قيس كاظم الجنابي
الحوار المتمدن-العدد: 8413 - 2025 / 7 / 24 - 00:18
المحور:
الادب والفن
-1-
لابد ،في البدء، من معرفة العلاقة بين الكتابة والذات ،او الكتابة بوصفها خلاصاً تطهيرياً ، او عملاً له قداسة خاصة، يدعوها سركون بولص بالعذاب ، أو العذاب المقدس لدى الانسان الذي تخلقه المعاناة الحقيقية ،وهي تنتقل بهِ من حدث او موقف الى آخر، أومن احساس بلذة التعبير عن الوجود الانساني؛ فسركون بولص يقول: ((ان القصة والقصيدة هما شيء واحد بالنسبة لي واكتب القصة عندما اريد ان القصة او عندما يكون لديَّ موضوع قصصي))(1)؛وهذا يعني ان الموضوع القصصي/السردي هو الذي يتحكم بهِ ، ولكن ثمة اعتراف مفرط بالحساسية لديه يشير الى انه يشعر بان الكتابة ((اجمالاً هي انك تقضي سنوات طوالاً وانت مستغرق في أسرار الكتابة ، وبالذات أسرار الشعر لتخلق لنفسك قوانين خفية تشدك الى هذا المكان الغامض أو المنحنى الباطني الذي تكون مستعداً لان تضحي من أجله، انا قضيت أكثر من أربعين سنة في كتابة الشعر وملازمة هذا الهم الجميل مع ذلك فانا أريد ان اتظاهر بانني قد كرست حياتي للشعر أكثر من غيري)).(2)
من هنا ، لابد ، ان نعلم باننا نكتب عن شاعر ، يتربص بالقصة، ويعيش اشكالية هوية النص الادبي، او اشكالية التعبير عن وهج الانفعال عبر الجملة النثرية الصافية الغارقة في رؤيا الشعر ، او رؤيا اللغة الشاعرية ، وهي لغة مجاورة للقصة او السرد ، وليست جزءاً من محورها الاساسي ؛ مما انعكس – فيما بعد – على بعض قصاصي جيله، من امثال محمد خضير ومحمود جنداري وجليل القيسي، عبر استنطاق مظاهر الاسطورة، بوصفها الجذر الاول للشعر.(3)لكنه كان واقعياً ،وشاعراً حالماً في آن واحد.
-2-
ترك سركون (14) قصة قصيرة ،كتبها في اوقات متباينة، وهو رقم مثير يضاعف الرقم الاسطوري (7) الذي كان رقما مقدساً ، يوما ما، في العراق القديم، وكان هذا الرقم يشير الى ثنائيات سردية ،او سباعيات ثنائية،بطريقة ما، تخترق بطولتها شخصية مهمة هي(يوسف) الذي يتكرر ذكره في اكثر من قصة، كما في القصص :( القنينة، الايام الاخرى أيضا، العلاقة، الحفرة، في صباح ما- هناك..). وفي بعض القصص يمكن توظيف الشخصيات الاخرى لتؤدي دور شخصية( يوسف)؛ فلماذا كان يوسف رمزا اشكاليا لدى سركون بولص؟ وما هو وجه العلاقة التناظرية بينهما؟ وهل هي علاقة تناظرية طارئة قامت بالمصادفة؟
هذه الاسئلة ستبقى مضمرة من اجل الكشف عن العلاقة الثنائية بين السرد والملامح الانسانية والوجودية المضمرة في قصص سركون بولص، وبالذات شخصية(يوسف) التي تبدو في قصة (القنينة) واقعية ،وفي قصة( العلاقة) تبدو اهتمامات البطل جزءا من اهتمامات سركون المولع بالسينما والمقاهي والشوارع، وكذلك في القصص التي وظفت شخصية( يوسف) التي تبدو ملتصقة بالقاص بطريقة ما؛ مما يشير الى انه - ربما- كان يحاول ان يجعلها شخصية محورية ،لكن تباعد زمن نشرها، واستحواذ الهم الشعري عليه جعله يتخلى عن هذه الفكرة.
ان محور القداسة المضمرة في حياة الانسان يدفعه نحو التمرد، واللجوء الى حالات عبثية لتدمير الجانب المقدس الذي يتحكم به، اذ كان سركون يريد ان يدمر الركائز المؤثثة لحياته الداخلية ،لكي يبقى امام الواقع وجها لوجه، ويوسف شخصية لها امتداداتها المقدسة الضاربة في القدم, احالها سركون الى شخصية واقعية ،مثلما احال قداسة المطر الى بول، حين قال: (( السماء تبول كالكلب))(4). في اشارة الى كره الناس لبول الكلب ،ثم اردفه بصفة ثانية ذات طبيعية تسلطية حين شبه المطر بالسجن، ثم وضح ذلك في اكثر في قصة (الحمامة والزنجي)، فقال: (( السجن المفتوح يتساقط فيه المطر))(5) . مما يشير الى انه يحاول تفتيت المنظومة المقدسة للإنسان وخلق توازنات واقعية لها موصفات مألوفة ،والقصة لديه قصة انتقال من الحلم الشاعري الى فضاء الحياة المشحونة بالمدنسات.
اذا كان المطر - في حياة الانسان- كيانا حلميا، او مادة تطهيرية من الدنس بسهولة، فان له امتدادات إلهية خاصة، وهو الجذر الاساس للماء, المادة الصورية الاخاذة التي تعكس صورة الانسان حالما وعاشقا لذاته، مادة مزدوجة الاستعمال، وتعبير عن الخصب والنماء والطبيعة الحية، وهو يقترن بالعواصف والكوارث،او الغضب الكوني، وهو واحد من الاركان الاربعة الى جانب النار والتراب والهواء،له صفات شهوية ذكورية ،وصفات انثوية، له علاقة سرية تؤثث وجود الانسان في علاقته بالكون الحياة، وله صلة بعشق الذات واكتشاف (نرسيس) لذاته وهويته المزدوجة،او ثنائيته، ويكشف عن واقعيته ومثاليته ، له علاقة التعميد من خلال النضح المقدس والتغطيس،وكذلك له علاقة بالنور النقي.(6)
لذا يمكن ان نلاحظ ان ثمة علاقة بين تشبيهه المطر بالسجن وسجن يوسف، واحلام يوسف ، لان الماء مادة حلمية؛ مما يخلق نوعا من الصراع المضمر على المستوى الرؤى المتغلغلة في بنية النص السردي, ذلك لان يوسف تحول من سجين الى ملك او سجان. وهذا التحول جعله يشعر بانه يفتح امام عينيه كوة نحو الوجود الشامل ، عبر وعي بالجانب الانساني ،من بحثه عن هويته، ومن خلال تساؤلاته الوجودية ،واتصاله بالعالم الغربي الوثيق الصلة بالتفسير العبراني لأصل البشرية الذي يحكي لنا كيف خلق الانسان؟ من أجل التعبير عن صور اسطورية عن وعي الانسان بالوجود الذي لازمه منذ بدايته ،وبالذات قضية وعي الانسان بالموت.(7)
-3-
حين نلقي نظرة على افتضاضات قصصه نجده يبداها بجمل عادية او واقعية، وكأنه يفتض الحياة ويكسر صمت السكون الموشى بالواقع المسدل عليه، كما في قصة (القنينة) التي تبدأ بالفعل الماضي(( القى قطعة الخشب من يده))(8). وهي جملة عادية ، تصدمنا ،ثم تحاول ان تبني صورها الحسية باستثمار الرائحة، رائحة البيرة والعطر ،وربما رائحة البول التي تتحول الى مصدر قلق ,وحين تدخل البيرة امعاءه تصبح (رائحة الارض والمطر)أو(رائحة رجل ورائحة الاض)؛ بينما هم ينظرون وهو ينكفئ في(البول) ،اي ان الجانب المدنس ،في حين تبقى رائحة الارض والمطر ذات قدسية مضمرة، في حين كانت المرأة تغني ،والغناء هنا حالة اشبه بالاحتضار، لأنه وصفها بالحنان ،ثم اخذ يبكي. ثمة عالمان متداخلان مختلفان بطريقة مربكة للتعبير هاجس العلاقة بالواقع وكأنه يشعر بالحيرة في التعامل مع اللغة ،لأنه يمنحها هويتها الشخصية التي تمثله.
يتعقب في قصة ( الايام الأخرى ايضا) هواجس شخصية(يوسف) الموازية له ،فيشعر بإحساس خفي بالهرب ،ويحاور وعيه الباطن الذي يحيل الى الطمع ،حين يكون باسما في (نذالة متدنية)،وهو يقتل الزمن بسرعة مملة ، ثم (( يتساقط الى قعر جاف من السادية والغموض وان ، من تساقطه نفسه، يتكتف ويعانق غطاء من الكلس العفن لا يلبث ان يتصلّب حوله))(9). في اشارة الى الواقع المحيط به، حينما يصف تعذيب (يوسف) للرجل وزوجته عبر الرؤيا في نزعة سادية واضحة ، ذات طبيعة جرداء، وهو يلتهب بغثيان سطحي ،فتنتشر افكاره المجنونة في راسه كالجرذان، وحين يصحو يجد نفسه كالبومة، فيخرج الى العشب والصعاليك والعارات والعاطلين، وحين يبلغ نهاية القصة يكون كالهارب ، وفي انفه طعم السمك النيئ، دلالة على العلم المدنس الذي حوله ، في مزاوجة بين سرد القصة وسرد الفلم السينمائي، كل فلم يحدث في مكان معين وفي وقت معين ؛ وهذا ما يمكن ان نستوحيه من قاعدة تقول ، ان المتفرجين لابد ان يعلموا مكان وزمان كل مشهد . وحذف هذه المعلومات يؤدي الى اعاقة فهمنا للمشهد لأنه ينقصنا معرفة عاملين الى المشهد. وعلى ذلك لعرض المكان مشكلة ضرورية بالنسبة للسينما، والروائي يستطيع بكلمتين قصيرتين ان يدل على المكان الذي فيه الحدث.(10)
اما قصة( العلاقة) فقد انفتحت للحوار اكثر وعبرت عن صورة(يوسف) الواقعية ،مع احالات الى الاحلام والمناجيات حين يفكر بالفتاة ؛ بينما تأخذ شخصية (يوسف) في قصة( الحفرة) الجانب الفاضح لكل شيء، حين يدفعها الى شتم الوجود الدنيء؛ لذا وصفها بقوله:(( سلحفاة كانت تناورك، تهزأ تجد راسا ولا عينين ولا شيئا يصيبه حقدك المقذوف))(11). والسلحفات هي احد رموز الاله ( نرجال) كما كانت تستغل في طرد الجن الشريرة ،واستمرت كأحد رموز إله المياه(أيا) ،وخاصة في العصر الكاشي،حيث جفر رمزها الذي يمثل الاله(أيا) على احجار الحدود.(12)
وتستمر شخصية( يوسف) في قصة (غرفة غير مستعملة) التي يسردها بضمير الغائب، بطريقة السارد المراقب الحذر ،وهو يوغل في هواجسه الجسدية ، يتذكر اول مضاجعة له مع المرأة الوحيدة ، التي كانت بغيا مذعورة، ثم يتحول الى واقعية الرجل العجوز الذي وصفه بان شخص شبه مجنون، حين راه يتحدث مع ( روزيت) ،فيتحول الواقع الى احلام غير واقعية ،او لقطات سينمائية مستوحاة من الخيال،تستدرجه الى (( نساء شبقات يحطن به ويستسلمن له، وروزيت الراكعة ،عارية في غرفة لا تضم غيره وغيرها))(13), اذ يرسم صورتين متوازيتين : الاولى, عن النساء الشبقات. والثانية عن روزيت، وهذا التوازي يبدو لي يؤكدا الجانب الوجودي / الجسدي ، بين المدنس والمقدس، واحيانا له صفة زمنية تشير الى متوالية سردية، لقطة تسير على وفق اسلوب منتظم ،ثم تتوقف لتبدأ لقطة ثانية (حدث/موقف)، لعله استقاه من اسلوب بناء القصيدة المتوالية، ومن مؤثرات بنا حكايات(ألف ليلة وليلة) من خلال شخصية( شهرزاد) ،او من خلال طبيعة الحكاية القصصية التي تمر عبر ثلاثة انماط: الاول ، يمثل العلاقة السببية المباشرة بين احداث القصة التالية واحداث القصة،تضفي على الحكاية الثالثة وظيفة تفسيرية ,والنمط الثاني يقوم على موضوعاتية تماما، تستتبع بالتالي اي استمرارية زمكانية بين القصة التلية والقصة, والنمط الثالث لا يتضمن اي علاقة صريحة بين مستويي القصة، وهو ما يحصل في بناء الليالي العربية حينما تصد شهرزاد الموت بواسطة حكايات متجددة ،وهي تعمل عل تعطيل القتل.(14)
-4-
يحاول الكاتب في قصة( الملجأ) ان يحاكي الانماط الثلاث تلك من خلال مقولة اناتول فرانس للحياة بانها( ولادة، ألم، موت) اذ يقف الالم /العذاب بديلا للحياة, لكنه سرعان ما يعود ادراجه الى الثنائية التي آثرها بقوله:(( كنت لا اريد الا ان اطفر فوق الشيء الثاني الذي يقف بين الولادة والموت))(15)؛ مما يؤكد المنطلقات التي قامت عليها قصصه، ذلك ان يعمل لكي يبني له ملجأً, لا ليعيش فيه، وانما ليموت فيه، في سلسلة متعارضة واضحة بين الموت والعمل، فتكون نهايته بان ينهار الملجأ من الاعلى ،فيهرب على دراجته ،ويدرك بان يداً كيد المسيح ساقطة تريد ان تحل مكانه، وهكذا تحول من الواقع الى الجانب الميتافيزيقي، في ثنائية مضمرة واضحة في قصة(قطار الصباح) التي تقوم بين وفاء الكلب وخيانة المرأة ، وكذلك في قصة(في صباح ما- هناك..) عبر شخصية (يوسف) ذات الاحالات الاسطورية وشخصية المهرب ذات الاحالات الواقعية، ويوسف يعامل المرأة البغي, وهي محملة بإحالات الى علاقة الصباح(الزمن) بالتجدد والنور, وهوما يتحقق في سرده لقصة( النور الضعيف في السادسة) عبر ضمير المتكلم, مع اهتمام جلي بالوصف ،محولا خلق ثنائية بين السرد والجسد،عبر علاقة البطل بالمرأة، وخيانة المرأة لزوجها، وهي جزء من سيرورة وجودية لها صلة بسركون نفسه؛ ذلك (( ان الوجود الاصيل هو الوجود مع الاخرين وبهم ومن خلالهم ،عالم الاخرين الذين عاشوا ويعيشون مع الاخرين وبهم معنا على ظهر هذا الكوكب وينقلون تجاربهم لنا بوساطة السرد ))(16). وهو ما يبرزه القاص من خلال اهتمامه بالموانئ والبيوت القديمة ، مع وجود صور وملامح سردية ذات طبيعة غرائبية ،وبعضها ذات طبيعة هلامية، اذ يحاول السرد سد الثغرات ذات التوجه الغرائبي, بطريقة ذكية تعبر عن ملامح الامكنة والاشياء، فهو يصف تلك البيوت بانها(( كانت تنحني على الماء كحيوانات مسنة منهكة ،ميزت حياة سرية تجري رغم كل شيء))(17). في اشارة الى وجود جانبين: حياة عادية، وهي حياة المرأة العادية، وحياة المرأة البغي/ الخائنة -هنا- لست ذات شق واحد؛ فاذا كانت المرأة تخون زوجها في مستهل القصة ، فان الرجل يخون زوجته أيضا، لذا يقول:(( عرفت الان انها لم تكن غير وسيلة ساويت عن طريقها نفس بزوجتي .خنت كل شيء بياس وافرغت خيانتي في جسد تلك المرأة الغريبة))(18). اذ يبدو الهاجس الذي يهيمن عليه مرتبطا بالغربة المكانية والجسدية، فالأمكنة تعيش حالة متغيرات دائمة ، والنساء اما بغايا او خائنات ، والرجال يفعلون ما يفعلن، والامكنة اما موانئ او سفن او فنادق ؛ لذا يقول: (19)
- السفن ليست بيتا.
فقد جمع السفن ،وافرد البيت، لان السفن والرحلات والتسكع لها حضور في حياته،والبيوت هي اما منحنية او صامتة (( تحمل جدرانها تواريخ حزينة لأناس ناموا وراءها ، منفصلين عن العلم بأفعالهم ورغباتهم و وخانوا ايضا ومزقوا مصائرهم ورحلوا. بيوت . بيوت))(20). وهو تعبير عن الانفصال المضمر عن الواقع البيتي والانضمام الى جحافل المشردين.
يشير عنوان قصة (النور ضعيف في السادسة) الى اشكالية العلاقة بين الكاتب والنور، فهو ضعيف يأتي في الصباح الباكر، والصباح لديه يتكرر في اكثر من عنوان لقصصه، كما في قصة (قطار الصباح) وقصة (في صباح ما - هناك ..) ،وهو على الضد من (الملجأ) ،فلعله يحيل الى فلسفة الانوار المشعة، الى الانجيل ؛مما يفسر اعتماده على نظام الاسناد المزدوج لكتابة تاريخ الانسانية السائرة على خط الحضارة ،من دون تقاعس او تردد، لان هذا التقسيم الثنائي يتسع ليشمل الظاهرات الحضارية الاخرى كالماورائيات المجردة والشعر الحسي والعقل العلمي والشعور الديني والفلسفة والموسيقى(21).وهذا ما يؤكد لنا بان قصص سركون بولص تتميز بانها نصوص ذات طبيعة فلسفية ،لها رؤية خاصة تحاول ان تفضّ بكارة الاشياء، ان تؤسس لوجود مفعم بالاستمرار، لأنه يحاول ان يكسر وهم العلاقة بين الذات والاشياء لتبدو قادرة على مسايرة حركة العلاقة الفلسفية بين الذات والنص السردي ، لان معظم قصصه لها علاقة بتجاربه الشخصية وبمعاناته وافكاره ذات الطبيعة المتمردة، فهو يتحول من موقف الى اخر مختلف عنه، وكأن القصة قائمة على ثنائية مضمرة تحاول ان تؤسس وجودها عبر سيرورة المكان والاشياء، من خلال العلاقة العميقة بين الذات والآخر محاولات لفتح نوع من الحركة داخل فلك الذات ، وغالباً ما تكون بين الذات والمكان ،فهو يشبه كلكامش في سلوكه يحاول ان يجد الجانب المعرفي والرؤيوي في شعره او عبر قصصه ،وهو يحاول ان يفتت الجانب المقدس ليبني عالمه الخاص على انتقاضه، عالم منفتح على الجسد والمرأة . وهو يتعامل مع الواقع بطريقة ما ان يحاكي البناء السينمائي ، عبر ثنائية المشهد السينمائي الذي يعرض لنا كل مرة لقطة خاصة من جانب ما، على وفق منظور سردي مشبع بالصور، لان ثقافة سركون تقوم على المزاوجة بين السرد القصصي والسرد السينمائي ، وهذه ثنائية حاضرة في بناء قصصه تقترب من ثنائية (النور والظلمة)، كما في وصفه للميناء، بقوله: ((هبط الليل على الميناء. وانفتحت على سطح البحر عيون من الضوء. سفن . ولكن هل كانت فكرة الالتجاء الى الميناء صدى طبيعياً خرج من اعماق فكري عن التحرر)). ثم يبقى يلحف على الفكرة ((ان السفينة لا يمكن ان تكون بيتاً بحرياً))(22). في احالة ما كان يعانيه من افتقاده للبيت ،والسفينة رمز شعبي للمنقذ في طوفانه نوح.
فاذا كانت ثنائية (النور والظلمة) وجودية ، فإنها من حيث البناء السينمائي ذات علاقة بالبناء السردي ، لان كاتب القصة تمتلك حرية اكثر من المصور وهو يلتقط الصور، لان محدد بحركات الآلة ،وحركات المشهد، ذلك ((ان عدسة التصوير ترى الاشياء من نقطة واحدة ، من موقع واحد ، بينما يرى الانسان الاشياء من نقطتين تفصل بينهما المسافة بين العينين فيحصل على صورتين للأشياء تطابقان بالدماغ لتعطينا صورة واحدة فيها ذلك الاحساس بالتجسيم الذي يساعد على تقدير العمق))(23).
-5-
يجري سردة قصة (عشاء متأخر) بلسان المتكلم ، وهو يسترجع علاقته بزوجته حين خروجه في نزهة ،وهو حريص ان يشير الى الملامح ذات العلاقة بالبناء السينمائي، فحين يدخل الدكان يصفه بانه (مضاء)، بينما تبدو الأمكنة المحيطة به ذات ملامح خاصة ،ضيقة توازي الظلمة او الظل ،وهو يشير الى احلامه وانعزاله ،حين يقول : ((فقدتُ اهتمامي بالنوم معها كثيراً ،بعد سنين طويلة. كنت احلم واشتعل ،معزولاً في قفصي الضيق كطائر بشري سجين وسط جنس اخر))(24).
لماذا يصف نفسه بانه (سجين) وسط جنس اخر؟ الأنه يشعر بالعزلة في واقعه ، حتى مع زوجته؟ انه انسان محشور في ظل امكنة مهيمنه تحاول ان تسحبه الى منطقتها ؛ وهذه الامكنة عبارة عن مجموعة حلقات متواصلة لا يمكن فكها بسهولة ، وهي تسير سيرها الوئيد لتكتمل في قصة (العلبة والكتلة)، كما وصفه الشخصية (ادمون) الذي ((كان فوق رأسه اطار خشبي يضم صورة مسيح عار بلون الاسود وهو حفر على خشب ، ذلك كانت تقاطيعه بارزه وظل طاغياً حول رأسه ذي الهالة))(25). في رحلة ثنائية بين سرد الصور وسرد الحكاية ، يدفعه احيانا الى نوع من التداخل والايهام بين الصورتين ، لذا يصف بطله بطريقة المشهد السينمائي ، كما في قولة : (( كان من الفظيع ان يرى نفسه في شخص واحد الواقفين، يدخل بتلك النظرة التي على وجهه الاقتناع التام بان سلامته تكمن في ان يضل في مكانه))(26). او قوله : (( ورأى من الاسفل مدة برهة ، العالم ،فضاءً مقدساً خالياً الا من كتلة سوداء تهرب عن يمينه لم تكن هناك اشجار ،ولكنه وثب ، جاز تلك البرهة السوداء كما يجر حبلاً بربطه ))(27).
يبدو انه يحاول ان يختزل العالم عبر محورين اساسيين :
الأول، ذاته.
الثاني، الآخر. بكل تفاصيله ،ويدفع بالسرد لان ينشطر على نفسه بين سرد قصصي وسرد المشهد السينمائي، في طريقة صورية حافلة بالمتغيرات ، وهي سرعة الحركة، في سرعة الانتقال من مشهد الى اخر ، مما يجعل القصة تقوم على حوارية كامنة في لغته المفعمة بالتداخلات النصية ، بين الصورة والحكاية .
-6-
تقوم ثنائية التعبير /السرد على نوع من الحوار بين جانبين، فيرى تودورف بان للحياة الاجتماعية اصلا ثنائياً مزدوجاً : الاول ، هو ان التلفظ موجه الى شخص ما ؛ والثاني ، هو المتكلم دائما كائن اجتماعي (28). وسركون في قصة (الحمامة والزنجي) ربما يشر الى مفارقة اللون الاسود للزنجي والحمامة ذات الرأس الابيض، وهو يتعامل معها بأنسنة واضحة كجزء من حياته وتصرفاته ووجوده، وهي جزء من تلك المتجذرة في حياته ووجوده, فالحمامة تمتلك حريتها وتحلق عاليا، واحيانا يحملها الى الامكنة التي يرتادها. ان صورة الزنجي تحيل الى عالم الرق والعبودية ، بينما تحيل الحمامة الى السلام والحرية ؛ لهذا كان قلقا خشية ان لا يجد لها مكانا يتركها فيه، ثم يصل به المطاف عبر السرد ومن خلال الموشور المسلط من الكاتب على الزنجي الذي يتحدث بلسان الغائب المتوغل في ذاته حين يقول:(( لن يجد مكانا لنفسه الان الا لنفسه ولا الحمامة. لكنها لم تكن تقول شيئا؛ لم تتحرك ولم يصدر عنها صوت. يا لصمتها! واختفى راسه بين ذراعيه وهو يتذكر المدينة الأخرى، السجن المفتوح الذي يتساقط في المطر, والسجناء الصامتين المرضى ، منقطعين عن جميع المدن بطرقها التي لا تحصى وبيوتها ومطاعمها ومقاهيها ونسائها واطفالها وكلابها وعرباتها الغزيرة: هذه الاشياء كلها طانت حلم الزنجي عندما كان في المدينة الأخرى، في السجن الذي يتساقط فيه المطر)).(29)
يبدو المشهد السردي السابق مزدوجا يجمع بين الواقع والحلم ،بطريقة تجمع بين المشهد الواقعي والمشهد السينمائي، وهو يتأمل حياة المدينة عبر عين وحلم الزنجي، وهي تقترن بالسجون والمطر, وسركون دائما يرصد السجن مقرونا بالمطر،عبر ثنائية الخوف والعطاء، لان المطر مصدر قلق ورعب للسجناء ،او حصار آخر لهم داخل السقوف المتهرئة، بينما تقترن المدينة بالكلاب والحيوانات التي يحاول ان يؤنسنها, والزنجي انسان حالم مثل سركون ،يريد ان ينعتق من عالمه الضيق الذي ربما تجسده سماته اللونية ودواخله الخائفة ،والكاتب يكتب القصة برؤيا سينمائية تبرز حركة الصورة عبر المتقابلات الثنائية بين المشاهد ،لأنه معني بالجانب الحركي للسرد اكثر من عنايته بالجانب الانساني ,فحتى الحيوانات والاشياء يمنحها مواصفات إنسانية،وهي غالباً ما تغادر محافل الظلام والظلال نحو النور , اي تقف امام نور العدسة ,كما في قصة (يجوب المدن وهو ميت) حين يحلم بالمرأة التي تذكره بالبغي والغجر، في صورة ثنائية للمقدس والمدنس ،وهي تراه انه زوجها الذي يموت، الطفل يبدو مجرد ولد ضائع، بينما تعترف المرأة بالقول من خلال الحوار(( نحن غجر ,كما نعلم, لصوص و جوابو آفاق ،نجري وراء سحابة الربيع ونهرب من المطر ومن القيظ . لا نستطيع العيش الا فيما بين الفصول. ولكنه بدأ يعجز ويتشرب عادات المدن ،ذلك الذي يموت خلفي الان))(30).
يأخذ الطابع الثنائي عدة توجهات هنا ؛ الرجل الميت،وهو لما يزل حيا، والطفل الضائع والقرد، والغجر والاخرون ،والغجر وذاتهم وهم يعيشون هاجس الخوف من الزمن - من المطر ومن القيظ - والمطر هاجس دائم الظهور في قصص سركون, يصفه بانه مناهض لحرية الانسان ، يقترن بالسجن والخوف، وغالبا ما تبرز شخصية الرجل مقرونة بالجبن والخوف، لأنه فقد انسانيته ؛ وعاش فريدا ، هو محروم وجبان ,يلوذ بالمرأة التي تلطمه، يقارن نفسه بالحيوانات ,يعيش في كابوس/حلم ،يصرح بغبائه؛ مما يجعل تصرفاته ذات طبيعة غامضة ،يركب السفن بطريقة خيالية .
في قصة (وغمرتني اليقظة كالماء) يتصدر المطر بداية القصة، فهو يقرن اليقظة بالبلل/ الماء ،ويتشممه، لان المطر يفرض وجوده كقوة مهيمنة يحول بها سحب البساط من تحت الضوء ,عبر ثنائية النور والسحب(الغيوم/ الظل)، فيسرد القصة على عدة مشاهد ،كل مشهد يسلط عليه عدسته الخاصة بطريقة سرد المشهد السينمائي؛ لذا يرصد حركة صاحب المقهى مع حركة طائر (الخطاف)، في ثنائية متوازية بين الانسان والطير، وبين المقهى والخطاف، والخطاف لديه يقترن بالنهر، عبر علاقة متوازية مع حركته الدائبة مع الزمن / النهر. وهو يغني مدهوشاً بالماء؛ بينما يشعر الانسان بالخوف من المطر. وهنا تظهر شخصية (ادمون) التي ذكرها ايضا في قصة( العلبة والكتلة) ثانية حين يدخل طير (الوطواط) في محاولة لإعادة رسم السيناريو من جديد للقصة مع قصة( وغمرتني اليقظة كالماء)،فالخطاف والوطواط متجاوران بطريقة ما، ثم يحاول ان يستدرج (ادمون) للذهاب الى (فلم صباحي)، ثم يستعيد صورة صاحب المقهى عبر لقطة سينمائية ,وهو ينتحب ،والنحيب عمل يحاكي المطر وعلى صلة بالحزن والخوف ،وهو في المطر يلجأ الى القوارب والسفن ،مع انها غير قادرة على حمايته ،لأنها ربما تفتقر الى السقوف الواقية، حين يهم بالعودة تعود فيه افكاره الى طائر الخطاف.
ثمة لقطة ثنائية اخرى رصدها بوضوح ,تشير الى ان الطائر المقدس بنى له عشاً بالمرحاض, في محاولة لتفتيت الجانب المقدس وتشتيت وجوده، وهي ثنائية المقدس والمدنس، لان الحياة الانسانية تبدو قائمة بكل قوة في قصصه التي رسمها؛ بينما يأخذ الجانب الدنيوي / المدنس غلب المشاهد الاخرى.
-7-
من هنا يمكن ان نلاحظ بوضوح ثنائية السرد والوجود في قصص سركون بولص ؛ثنائية الوجود ذاته، متمثلا بالمرأة والرجل والاشجار والماء والخوف والسجن ،وربما ثنائية السرد والشعر, والسينما والواقع, والنور والظلمة؛ مما يشير الى ثنائية متجذرة في الحياة الإنسانية؛ بينما يأخذ السرد الجانب الاخر ، وهو على صلة بكتابة المشاهد ,وخصوصا المشاهد السردية التي توازي المشاهد السينمائية، لأنه معني بلمسات خاصة في ميدان الحداثة الحالمة ،كما ان يتحرك باتجاه الحداثة المتفردة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- حوار مع سركون بولص(اجراه: عدنان حسين احمد): ضمن كتاب (شاعران من كركوك: سركون بولص و جان دمو), تحرير نوري بطرس، مط كاروانه، جمعية الثقافة الكلدانية (اربيل,2011م)،ص 334.
2- نفسه،ص 338.
3- توظيف الاسطورة في القصة العراقية القصيرة: فرج ياسين، دار الشؤون الثقافية العامة( بغداد, 2000م)،ص 56.
4- سركون بولص قاصا(اربعة عشر نصا قصصيا): اعداد ربين بيت شموئيل (دهوك، 2009م)، ص 21.
5- نفسه، ص 105.
6- الماء والاحلام ،دراسة عن الخيال والمادة: غاستون باشلار، ترجمة د. علي نجيب ابراهيم , المنظمة العربية للترجمة / مركز دراسات الوحدة العربية ( بيروت، 2007م)،ص 44- 45، 209، 214، 254.
7- الوجودية: جون ماكوري, ترجمة امام عبد الفتاح امام ،مراجعة فؤاد زكريا، علم المعرفة (الكويت, 1982م)، ص 46- 47.
8- سركون بولص قاصا، ص21.
9- نفسه، ص 26.
10- كيف نكتب السيناريو: صلاح ايو سيف ،الموسوعة الصغيرة ع98، دار الحرية- دار الجاحظ ( بغداد، 1981م)،ص 89.
11- سركون بولص قاصا، ص 41.
12- السحر في العراق القديم في ضوء المصادر المسمارية: رياض عبد الرحمن الدوري , وزارة الثقافة / الهيأة العامة للأثار والتراث (بغداد ،2009 م) ، ص 164.
13- سركون بولص قاصا، ص 49.
14- خطاب الحكاية , بحث في المنهج: جيرار جينيت، ترجمة محمد معتصم وعبد الجليل الازدي وعمر حلي، المجلس الاعلى للثقافة،ط2 (القاهرة،1997م)، ص 245.
15- سركون بولص قاصا، ص 55.
16- الوجود والزمان والسرد، فلسفة بول ريكور، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي (الدار البيضاء/ بيروت، 1999م)،ص 29.
17- سركون بولص قاصا، ص79.
18- نفسه، ص 85.
19- نفسه، ص 86.
20- نفسه، ص 86.
21- لغات الفردوس: موريس اولندر، ترجمة جورج سليمان، مراجعة سمير ريشا ،المنظمة العربية للترجمة/ مركز دراسات الوحدة العربية( بيروت، 2007م)،ص 174 ،176.
22- سركون بولص قاصا، ص 85.
23- جماليات التصوير والاضاءة في السينما والتلفزيون: بيتر سبرزسني، ترجمة فيصل الياسري، دار الشؤون الثقافية العامة (بغداد، 1992م)، ص 26-27.
24- سركون بولص قاصا، ص89.
25- نفسه، ص93.
26- نفسه، ص 98.
27- نفسه، ص 99.
28- المبدأ الحواري، دراسة في فكر ميخائيل باختين: تودورف، ترجمة فخري خليل، دار الشؤون الثقافية العامة( بغداد، 1992م)،ص62.
29- سركون بولص قاصا، ص 105- 106.
30- نفسه،ص 111- 112.
#قيس_كاظم_الجنابي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟