حسام الدين فياض
أكاديمي وباحث
(Hossam Aldin Fayad)
الحوار المتمدن-العدد: 8409 - 2025 / 7 / 20 - 18:18
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يعتبر العقل الإنساني أحد أعقد أدوات الإدراك والتحليل التي تمكنت البشرية من صقلها عبر التاريخ، ليس فقط بوصفه آلة للمعرفة، بل وأداة لإنتاج المعنى، وتوجيه الفعل، وإعادة تشكيل الواقع. وتتنوع ممارسات هذا العقل بحسب السياقات الثقافية والفلسفية والاجتماعية التي يُستثمر فيها، وهو ما يدفعنا إلى التمييز بين نماذج متعددة من العقل، أبرزها: العقل الأداتي الذي يركز على النجاعة والوظيفية، والعقل النقدي الذي يسعى إلى تفكيك البنى وتعرية الأنساق المهيمنة، والعقل التواصلي الذي يرتكز على الفعل التواصلي بوصفه أساسا للتفاهم والاعتراف المتبادل.
ويمكن القول بأن العقل الأداتي بعد تبلوره، يتسم بالسمات التالية([1]):
1- ينظر العقل الأداتي إلى الواقع من منظور التماثل بحيث لا يهتم بالخصوصية المميزة للواقع الاجتماعي، لأنه يبحث عن السمات المتماثلة في الأشياء؛ ويهمل السمات التي تميز ظاهرة ما عن أخرى.
2- العقل الأداتي قادر على إدراك الأجزاء، فهو يعمل على تفتيت الواقع إلى أجزاء غير مترابطة، ويفككه دون أن يستطيع إعادة تركيبه؛ إلا من خلال نماذج اختزالية بسيطة.
3- ينظر العقل الأداتي إلى الإنسان باعتباره مجرد جزء يشبه الأجزاء الطبيعية (المادية) الأخرى، وهذا الجزء ليس له ما يميزه عن بقية العالم، فهو مستوعب في كليته في النظام الاجتماعي القائم، وفي تقسيم العمل السائد في الطبيعة (المادة).
4- يرى العقل الأداتي الإنسان من منظور العلوم الطبيعية باعتباره شيئا ثابتا وكمًّا واضحا ووضعا قائما لا يحتوي أية إمكانيات إنسانية خلّاقة.
5- ينظر العقل الأداتي إلى الطبيعة والإنسـان، باعتبارهما مادة استعمالية؛ يمكن توظيفها واستغلالها لخدمة أي هـدف.
6- الهدف النهائي من الوجود -كما يؤمن العقل الأداتي- هو الحفاظ على بقاء الذات وهيمنتها وتفوقها، ومن هنا جاءت تسميته بالعقل الذاتي أيضا.
7- لتحقيق هذا الهدف؛ يلجأ العقل الأداتي إلى فرض المقولات الكمية على الواقع، وإخضاع جميع الوقائع والظواهر (الطبيعة والإنسان) للقوانين الشكلية والقواعد القياسية والنماذج الرياضية؛ حتى يمكن التحكم في الواقع، ويصل هذا إلى ذروته في الفلسفة الوضعية. وينتج عن هذا ما يلي:
أ- أن العقل الأداتي يصبح عاجزا تماما عن إدراك العمليات الاجتماعية والسياسية والتاريخية، في سياقها الشامل الذي يتخطى حدوده المباشرة، بل إنه يعجز تماما عن إدراك أي غايات نهائية أو كليات متجاوزة للمعطيات الجزئية الحسية والمعطيات المادية الآنية. ولذا يمكن تسميته بالعقل الجزئي أي أنه يصبح عاجزا تماما عن تحقيق أي تجاوز معرفي أو أخلاقي.
ب- لهذا السبب نفسه يصبح العقل الأداتي غير قادر على تجاوز الحاضر للوصول إلى الماضي أو استشراف المستقبل، أي أن العقل الأداتي يسقط تماما في “اللا زمنية واللا تاريخية”.
ج- مع غياب أية مقدرة على إدراك الكل المتجاوز، وأية أسس تاريخية ورؤى مستقبلية، أي مع غياب أية أرضية معرفية ثابتة، يمكن أن تستند إليها المعايير العامة، يسقط العقل الأداتي تماما في النسبية المعرفية والأخلاقية والجمالية، إذ تصبح كل الأمور متساوية، ومن ثم تظهر حالة من “اللا معيارية الكاملة”، فيمكن القول بأن النموذج الكامن والمهيمن على الإنسان الذي يصبح مع تساوي الأمور هو: (الطبيعة – المادة – السلعة – الشيء في ذاته – علاقات التبادل المجردة).
د- يصبح العقل الأداتي قادرا على شيء واحد فقط، هو قبول أمر الواقع، من خلال التكيف مع ما هو قائم من أحداث ووقائع وجزئيات، بالإضافة إلى التكيف مع الظروف المنتجة (للقهر والقمع والتنميط والاغتراب) التي تؤدي جميعها بنهاية الأمر إلى تثبيت دعائم السلطة وعلاقات القوة والسيادة القائمة في مجتمع معين، مع العمل على كبح أية نزعات إبداعية تلقائية تتجاوز ما هو مألوف.
هـ - كما يتحول العقل رغم تحرره من الأساطير، إلى قوة عقلانية تحاول السيطرة على الطبيعة والإنسـان وترشـيد الحياة بشـكل يؤدي إلى نفي الحرية تماما، كما يتبدَّى في بُنَى التسلط الرشيدة الحديثة، ولذلك نجد أن التقدم أدى إلى عكسه، وأن التنوير أدى إلى الشمولية، فالمجتمعات الحديثة التي تسعى إلى الفردية – همّشت الفرد، وأنها في طريقها إلى شكل من أشكال البربرية، التي تتقدم بخطى حثيثة نحو الجحيم، والبرهان على ذلك ما حدث في معسكرات الإبادة النازية، فهو جزء عضوي من هذه المسيرة الشيطانية، حسب آراء مفكري الاتجاهات النقدية، باعتبارهم ينتمون إلى الديانة اليهودية([2]).
وهكذا يؤدي الترشيد الأداتي والسيطرة المتزايدة – لمجالات متنامية في الحياة الاجتماعية من قِبَل الأنظمة والمؤسسات الاقتصادية والسياسية والإدارية – إلى استعباد الإنسان وإلى تقليص عالم الحياة وهيمنة عالم الأداة، واستبعاد كثير من جوانب حياته الثرية وإمكانياته الكامنة المتنوعة، أي أن العقل الأداتي يؤدي إلى هيمنة الواحدية الموضوعية المادية.
ثانيا- العقل النقدي Critical Reason: يقال عنه أيضا “العقل الكلي أو العقل الموضوعي”، في مقابل “العقل الأداتي أو العقل الجزئي أو العقل الذاتي”، وكلمة نقدي هنا مبهمة إلى حد ما، وتعود إلى مفهوم كانط في النقد، فكانط كان يرى عمله؛ باعتباره جزءا من المشروع التنويري الغربي الذي رفض جميع الحجج التقليدية القائمة.. وأخضع كل شيء للنقد، ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد، وإنما أخذ خطوة للأمام وأخضع العقل للعملية النقدية نفسها، أي أن كانط أخضع أداة الاستنارة الكبرى للنقد، وبيَّن حدودها الضيقة، متجاوزا بذلك عقلانية عصر الاستنارة، أي أن هناك عقلانيتين: عقلانية مباشرة سطحية، وعقلانية أكثر عمقا، وهذا هو الذي ترجم نفسه إلى عقلانية العقل الأداتي، وعقلانية العقل النقدي. وبالعموم يتسم العقل النقدي بما يلي([3]):
1- ينظر العقل النقدي إلى الإنسان، لا باعتباره جزءا من كل أكبر منه، يعيش داخل أشكال اجتماعية ثابتة معطاة، مستوعبا تماما فيها، وفي تقسيم العمل القائم، وإنما باعتباره كيانا مستقلا مبدعا لكل ما حوله من الأشكال التاريخية والاجتماعية.
2- لا يدرك العقل النقدي العالم (الطبيعة والإنسان) كما تدركه العلوم الطبيعية، باعتباره نتاجا ثابتا ووضعا قائما وسطحا صلبا، وإنما يدركه باعتباره وضعا قائما وإمكانية كامنة.
3- لا يقنع العقل النقدي بإدراك الجزئيات المباشـرة، فهو قادر على إدراك الحقيقة الكلية والغاية من الوجود الإنسـاني.
4- العقل النقدي قادر على التعرف على الإنسان من خلال دوافعه وإمكانياته والغرض من وجوده.
5- بناءً على ما تقدم نجد أن العقل النقدي قادرٌ على تجاوز الذات الضيقة، والإجراءات والتفاصيل المباشرة والحاضر والأمر الواقع؛ لذا يمكن تسمية العقل النقدي بـ (العقل المتجاوز)، فهو لا يقبل الواقع بصورته المطلقة الجامدة، وإنما يمكنه القيام بجهد نقدي تجاه الأفكار والممارسات والعلاقات السائدة والبحث في جذور الأشياء وأصولها وفي المصالح الكامنة وراءها والمعارف المرتبطة بهذه المصالح وهذا هو الجانب التفكيكي في العقل النقدي.
6- يدرك العقل النقدي الحقيقة الكلية والإمكانيات الكامنة ليس بوصفها عوامل مجردة متجاوزة للإنسان (الفكرة الهيجلية المطلقة)، وإنما هي كامنة في الإنسان ذاته، والعقل النقدي قادر على رؤيتها في كمونها هذا، أي أن الإنسان يحل محل الفكرة المطلقة.
7- لا توجد الحقيقة في الواقع بذاته وإنما تقع بين الواقع الملموس، كما يحدده المجتمع من جهة والخبرة الذاتية من جهة أخرى. لذلك فالوضع الأمثل هو وضع التوازن بين الذات والموضوع، وهذا ما يقدر على إنجازه العقل النقدي، وما يفشل فيه تماما العقل الأداتي.
8- يعتبر التاريخ عملية كاملة تتحقق من خلالها الذاتية الإنسانية، أي أن التاريخ هو الذي يرد إلى الإنسان (خالق التاريخ) وليس الإنسان هو الذي يرد إلى التاريخ، لذلك فإن المجتمع في كل لحظة هو تجلٍ فريد للإنسان، وتحقق الإمكانية الإنسانية في التاريخ هو الهدف من الوجود الإنساني.
9- يمكن إنجاز عملية انعتاق الإنسان وتحريره، من خلال التنظيم الرشيد للمجتمع المبني على إدراك الإمكانية الإنسانية الذي يعتمد على الترابط الحر بين جميع أفراد المجتمع الذين يتاح لهم نفس الإمكانية لتنمية أنفسهم بنفس الدرجة المعطاة للجميع، الأمر الذي يؤدي إلى القضاء على الاستغلال وانتفائه فيما بينهم.
10- يمكن للعقل النقدي أن يساهم في هذه العملية من خلال الجهد التفكيكي الذي أشرنا إليه. كما يمكنه أيضا القيام بجهد تركيبي إبداعي، فهو قادر على التمييز بين ما هو جوهري وما هو عرضي، وعلى صياغة نموذج ضدي ليس انطلاقا مما هو معطى، وإنما مما هو متصور وممكن في آن.. ويمكن على أساسه تغيير الواقع، أي أن العقل النقدي يطرح أمام الإنسان إمكانية تجاوز ما هو قائم دائما؛ انطلاقا من إدراكه لما هو ممكن بداخله، أي أنه يفتح باب الخلاص والتجاوز أمام الإنسان، وهو عكـس التكـيف والإذعـان للأمر الواقع (على طريقة العقل الأداتي)([4]). ... يتبع
------------------------------------------
- الهوامش:
[1]– حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر (دراسة تحليلية- نقدية في النظرية السوسيولوجية المعاصرة)، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب الأول، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020، ص (50-51).
[2]– المرجع السابق نفسه، ص (52).
[3] – حسام الدين فياض: مقالات نقدية في علم الاجتماع المعاصر (النقد أعلى درجات المعرفة)، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب الثالث، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2022، ص (103 وما بعدها).
[4] – حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر، مرجع سبق ذكره، ص (54).
#حسام_الدين_فياض (هاشتاغ)
Hossam_Aldin_Fayad#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟