أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - هاني جرجس عياد - المتوحّد بين رؤية ابن باجه وتحولات العصر: تأملات طالب بدأت برغبة والده ومحاضرة الدكتور والي















المزيد.....

المتوحّد بين رؤية ابن باجه وتحولات العصر: تأملات طالب بدأت برغبة والده ومحاضرة الدكتور والي


هاني جرجس عياد

الحوار المتمدن-العدد: 8408 - 2025 / 7 / 19 - 04:51
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يُعدّ ابن باجه من المفكرين القلائل الذين قدّموا تصورًا فلسفيًا راديكاليًا عن استقلال الإنسان العاقل في مواجهة الواقع الفاسد، وطرح رؤيته في لحظة تاريخية مضطربة كانت تشهد تراجعًا حضاريًا وانقسامًا سياسيًا واجتماعيًا في الأندلس. لم يكن مشروعه نخبويًا بالمعنى الإقصائي، بل كان صرخة عقل في زمن تراجعت فيه قيمة الحكمة، وتسلّطت فيه القوى الغريزية، فدعا إلى العودة للذات، والاعتصام بالعقل، باعتباره الطريق الوحيد نحو الكمال الممكن في عالم ناقص.

تجلّى هذا المشروع في مفهوم "المتوحّد"، وهو الإنسان الذي لا يُسلّم وعيه لما يفرضه عليه محيطه، بل يُعيد ترتيب أولوياته بناءً على العقل والفضيلة. المتوحّد ليس منقطعًا عن المجتمع بالمعنى الحسي، بل هو حاضر فيه، لكنه لا يذوب فيه، ويظلّ محافظًا على صفاء داخلي يحميه من الفساد السائد، ويجعله قادرًا على مواصلة السعي نحو التكمّل العقلي والروحي. وبهذا، يُصبح التوحّد خيارًا أخلاقيًا لا عزلة سلبية.

وقد صاغ ابن باجه هذا المفهوم من خلال عمله الشهير "تدبير المتوحّد"، حيث يتجلى فيه تصوّر متكامل للطريقة التي يستطيع بها الفرد أن يحيا حياة فاضلة، حتى في غياب المدينة الفاضلة التي تحدّث عنها الفارابي. أدرك ابن باجه أن المثالية السياسية غير ممكنة دائمًا، ولذلك قدّم بديلًا يتأسس على الفرد لا على الجماعة، وعلى التأمل لا على الصراع، وعلى التهذيب الذاتي لا على الإصلاح القسري للمجتمع.

في هذا التصور، لا يسعى المتوحّد إلى الانسحاب التام، بل يعيش حياته العادية، يؤدي عمله، ويتعامل مع الناس، مع حفاظه على عزلته الفكرية. فلا ينجرّ إلى التيار العام إذا كان فاسدًا، ولا يُفرّط في قناعاته وإن بدا منبوذًا. إنه يخلق مسافة بينه وبين ما يراه انحرافًا أخلاقيًا أو عقليًا، ويُكرّس نفسه لا للجدل، بل للمعرفة، ولا للهتاف، بل للتأمل.

ومع أن ابن باجه تحدّث في سياق تاريخي معيّن، فإن فكرته عن التوحّد تبدو أكثر راهنية اليوم من أي وقت مضى. ففي العصر الحديث، أصبحت الضوضاء المعرفية والمغريات الحسية أشدّ حضورًا، بل وأخطر أثرًا. نحن نعيش وسط طوفان من الصور والأفكار السطحية، والتشويش الإعلامي، والضغوط الاستهلاكية، حتى بات الحفاظ على صفاء الفكر ونزاهة العقل تحديًا يوميًا. إن الإنسان المعاصر، إن لم يكن متيقظًا، سيندفع نحو العيش الميكانيكي، فاقدًا قدرته على التمييز والتأمل.

وهنا يظهر "المتوحّد" من جديد، ليس بوصفه فيلسوفًا زاهدًا في الجبل، بل فردًا اختار أن يكون يقظًا، واعيًا، قادرًا على الوقوف في وجه التعميم، والرفض الصامت للسطحية، والعودة إلى جوهره الإنساني. إننا نحتاج إلى التوحّد لا للهرب من العالم، بل لفهمه، ومواجهته بأدوات أعمق من مجرد الاستهلاك أو التقليد أو الانخراط الأعمى.

التوحّد، بهذا المعنى، ليس انسحابًا، بل مقاومة راقية، تؤسّس لقوة داخلية حقيقية. المتوحّد هو من يرى الزيف دون أن يقع فيه، ويعيش مع الناس دون أن يُشبههم تمامًا، ويشتغل على نفسه كما يشتغل النحات على قطعة من الرخام، يزيل عنها ما لا يلزم لتظهر كمالاتها الممكنة. إنه مشروع للصفاء العقلي وسط التلوّث الرمزي، ومشروع أخلاقي وسط صخب المنافع السريعة والنجاحات الزائفة.

وباختصار، فإن ابن باجه لا يُقدّم لنا درسًا نظريًا معلّقًا في فضاء الزمن، بل يفتح أمامنا بابًا لتجربة شخصية تأملية، تقودنا إلى أن نكون حقيقيين في عالم يفرض علينا كثيرًا من الزيف. إن "المتوحّد" في نهاية الأمر ليس نموذجًا متعاليًا، بل إنسانًا عاديًا امتلك شجاعة الانفصال الهادئ عن الرداءة، من أجل أن يظل قادرًا على الحياة كما يجب أن تُعاش.

وبينما أكتب هذه السطور، لا يسعني إلا أن أسترجع لحظة خاصة شكّلت وعيي الأول بالفكر والنقد والملاحظة الاجتماعية. أتذكر جيدًا أول محاضرة حضرتها وأنا طالب في الفرقة الأولى بقسم علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة طنطا، في العام الجامعي 1993-1994، وبالتحديد في شهر نوفمبر 1993.

كان يُحاضرنا فيها العالم الجليل، الأستاذ الدكتور عبد الهادي محمد والي، أستاذ علم الاجتماع وعميد الكلية في ذلك الوقت (رحمه الله). كان عنوان المحاضرة: "الاغتراب المعرفي عند ابن باجه في ضوء كتابه تدبير المتوحّد"، ولا تزال أصداؤها حاضرة في ذهني إلى اليوم، بما حملته من عمق ورؤية وتحفيز على التأمل.

كانت القاعة مزدحمة، وكنت آخر الطلاب الذين التحقوا بالقسم، بعدما ذهب والدي، رحمه الله، إلى مكتب العميد يحكي له ظروفي، ويطلب منه تحويل أوراقي من كلية التجارة إلى كلية الآداب.

أذكر تلك اللحظة جيدًا، حين فتح الدكتور والي ملفي، نظر إلى والدي، ثم إليّ، ووقّع على الموافقة. في تلك اللحظة بدأ تحوّلي، ومعه بدأت مسيرتي في التفكير الاجتماعي والفلسفي، وما زلت أذكر كيف زرع ذلك الرجل بداخلي احترام العقل، والبحث عن المعنى خلف كل ظاهر.

بهذا المعنى، فإن ابن باجه لم يكن بعيدًا عن تجربتنا، بل هو معنا، يذكّرنا بأن بناء الذات هو أصدق مشروع في عالم تتكاثر فيه الأصوات، وتضيع فيه الحقيقة. المتوحّد لا يعيش في برج عاجي، بل في داخل كل فرد قرّر أن يحتفظ بنقائه في زمن التلوّث، وأن يفكر، حتى لو صمت الجميع.

لم أعد أرى في الصخب المحيط بي علامة على الحياة، بل كثيرًا ما بدا لي ضجيج العالم كأنه غبارٌ يحجب الرؤية ويشوّش الإدراك. تآكلت المعاني تحت وطأة التكرار، وصارت الكلمات تُقال بلا روح، والمواقف تُؤخذ بلا تفكّر، والأيام تُستهلك بلا وعي. وبينما يزداد الخارج سرعةً واضطرابًا، كان الداخل يطالب بهدوئه، بسكينته، بمكان يليق بالتأمل. لم يكن هذا الفراغ الذي شعرت به فراغًا وجوديًا، بل امتلاءً زائفًا، يُغريك لكنه لا يُرضيك. وهكذا بدأ صوت الداخل يتغلب على ضجيج الخارج، ويهمس لي بأن الطريق إلى الصفاء يمرّ عبر العزلة الواعية، لا الغفلة الاجتماعية.

ولعلني، في هذا المنعطف من حياتي، لا أجد ملاذًا أنبل من أن أتوحّد، كما تَوحّد ابن باجه، طلبًا للسلام العقلي والصفاء الداخلي. لم يعد التوحّد عندي مجرّد فكرة فلسفية قرأتها في كتاب، بل غدا موقفًا وجوديًا أتبناه عن وعي، هربًا لا من الناس، بل من تشوّش المعاني وضجيج اللامعنى. هو عودة إلى الذات، وإلى العقل، وإلى الفضل، في زمنٍ يُخيفك فيه أن تظل واقفًا بينما الجميع يركضون بلا وجهة. التوحّد هنا ليس انسحابًا من العالم، بل تَرفّعًا عنه، حين يُصبح الضجيج قاعدة، ويُصبح الصمت مقاومة.

وهكذا، تبدأ الرحلة برغبة والد، ودرسٍ أول عن ابن باجه، لكنها لا تنتهي عندهما. إنها رحلة مستمرة نحو بناء الذات، وسط عالم يعجّ بالفوضى، لكنها فوضى تُعَلِّمنا كيف نُنصت لصوت العقل. المتوحّد ليس نهاية الطريق، بل بدايته لمن قرر أن يعيش لا كما يُراد له، بل كما يرى هو أن الحياة تُعاش.

إننا لا نختار التوحّد هربًا من الناس، بل توقًا إلى نسختنا الأفضل. في عالم تتآكل فيه المعاني، ما يزال هناك مكان صغير في القلب لا يمسه الزيف، ولا تُطفئه الضوضاء. هناك، يعيش المتوحّد، صامتًا، متأمّلًا، ومؤمنًا بأن المعركة الحقيقية لا تُخاض في الشوارع، بل في الداخل، بين العقل والغفلة.

وإجمالًا، لا يسعني في ختام هذا التأمل إلا أن أترحّم على والدي الحبيب، الذي كان أول من أيقظ في نفسي بذور البحث عن المعنى، وسعى بصبر ومحبة ليمنحني فرصة جديدة حين طرق باب الأستاذ الدكتور عبد الهادي والي. كما أترحّم على أستاذي الجليل، الذي فتح لي أفقًا جديدًا في النظر إلى الذات والعالم، وكان لنباهته وإنسانيته أثر لا يُمحى في مسيرتي. أسأل الله لهما الرحمة والمغفرة، وأن يجزيهما عني خير الجزاء.






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإنترنت المظلم: عالم خفي يهدد الأمن ويغذي الجريمة والتطرف
- التربية الإعلامية ومهارات الشباب العربي في عصر المنصات الرقم ...
- الذَّكَاءُ وَالسُّلُوكُ الْإِجْرَامِيُّ: الْعَلَاقَةُ بَيْنَ ...
- مُؤَسَّسَاتُ الرِّعَايَةِ وَإِعَادَةِ تَأْهِيلِ الأَحْدَاثِ
- قهر الوصمة وكسر قيود التمييز: نحو مجتمع أكثر إنصافًا وشمولية
- الوصمة المزدوجة: تداخل العوامل الاجتماعية وتأثيراتها على الأ ...
- الموظف والسوشيال ميديا: التأثير السلبي والإيجابي لوسائل التو ...
- الإعلام والسياسة: من يقود من؟
- حق المؤلف بين النظرية والتطبيق
- الشخصية الإدارية
- فن الاتصال والتأثير على الناس
- لمحات من حياة القديس مارمرقس مؤسس الكنيسة المصرية
- نظرية الوصم (الجذور التاريخية والافتراضات النظرية)
- إدارة التنوع في الموارد البشرية
- العواطف في العمل
- النسوية العربية: رؤية نقدية
- الفرق بين المهارات الصلبة والمهارات الناعمة
- «العربية» في أفريقيا
- الجامعات الافتراضية: إيجابياتها وسلبياتها
- أنواع دمج ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع


المزيد.....




- البيت الأبيض: ترامب -فوجئ- بتصرفات إسرائيل في غزة وسوريا.. و ...
- وصفها بالمبادرة -غير المسؤولة-... وزير الخارجية الفرنسي ينتق ...
- كشفتها حبيبته الأخيرة.. نشر أسرار حصرية عن أينشتاين في كتاب ...
- محكمة مصرية تأمر بشطب اسم الناشط علاء عبد الفتاح من قائمة ال ...
- -تروث سوشيال- مرآة لتقلبات ترامب منذ عودته إلى البيت الأبيض ...
- مخاطر حقيقية بأفريقيا بعد تفكيك الوكالة الأميركية للتنمية ال ...
- وزراء ونواب إسرائيليون يطالبون بضم الضفة أسوة بالجولان
- إيران تستبق اجتماع اسطنبول بإتهام الاوروبيين بالتقصير بتنفيذ ...
- اختبار الثقة بين الإيكواس وتحالف الساحل
- هذا هو حلم إسرائيل الأكبر في سوريا


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - هاني جرجس عياد - المتوحّد بين رؤية ابن باجه وتحولات العصر: تأملات طالب بدأت برغبة والده ومحاضرة الدكتور والي