّلون كل زلزالٍ إلى علامةٍ من علامات الساعة، وكل نيزكٍ إلى رسالةٍ مُشفَّرة من السماء هؤلاء الذين لا يكفون عن ربط كل حدثٍ عابرٍ بأحاديثٍ قديمة، وكأن الكون عبارة عن لعبة إلهية، مهمتنا جمع قطعها قبل فوات الآجل.
لا يهم إن كانت النبوءة قد كُتبت قبل ألف عام أو أمس، المهم أنها تُقرأ اليوم بتعليقٍ صوتي درامي يُشعرك أن القيامة ستقع بعد انتهائك من قراءة هذا المقال والأعجب من ذلك أن هؤلاء "الخبراء" يمتلكون إجاباتٍ جاهزة لكل تناقض، كأن يقولوا: "الحديث صحيح، لكن التفسير الخطأ هو ذنبكم أنتم… والماسونية"
لننطلق في رحلةٍ قصيرة إلى عقل "المُنَبِّئ المُتفائل"، الذي يعتقد أن كل كلمةٍ في الأحاديث النبوية هي شيفرةٌ سرية تحتاج إلى فكِّ رموزٍ بواسطة برنامج "فوتوشوب" الروحانيات فمثلاً، إذا قال النبي ﷺ: «لا تقوم الساعة حتى تكثر الزلازل»، تراهم يصرخون فور حدوث أي هزةٍ أرضية: "ها هي البداية"، متناسين أن الأرض تهتز منذ أن وُجدت، وكأن الجيولوجيا قررت فجأةً الانضمام إلى نادي علامات الساعة!
أما إذا مرّت سنواتٌ بلا كوارث، فسيُعلنون أن "الحديث يشير إلى زلازل القلوب لا الأرض"… نعم، إنها المرونة التفسيرية التي تجعل النبوءة صحيحةً في كل الأحوال، كتوقعات مذيع الطقس الذي يقول: "قد تمطر أو لا تمطر… ولكنني على حق دائماً"
-متحف النبوءات الفاشلة… ادخلوا مجاناً
لنكن صرحاء: تاريخ نبوءات نهاية العالم يشبه سجلّاً حافلاً بإخفاقاتٍ مُضحكة. ففي كل عصرٍ يظهر من يصرخ: "الموت الأحمر سيأتي غداً"، ثم يتبين أن "الموت الأحمر" سيارة فيراري يقتنيها ابن متنفذ أو مسؤول وفي أحسن الأحوال عصير البطيخ الذي يعده جارك أبو عبدو البطيخي.
تذكرون نبوءة العام 2000؟ حين أخبرنا "المتنبئون" أن الحضارة البشرية والحواسيب وشبكات الكهرباء ستنهار، والطائرات ستسقط من السماء، بينما الوحيد الذي انهار هو عقل الجمهور المسكين الذي صدقهم وهو يقوم بتخزين الطعامٍ للنجاة وبعد عشر سنوات، عادت النبوءة مع "تقويم المايا" عام 2012، لنجد أنفسنا نعيش حتى اليوم دون أن يبتلعنا ثقبٌ أسود… إلا ثقب السوشيال ميديا
لكن لا مشكلة… فالفشل السابق مجرد "اختبار إلهي" لصدق المؤمنين وكما قال أحدهم: "النبوءة لم تتحقق لأننا صلينا فمنعناها"… يا له من عبقري لقد حوّل الفشل إلى انتصار، ساحق ماحق .
-القطيع السعيد مُتابعون بلا عقل
لا تكتمل الكوميديا دون جمهورٍ يصفق بحماس وهنا يأتي دور "القطيع السعيد"، أولئك الذين يصدقون كل نبوءةٍ كأنها وصفة طبخ من الجنة. تسأل أحدهم: "كيف تؤمن بهذا؟"، فيرد بثقة: "الكلام موجود في كتابٍ قديم "… وكأن القدم دليل الصحة
هؤلاء الذين ينسون أن الكتب القديمة تحتوي أيضاً على وصفات لعلاج الأمراض بالبصل والثوم والبقدونس وجلود السحالي ودماء الضفادع، ورغم ذلك يذهبون إلى الطبيب عندما يُصابون بالإنفلونزا! لكن إذا تعلق الأمر بنهاية العالم، فالثقة العمياء بالتاريخ تصبح فضيلة.
ولا ننسى أداءهم الاجتماعي الرائع ففي كل مرةٍ تُكذَب فيها نبوءة، يتحولون إلى "فريق رفع المعنويات"، قائلين: "المهم أننا استعدينا روحانياً "… وكأن الإله يحاسبنا على عدد مرات قراءتنا للرقية الشرعية، لا على أفعالنا!
-نظرية المؤامرة… الملجأ الأخير للعاجزين
عندما تفشل كل الحجج، يظهر ملاذهم الأخير: المؤامرة فإذا سألت: "لماذا لم تتحقق النبوءة؟"، فالجواب: "لأن الحكومة العالمية أخفت الأدلة" أو "اليهود عطلوا القيامة بعلومهم السرية" حتى نهاية الكون صارت فيها منافسة بين القوى العظمى.
وهنا يتحول "المتنبئ" إلى محققٍ دولي، يربط بين هبوط سعر الدولار وعلامات الساعة، وكأن الرب يتابع البورصة ويقرر: "إذا انهارت الأسعار، سأفجر العالم"
-ماذا لو… استخدمنا عقولنا قليلاً؟
تخيلوا لو أن هؤلاء "المتنبئين" وجهوا طاقاتهم إلى شيءٍ مفيد… مثلاً: زراعة الأشجار بدل حساب موعد اقتلاعها أو تعليم الجهلة بدل استغلالهم لكن للأسف، الإثارة التي تجلبها نهاية العالم تفوق متعة البناء.
الأمر أشبه بمن يقضي حياته في انتظار إعصارٍ ليحمل بيته إلى الجنة، بدل أن يصلح السقف قبل المطر لكن لماذا نُصلح السقف إذا كنا نعتقد أن الإعصار سيأتي غداً؟… هذه هي النبوءة: عذرٌ مثالي للكسل الفكري
-النهاية التي لن تأتي… فاستمتعوا بالفيلم
في النهاية، دعونا نتفق أن نبوءات آخر الزمان ستستمر لأنها تبيع الأمل… والخوف… والإثارة الرخيصة. فهي ليست مجرد معتقدات، بل مسلسلٌ درامي نتابعه جميعاً بين الحين والآخر، نضحك على حلقاته، ثم ننتظر الحلقة القادمة
لكن ربما علينا أن نتذكر كلمات المفكر العبقري (المتخيل) والذي هو أنا بكل تواضع, كاتب هذا المقال : "إذا كانت الساعة ستقوم غداً… فماذا ستفعل اليوم؟"… أجيب: "سأتابع مباراة كرة… فربما تكون خسارة فريقي علامةٌ من علامات الساعة"
لم يُصبَح أي منبه في التاريخ دقيقاً مثل نبوءات آخر الزمان… لأنها توقظ خوفك كل يوم، ثم تمنحك غفوةً أبدية من التفكير
الكاتب: كائنٌ ساخرٌ يعيش بين الكتب وكوميديا الواقع، يؤمن أن النبوءة الوحيدة الصحيحة هي نبوءته و هي أن المقال سينتهي هنا… الآن.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟