أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مالك مجباس - التعصّب والطائفية: الجذور النفسية والاجتماعية والدينية والفلسفية — دراسة تحليلية مقارنة















المزيد.....



التعصّب والطائفية: الجذور النفسية والاجتماعية والدينية والفلسفية — دراسة تحليلية مقارنة


مالك مجباس

الحوار المتمدن-العدد: 8407 - 2025 / 7 / 18 - 08:13
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


Abstract (in English)

This research explores the roots of bigotry and sectarianism in human societies through a rigorous interdisciplinary approach, drawing from evolutionary psychology, social anthropology, political philosophy, sociology of religion, and international law. It analyzes how closed forms of group belonging historically emerged from primal fear, collective memory, and identity myths, and how they have been systematically exploited by modern political and economic powers. The study deconstructs sectarianism by addressing its psychological, cultural, religious, legal, and socio-economic dimensions, while illustrating its contemporary manifestations through global case studies where prejudice escalates from discourse to institutional frameworks and, ultimately, to material violence. The research highlights comparative lessons from countries that have dismantled entrenched divisions through reconciliation and transitional justice, emphasizing the imperative of integrated reforms in education, media, law, and equitable economic policies. Ultimately, it advances a philosophical vision advocating the renewal of the social contract on the foundations of universal human rights, transforming belonging from a mechanism of exclusion into a shared horizon of coexistence.

***

الفصل الأول: المقدّمة والمنهجية

يُعدّ موضوع التعصّب والطائفية من الظواهر المركّبة التي لازمت التاريخ البشري منذ أقدم العصور وحتى العصر الحديث، إذ تشكّل هذه الظاهرة امتدادًا مباشراً للنزعات الأولية المرتبطة بغريزة البقاء والحاجة إلى الانتماء والحفاظ على الذات من جهة، ومن جهةٍ أخرى تمثّل انعكاسًا للبنى الثقافية والدينية والاجتماعية التي أعادت إنتاج التحيّزات عبر قرونٍ طويلة. ورغم أن التطوّر الفكري والقانوني والعلمي قد مكّن الإنسان المعاصر من إدراك مخاطر التمييز الطائفي والعرقي والديني، فإن الوقائع تثبت أنّ جذور هذه الظاهرة لا تزال فاعلةً في بنيات الوعي الفردي والجماعي في معظم المجتمعات.
نتناول في هذه المقالة البحثية جذور ظاهرة التعصّب والطائفية لدى الإنسان، انطلاقًا من مقاربة علمية متعدّدة التخصّصات تشمل علم النفس التطوّري والأنثروبولوجيا الاجتماعية والفلسفة السياسية وسوسيولوجيا الدين والقانون الدولي. نشرح كيف تشكّلت بُنى الانتماء المغلَق في التاريخ الإنساني من خلال الخوف والهوية والذاكرة الجمعية، وكيف تحوّلت إلى أدوات تلاعبٍ سياسي واقتصادي حديث. وقد جرى تفكيك الظاهرة عبر محاور متكاملة تناولت الأبعاد النفسية والثقافية والدينية والقانونية، مع أمثلة تطبيقية من التاريخ والحاضر توضّح كيف ينتقل التعصّب من الفكرة إلى النظام المؤسسي ومن الخطاب إلى العنف المادّي. كما عرضنا تجارب مقارنة لنماذج عالمية واجهت الانقسامات العرقية والدينية عبر سياسات المصالحة والعدالة الانتقالية، مُظهِرًا ضرورة التلازم بين إصلاح التعليم والإعلام والقانون والاقتصاد كي لا تبقى الهويات المغلقة ملاذًا لمجتمعات مأزومة.
تنبع الإشكالية الأساسية من سؤالٍ جوهري: لماذا لا يزال الإنسان ميّالًا إلى التمسّك بالشبيه والخوف من المختلف رغم تحوّلات الوعي والمعرفة والقوانين؟. من هذا السؤال يتفرّع عدد من التساؤلات الفرعية:
ما هي الجذور البيولوجية والعصبية لهذه النزعة؟
كيف يُعيد علم النفس والاجتماع تفسير الظاهرة اليوم؟
ما دور الأديان الكبرى في صياغة الهويات الجمعية ومن ثمّ تبرير الإقصاء؟
كيف قدّمت الفلسفات الكبرى أدواتٍ لفهم هذه الظاهرة ونقدها؟
ما هي أبرز المداخل العلمية والسياسات العملية التي يمكن أن تحدّ من التعصّب والطائفية في الحاضر؟
تنطلق الدراسة من فرضيّة رئيسية مفادها أنّ التعصّب ليس قدرًا بيولوجيًا خالصًا، بل هو نتاج تفاعل معقّد بين موروثٍ عصبيّ تطوّري من جهة، وبنى ثقافية ودينية واقتصادية من جهة ثانية، تتضافر جميعها لإعادة إنتاج حدود الانتماء والاختلاف داخل المجتمعات.
من الناحية المنهجية، تعتمد الدراسة منهجًا تحليليًا–تاريخيًا–مقارنًا، يجمع بين قراءة النصوص النظرية والأبحاث التجريبية الحديثة، وتحليل أمثلة تاريخية وحالات معاصرة، مع الاستعانة بمقاربات علم النفس العصبي والتطوّري، ونظريات علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية، وقراءات الفلسفة النقدية والوجودية وما بعد البنيوية.
كما تلتزم الدراسة بتوضيح المفاهيم الأساسية:
يُستخدم هنا مصطلح التعصّب للإشارة إلى كلّ موقفٍ ذهنيّ أو سلوكٍ جمعيّ يقوم على التمييز أو الكراهية تجاه الآخر المختلف دينيًا أو طائفيًا أو عرقيًا.
يُقصد بـ الطائفية توظيف الهويات المذهبية أو الدينية كأداة للفرز السياسي والاجتماعي والتعبئة الجماعية، بما يتجاوز المجال العقدي الخاص ليتحوّل إلى أداة للصراع وتقويض التعددية.
تُظهِر مراجعة الأدبيات العلمية المتخصصة أنّ الظواهر المرتبطة بالتعصّب الطائفي والعنصري ليست وليدة سياقٍ واحد، بل تنبع من تراكب معقّد بين البناء العصبي للدماغ البشري، والأنظمة الثقافية الرمزية، والهويات الجمعية المُتخيّلة، والأساطير السياسية والدينية التي تشرعن الإقصاء.
في حقل علم النفس العصبي، تبرز أبحاث مثل تلك التي أجراها Cikara وVan Bavel (2014) والتي أظهرت أن الجهاز العصبي – لا سيّما البُنى المرتبطة باللوزة الدماغية (amygdala) والقشرة الجبهية – يفعّل آليات دفاعية عند مواجهة "الآخر" المختلف. أظهرت هذه الدراسات أن التحيزات الجماعية تبدأ على مستوى لا واعٍ، حيث يُفرز الدماغ استجابات قَلَقية تجاه الغرباء حتى قبل التقييم المنطقي. ويُعتبر ذلك دليلاً على أن جذور التحيّز ليست محضًا ثقافيًا، بل تمتد إلى بنى بيولوجية متوارثة.
أما في علم الاجتماع، فقد شكّل مفهوم "الجماعات المُتخيّلة" الذي صاغه Benedict Anderson (1983) حجر الزاوية لفهم كيفية نشوء الهويات الطائفية والقومية. يرى أندرسون أن كل جماعة بشرية تفترض رواية عن ذاتها مبنية على خيالٍ جمعيّ، يشكّل نسيج الانتماء ويُشرعن الولاء، وغالبًا ما يُبنى هذا الخيال من خلال اللغة، والرموز، والأساطير المؤسسة. هذا الخيال قد يُنتج تطرفًا حين يشعر بالتهديد، ويبحث عن "آخر" يُحمّله عبء الانهيار.
تُضاف إلى ذلك القراءات الدينية الحديثة التي قدّمتها باحثات مثل كارين أرمسترونغ (Karen Armstrong)، والتي فسّرت الانقسامات الطائفية ليس بوصفها ناتجة عن الدين ذاته، بل عن تسييس الدين ضمن صراعات السلطة. في كتابها "حقول الدم"، ترى أرمسترونغ أن معظم أعمال العنف المنسوبة إلى الدين تنبع من الصراعات الاجتماعية والسياسية التي تُلبس لباسًا لاهوتيًا، وأن الطائفية المعاصرة هي منتَجٌ سياسيّ أكثر منها ناتجًا لاهوتيًا صرفًا.
أما في الفلسفة، فقد خاض مفكرون كـ إيمانويل كانط في إشكالية "الآخر" من زاوية أخلاقية، حيث دعا إلى معاملة الإنسان كغاية لا كوسيلة، وهو ما يُعدّ تأصيلاً مبدئيًا لمفهوم التسامح والاعتراف بالاختلاف. بينما أعاد هابرماس في مشروعه "بين الحقائق والمعايير" طرح المسألة من خلال نظريته التواصليّة، حيث يشترط الفضاء العام الديمقراطي وجود تعددية حقيقية وقبول متبادل، ويُقصي كلّ تعصّب يُقصي الآخر.
في الأدبيات العربية، تتناثر الدراسات في مجالات متعددة. تناول عبد الرحمن الشرقاوي في تحليلاته التاريخية جذور الانقسام الطائفي في المجتمعات الإسلامية، متتبعًا كيف لعبت الخلافات السياسية دورًا جوهريًا في تحويل الاختلاف العقدي إلى عداء وجودي. وكتب محمد أركون بشكل نقدي حول ما سمّاه بـ "اللاعقلانية المؤسسة" في الفكر الإسلامي التقليدي، داعيًا إلى عقلنة العلاقة مع الآخر المختلف مذهبًا ودينًا وثقافة.
أما في العلوم السياسية، فقد ركّزت الأدبيات الحديثة على مفهوم "التطييف السياسي" (sectarianization) كما تناوله توبي ماثيسن وفانيسا مارتن، في وصف آليات تحويل الانتماء الطائفي من هوية ثقافية/روحية إلى أداة للصراع السياسي، ولا سيّما في السياقات الجيوسياسية المتأزّمة في الشرق الأوسط.
كل هذه المداخل، على اختلاف مدارسها، تشترك في تأكيدها على أنّ الطائفية والعنصرية ليست ظواهر فطرية أو قدرًا بيولوجيًا، بل هي بنيات اجتماعية-نفسية تتغذّى من الخوف، والخيال الجمعي، وأيديولوجيات الهيمنة، وتُعاد إنتاجها باستمرار في سياقات هشاشة الهوية واحتكار الحقيقة.
غير أنّ معظم الدراسات بقيت جزئية أو أحادية التخصّص. هنا تأتي مساهمة هذه الورقة في محاولة الجمع بين هذه الحقول في إطارٍ تركيبيّ متماسك يضع الظاهرة في سياقها البيولوجي والاجتماعي والفلسفي معًا.

إنّ هدف هذه الدراسة ليس تقديم إجابات نهائية بقدر ما هو تفكيك الظاهرة على مستوياتها المختلفة، واقتراح تأمّلات وتوصيات يمكن أن تفيد الباحثين وصنّاع القرار وكلّ مَنْ يهمّه تقويض منطق الكراهية لصالح أفقٍ إنساني أوسع.

***
الفصل الثاني: الخلفية التاريخية والأنثروبولوجية

إنّ فهم التعصّب والطائفية بوصفهما ظاهرتين متجذّرتين في التاريخ البشري يستوجب العودة إلى السياقات الأولى التي نشأت فيها البنى الاجتماعية للإنسان العاقل (Homo sapiens). إذ إنّ الأنثروبولوجيا الثقافية والبيولوجية تقدّم دلائل كافية على أنّ الميل إلى التكتّل داخل جماعات متجانسة قد نشأ بدافع الضرورات البيولوجية المرتبطة بالبقاء والصراع على الموارد والدفاع ضد المفترسات والأعداء من الجماعات الأخرى.
تُشير الأدبيات إلى أنّ المجتمعات البشرية الأولى كانت صغيرة الحجم نسبيًا، تتراوح بين العشيرة والأسرة الممتدّة، وقد اتّسمت بهياكل تنظيمية بسيطة تقوم أساسًا على روابط الدم والمصاهرة. ففي ظل غياب القانون المركزي والمؤسسات المستقرّة، كان الاعتماد على القرابة يعني أعلى درجات الثقة. وقد ساعد هذا النمط على بناء أنظمة تحكّم وتوزيع للموارد تعتمد على الولاء للأقارب وتبادل المنافع وحماية الأفراد الأضعف داخل الجماعة.

ضمن هذا الإطار، نشأت أولى بذور التمييز بين «نحن» و«هم». فالانتماء للجماعة تلازم مع رفض أو حذر شديد من الغريب الذي قد يحمل معه خطرًا في صورة مرضٍ أو تهديدٍ مسلّح أو مطالبات بالمشاركة في موارد نادرة. وقد سجّلت الأبحاث الأنثروبولوجية نماذج من المجتمعات البدائية التي طوّرت طقوسًا صارمة لفحص الغرباء قبل السماح لهم بدخول الجماعة، وهو ما يشير إلى جذور مبكّرة للعصبية الثقافية.
مع التحوّل من نمط الصيد والجمع إلى الزراعة، والذي يُقدّر حدوثه قبل نحو عشرة آلاف عام فيما يُسمّى بالثورة النيوليتية، حدثت نقلة نوعية في البنى الاجتماعية. إذ بات الإنسان أقلّ تنقّلًا وأكثر استقرارًا حول موارد الماء والأرض الصالحة للزراعة، ما أوجد حاجة جديدة إلى تنظيم الصراع حول الأرض والماء والمحاصيل. هنا تحوّلت العشائر الصغيرة إلى قبائل أكبر وتحالفاتٍ أكثر تعقيدًا، نشأت فيها معايير مشتركة للعادات واللغة والرموز، وهو ما رسّخ مفهوم «الجماعة المتجانسة» أكثر من أي وقت مضى.
إنّ التاريخ المسجّل منذ الحضارات الأولى في بلاد الرافدين ووادي النيل ووادي السند يكشف أن الطوائف القبلية والعشائرية لم تختفِ، بل أُعيد إنتاجها ضمن أطرٍ مدينية ودينية أوسع. فقد ربطت المجتمعات الزراعية الأولى بين القرب من «المعبد» أو «الإله» والقرب من مركز السلطة السياسية. وكان الكهنة والسلالة الحاكمة يعزّزون وحدة الجماعة بتبرير تماسكها عبر الأساطير المؤسسة، مثل روايات الخلق والاختيار الإلهي. هذه الروايات أدّت وظيفة عملية: توحيد القبائل المتصارعة وصهرها ضمن هوية أوسع، لكنها في الوقت نفسه رسّخت آلية جديدة للفرز بين «المؤمنين» و«الكفّار»، أو بين أبناء الأرض وأعدائها.
مع بروز الديانات الكبرى المنظمة (الميثولوجيا المصرية، الديانة الزرادشتية، ثم اليهودية والمسيحية والإسلام لاحقًا)، شهدت العصبية القبلية تحوّلاتٍ عميقة. إذ إنّ العقيدة الدينية أتاحت هوية تتجاوز رابطة الدم، لكنها في المقابل أضافت طبقة رمزية أكثر تجريدًا للتمييز: من يشترك في المعتقد يُعدّ «أخًا في الدين»، أما الخارج فهو «آخر» يُنظَر إليه بريبةٍ وقد يُقابَل بالعنف أو الإقصاء.
تاريخيًا، ترافقت المراحل الإمبراطورية الكبرى مع تصاعد جدلية التنوّع الثقافي والتعصّب في آن واحد. ففي الإمبراطوريات الفارسية والرومانية والبيزنطية، حاولت السلطة المركزية إدارة مجتمعاتٍ متعددة الأديان واللغات، وغالبًا ما لجأت إلى التمييز القانوني أو الديني أو الضريبي لترسيخ الفوارق بين المجموعات، ما كرّس شعور الانتماء والانغلاق لدى كل جماعة داخل كيانٍ أوسع. هذا بدوره غذّى ميل الأقليات إلى التمسّك بخصوصيتها الثقافية أو المذهبية خوفًا من الذوبان، وهو ما يفسّر جزئيًا استمرار الطائفية رغم بروز الهياكل السياسية الموحّدة.
ومن منظور أنثروبولوجي أوسع، تشرح هذه الجدلية كيف أنّ التعصّب لم يكن دومًا «عداءً فجًّا» بقدر ما كان وسيلةً لضبط الجماعة داخليًا وحمايتها خارجيًا. فالجماعة التي تشعر بأن حدودها مهددة تُعيد ابتكار أساطيرها ورموزها. ومع ظهور النزاعات على السلطة الدينية أو السياسية، بات يُعاد توظيف هذه الهويات كأدوات تعبئة وحشد. وهكذا صارت الطائفية نمطًا متجدّدًا من إعادة إنتاج الانتماء بوسائل جديدة كلّما تبدّلت البنى الاقتصادية والسياسية.
لقد شهد التاريخ العربي–الإسلامي مثالًا واضحًا لهذا النمط مع انقسام المسلمين الأوائل إلى طوائف ومذاهب ومدارس فقهية، لم تكن في جوهرها خلافاتٍ عقائدية خالصة فحسب، بل صراعاتٍ على الشرعية والموارد والسلطة، يُعاد تبريرها بشعاراتٍ دينية. وعلى مدى قرون طويلة، أُعيد إنتاج الطائفية من خلال العصبية القبلية، والاصطفافات العرقية، واستراتيجيات السلطة المركزية التي استخدمت هذه الانقسامات لترسيخ هيمنتها.
في العصر الحديث، ومع نشوء الدولة القومية وانتشار التعليم ونموّ فكرة المواطنة القانونية، ظُنّ أن الهويات الطائفية ستضمحل. لكن الأحداث الكبرى مثل الاستعمار، وإعادة رسم الحدود، ونشوء الدول القُطرية على أنقاض خرائط إمبراطورية، ساهمت في إعادة تنشيط البنى الطائفية كوسيلة للتمايز والحشد في مواجهة «الدولة الحديثة» ذات الهيمنة المركزية. وقد بيّنت دراسات حديثة أنّ ضعف العدالة الاقتصادية والتفاوتات الطبقية يساهمان في إعادة إحياء العصبيات القديمة.
إنّ القراءة الأنثروبولوجية والتاريخية لهذه المسارات توضّح أنّ التعصّب ليس ظاهرة عابرة أو طارئة، بل هو جزء من البنية العميقة لتاريخ الاجتماع البشري، يخرج في أشكالٍ متجددة كلّما تهيأت له الظروف المناسبة. لذلك، فإنّ تحليله يتطلّب دائمًا أن يُربط بالبيئة الثقافية والسياسية والاقتصادية التي تستبطنه وتعيد إنتاجه.

***

الفصل الثالث: التفسير النفسي العصبي
يُشكّل الفهم العصبي–النفسي للإنسان أحد المفاتيح العلمية الرئيسية لتفسير الميل المتكرّر إلى التحيّز والتعصّب تجاه الآخر المختلف. إذ إنّ الدراسات الحديثة في علوم الأعصاب الاجتماعية وعلم النفس التطوّري كشفت أنّ بعض النزعات الإقصائية ليست وليدة عوامل ثقافية أو دينية وحدها، بل لها جذور أعمق متصلة بآليات معالجة الدماغ للمعلومات والتهديدات.
يُشير علم النفس التطوّري إلى أنّ الإنسان العاقل ورث من أسلافه أنظمةً عصبيةً قديمة صُمِّمت لمساعدته على التكيّف مع بيئاتٍ شديدة الخطورة. ففي مجتمعات الصيد والجمع، كان اكتشاف أيّ عنصر غريب أو كائن غير مألوف يرتبط مباشرة بفرضية التهديد: قد يكون حاملًا لمرضٍ معدٍ، أو خصمًا يسعى لسرقة الموارد، أو عدوًا يترصّد الجماعة. من هنا ارتبطت القدرة على تمييز «الشبيه» بسرعةٍ كبيرة بفرص النجاة.
يدرس علماء الأعصاب هذه الآليات من خلال مناطق الدماغ المسؤولة عن معالجة التهديدات الاجتماعية، وأبرزها «اللوزة الدماغية» (Amygdala) التي تُعدّ مركزًا أساسيًا للمعالجة الانفعالية، خاصةً للخوف والحذر. وقد أظهرت تجارب تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي الوظيفي أنّ هذه المنطقة تُظهِر نشاطًا متزايدًا عندما يُعرَض على الفرد وجهٌ ينتمي إلى مجموعة عرقية أو ثقافية مختلفة عنه. وقد أشار Cikara & Van Bavel (2014) إلى أنّ هذا النشاط العصبي لا يعني بالضرورة كراهيةً واعية، بل هو استجابة فورية مرتبطة بآليات الدماغ الدفاعية القديمة.
في تجربة شهيرة نُشرت في Journal of Neuroscience، وُجد أنّ المشاركين في التجربة أظهروا استجاباتٍ عصبيةً أوتوماتيكية عند رؤية وجوهٍ مختلفة العرق حتى عندما كانوا يعلنون إدراكًا واعيًا للمساواة العرقية. أي إنّ الدماغ، مدفوعًا ببرمجته القديمة، يفصل بين الانتماءات رغم الخطاب الواعي الذي يُدين التمييز.
تدعم هذه النتائج فرضية «الانحياز الضمني» (Implicit Bias)، وهي فكرة مركزية في علم النفس الاجتماعي المعاصر. إذ يُفرّق هذا الحقل بين التحيّز الواعي الذي يتشكّل بفعل التربية والثقافة والخطابات الدينية، والانحياز الضمني الذي يُنشّطه الدماغ بمجرّد التعرف على علامات الاختلاف، حتى وإن لم يكن للفرد وعيٌ تامٌ به أو رغبةٌ في التصريح به.

وفي دراسة أخرى (Kubota et al., 2012) تمّ ربط مناطق أخرى مثل القشرة الجبهية الأمامية (Prefrontal Cortex) بمهمة ضبط هذه الاستجابات الانفعالية. فكلّما كان الفرد أكثر وعيًا ونقدًا لأفكاره المسبقة، نشطت هذه المناطق لتكبح النشاط التلقائي للّوزة الدماغية، ما يعني أنّ التربية والتعليم والخبرات العابرة للثقافات يمكن أن تقلّل فعليًا من شدّة التحيّزات البيولوجية عبر إعادة تشكيل أنماط معالجة الدماغ.
من منظور علم النفس الاجتماعي، تكمّل هذه الآليات الفردية آلياتٌ جماعية أكثر تعقيدًا. فقد بيّن Henri Tajfel عبر تجاربه الشهيرة (Minimal Group Paradigm) أنّ الإنسان يميل إلى خلق حدود جماعية حتى في حال تقسيم الأفراد إلى مجموعات عشوائية تمامًا. ففي تجربة تقسيم طلاب إلى فرق بناءً على تفضيلات لوحات فنية، أظهر الأفراد استعدادًا لمحاباة فريقهم الوهمي ضد الفرق الأخرى. هذه النتيجة تؤكد أنّ الدماغ البشري ميّال إلى اختزال الواقع إلى معسكرات متقابلة متى ما أُتيحت له رموز أو إشارات فرز.
إنّ التقاء هذه العوامل العصبية–النفسية مع السياقات الثقافية والسياسية هو ما يفسّر قدرة الخطابات الشعبوية والطائفية على تحفيز ردود أفعال جماعية عنيفة تجاه المختلف. ففي لحظة التهديد الجمعي أو الشعور بفقدان الموارد، يعيد الدماغ تنشيط آليات الفرز البدائية، ويبحث عن «خطرٍ خارجي» لتفسير الأزمات. هكذا يتحوّل الاختلاف العرقي أو المذهبي إلى مخرجٍ نفس–سياسي جاهز.
ومع ذلك، لا يقدّم علم الأعصاب التطوّري هذه الآليات كقدرٍ حتمي لا يمكن تجاوزه، بل يثبت أنّ المناطق العليا في الدماغ — خاصةً القشرة الجبهية — تمنح الإنسان القدرة على مراجعة نزعاته ومحاسبة أفكاره المسبقة وتغيير سلوكياته. لذا تركّز البرامج الحديثة لمكافحة التحيّز على تنمية مهارات التفكير النقدي والانفتاح على الآخر، من خلال التعريض المنهجي لثقافاتٍ متنوعة وتحفيز الحوار بين المجموعات.
يمكن القول إنّ فهم هذه الأبعاد العصبية والنفسية يُعدّ ضروريًا لوضع أيّ استراتيجية واقعية لتقويض التحيّز والطائفية. إذ من دون إدراك أنّ التعصّب ليس ظاهرةً ثقافيةً صرفةً بل سلوكٌ يتداخل فيه الموروث العصبي مع العوامل البيئية، يصبح من الصعب بناء برامج تربوية أو سياسات إدماجية تراعي الطبيعة الحقيقية للإنسان.
***

الفصل الرابع: التفسير الاجتماعي والثقافي للتعصّب والطائفية

يشير علم الاجتماع منذ إميل دوركايم إلى أن الإنسان كائنٌ لا يملك هويته منفردًا، بل يكتسبها داخل جماعة. في هذه الجماعة يُولَد ويتعلّم اللغة، ويُقاس انتماؤه من خلال معايير القبول أو الرفض. يرى دوركايم أن الجماعة ليست مجرّد تجمّعٍ بيولوجي، بل هي «واقع فوق فردي» يشكّل الأفراد بقدر ما يشكّلونه.
أمّا علماء الاجتماع المعاصرون فيؤكدون أن الهويات الجماعية تُبنى عبر ما يُسمّى «الحدود الرمزية» (Symbolic Boundaries) كما عند ميشيل لامونت، أي الخطوط غير المرئية التي تفصل «نحن» عن «هم»، وتُعرَّف عبر اللغة، العادات، الرموز، الدين، العِرق.

الهوية الجمعية وآليات إنتاجها
تقدّم نظرية «الجماعات المتخيّلة» (Imagined Communities)، كما صاغها بينيديكت أندرسن، منظورًا أساسيًا لفهم كيف تتحوّل جماعات متفرّقة إلى كيان موحّد حول سردية مشتركة. إذ يرى أندرسن أن الأمم والقوميات والأديان الكبرى ليست كيانات طبيعية، بل هوياتٌ يُعاد تخيّلها باستمرار عبر التعليم، الإعلام، الخطاب السياسي.
هذا التخيل يصنع رابطة عاطفية تسمح للفرد بأن يرى في الملايين الذين لم يلتقِ بهم أبدًا «أشقاء» يربطهم الدم أو الدين أو اللغة. غير أنّ هذه الرابطة تحتاج دومًا إلى «آخر» مختلف، يُعرّف من خلاله «الداخل». من هنا يصبح الاختلاف تهديدًا للتماسك، ويُعاد إنتاج أساطير عن النقاء والصفاء لحماية الهوية الجمعية.
تُفسّر السوسيولوجيا الوظيفية أن الجماعة تحتاج إلى «انسجام رمزي» لحماية سرديتها. ولتحقيق هذا الانسجام، تُستخدم أدوات متنوّعة مثل الطقوس (Rituals) والشعائر الجمعية التي تجدد الانتماء باستمرار. يوضّح عالم الأنثروبولوجيا فيكتور ترنر أن الطقوس الجماعية، سواء كانت دينية أو قومية، تُعيد تكوين الشعور بـ«المجتمع». إنها تحوّل الأفراد من كيانات مستقلة إلى وحدة موحّدة تتشارك الرموز والمقدّسات.
لكن، بالمقابل، كل طقسٍ يُؤكّد من هو «الداخل» ويُعرّف من هو «الخارج». فالحدّ لا يُرسَم في السياسة فقط، بل يُعاد تكريسه عبر الممارسات اليومية: الملابس، الطعام، اللغة، وحتى الأسماء. وهكذا يصبح المختلف علامةً حيّة على هشاشة الانسجام الرمزي.
يذهب علماء الرموز (Semiotics) إلى أنّ الهوية الجماعية لا يمكن أن تُروى إلا من خلال رموزٍ وأساطير. فالشعارات الدينية، والأعلام، والشعارات الوطنية، كلها أدواتٌ لتثبيت حدود الجماعة. وعبر هذه الرموز يُعاد تدوير روايات البطولة، الشهادة، التضحيات، وكلّها تخدم هدفًا مزدوجًا: ترسيخ التماسك الداخلي، وتبرير الإقصاء.
إنّ الأسطورة – وفقًا لـ كلود ليفي ستروس – ليست حكاية ماضية، بل بنية ذهنية تنظّم الفهم الجماعي. لذا تصبح «أسطورة النقاء» أو «الاختيار الإلهي» جزءًا من آليات تبرير الطائفية. إذ حين يُقال لجماعةٍ إنّها «مختارة» أو «طهرت نفسها» من الغرباء، يتحوّل الإقصاء إلى فعلٍ مقدّس.

قدّم النظرية البنائية (Constructivism) في علم الاجتماع منظورًا حاسمًا لفهم أنّ الهويات ليست معطيات ثابتة، بل تُبنى اجتماعيًا. يرى بيتر بيرغر وتوماس لوكمان أن «الواقع الاجتماعي» ليس موضوعيًا بالكامل، بل يُنتَج عبر اللغة والتفاعل المستمر. إنّ الأفراد يخلقون المعاني ويعيدون تثبيتها حتى تصبح بديهية.
من هذا المنظور، يصبح التعصّب فعلًا جماعيًا لصنع حدود متجدّدة. ويشرح علماء الاجتماع الثقافي كيف تُدار هذه الحدود عبر مؤسسات التعليم والدين والإعلام، إذ تُنشَّأ الأجيال على مقولاتٍ تميّزها عن الآخرين.

لإيضاح البعد التطبيقي، تقدّم الأدبيات نماذج واضحة:

🔹 الهند: نظام الطبقات (Caste) مثال حيّ على تقسيم المجتمع إلى جماعات مغلقة وراثيًا وثقافيًا. رغم التحوّلات القانونية، ما زالت الهويات الطبقية تُنتَج في المدارس والأحياء والطقوس.
🔹 الولايات المتحدة: التمييز العرقي لا يزال قائمًا رغم الحركات الحقوقية. تُظهر دراسات Bonilla-Silva كيف يستمر الفصل الرمزي بين البيض والسود في الخطاب اليومي.
🔹 العالم العربي: الطائفية ليست خلافًا دينيًا فقط، بل نظام فرز سياسي واقتصادي وثقافي. تؤكد أبحاث برهان غليون وعزمي بشارة أنّ السلطة أحيانًا تعيد إنتاج الطائفية لتفتيت المجتمع.
وهنا يبرز السؤال المهم، كيف يُعاد إنتاج الكراهية ثقافيًا؟
يشرح بيير بورديو أنّ المؤسسات التربوية والإعلامية تؤدّي دورًا أساسيًا في نقل «العنف الرمزي». يُقصد بذلك أنّ الأفكار التمييزية لا تُفرض بالعنف الجسدي فقط، بل عبر الخطاب الذي يُقدَّم على أنّه «طبيعي». مثلًا، تصنيف البشر في المناهج أو البرامج الدينية إلى «نحن» و«هم» يعيد إنتاج الخوف من المختلف.
يُظهر المنظور الاجتماعي–الثقافي أنّ التعصّب ليس حالةً مرضية فردية، بل بناءٌ جماعي مستمر. الخطاب، والرموز، والأساطير، والمؤسسات التربوية، كلّها تشتغل معًا لصنع واقعٍ يُقدّم التمييز وكأنه «حقيقة طبيعية». لذا فإن أي محاولة لمعالجة الظاهرة يجب أن تستهدف هذه البنى الثقافية لا الأفراد وحدهم.

***

الفصل الخامس: البُعد الديني والعقائدي

لطالما ارتبط الدين بفكرة العزاء والمعنى، إذ أدّى منذ أقدم أشكاله وظيفة تفسيرية ووجودية للإنسان الذي وجد نفسه منذ فجر وعيه محاطًا بالمجهول والتهديد والموت. غير أنّ هذا المعنى لم يكن يومًا منفصلًا عن البُعد الاجتماعي والسلطوي. فمنذ أن تجمّع البشر حول المذابح الحجرية والآلهة المحلية، صار الدين إطارًا لصنع جماعة متميّزة عن غيرها، جماعة تستمد شعورها بالتماسك من ادّعاء علاقةٍ خاصة بالقداسة، وتستمد حقّها في البقاء وحتى الهيمنة من أسطورة التفوّق الروحي. هكذا تشكّلت عبر آلاف السنين أولى هياكل الطائفية حين صار الإيمان لا يكتفي بإنقاذ الروح بل يُستخدم حدودًا رمزية تقسم الناس إلى مؤمنين وكفّار، طاهرين ونجسين، أبناء النور وأبناء الظلمة.
تاريخيًا لم تُنتِج الأديان الكبرى هذا التمايز عبثًا أو فجأة، بل تراكب مع بنيات القوّة والهيمنة التي استثمرت المعتقد لصالح توحيد الجماعة حول مركز سلطوي. فمن عبادة الأسلاف والآلهة المحلية إلى الميثولوجيات الكبرى في وادي الرافدين ووادي النيل، ثم إلى الديانات التوحيدية الكبرى، ظلّ السرد المقدّس مرادفًا لسردية جماعية تُعرّف الداخل والخارج وتُعيد إنتاج الطاعة والانتماء. في اليهودية، على سبيل المثال، يتجلّى هذا في فكرة «الشعب المختار» التي صاغتها نصوص التوراة في سياق تاريخي لجماعةٍ صغيرة مهددة بين إمبراطوريات أضخم، فتحوّلت العقيدة إلى حصنٍ منيع يضمن تماسك الجماعة أمام الغريب ويمدّها بشرعية البقاء رغم هشاشة العدد والموارد. ثم أعادت التقاليد المسيحية الأولى إنتاج هذا النمط عبر تأسيس مفهوم «الكنيسة الجامعة» التي تُقصي الهرطقات وتحتكر خلاص النفوس. ومع ولادة الإسلام صار التمييز أشد وضوحًا: أمة جديدة تتجاوز القبيلة لكنها تحتفظ بآليات الفرز بين «أمّة محمد» ومن لم يدخل حظيرتها، وتتّسع هذه الأمة مع الفتوحات فتحتاج إلى روايات شرعية تحسم الاختلافات العقدية بحدّ السيف أو بسيف التكفير الناعم.
في كل هذه الأديان، برزت الطائفية ليس كتشويهٍ لاحقٍ للمقاصد الأصلية فحسب، بل كبنيةٍ بنيويةٍ رافقت نمو الجماعات وتحوّلها إلى كتل سياسية واقتصادية. إذ لم يكن الخلاف اللاهوتي مجرد جدل حول طبيعة الألوهية أو تفسير النصوص، بل كان غالبًا غطاءً لمعارك شرعية على الحكم والموارد. فالانشقاقات المسيحية التي أنتجت الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية لم تُفهَم إلا بربطها بصراعات الملوك والإمبراطوريات. وكذا الانقسام الإسلامي بين سنة وشيعة لم يُختَصر في سؤال: من الأحق بخلافة النبي؟ بل تجذّر في شبكات الولاء القَبَلي والمصالح الاقتصادية وأدوات الدولة المركزية التي أعادت إنتاج «الفرقة الناجية» بوصفها ذريعة لتصفية الآخر المختلف أو تهميشه.
إنّ الفلسفة الدينية الحديثة تكشف أن الأديان، في جوهرها الروحي البحت، لا تحتّم الطائفية بقدر ما تتيح إمكانها عبر النصوص القابلة للتأويل وسهولة توظيف القداسة في بناء جماعةٍ ذات حدود واضحة. من هنا يصبح التكفير أو التقديس أداةً سياسية بقدر ما هو تعبيرٌ عقدي. وكل محاولة لفصل الإيمان عن التحيّز تبدو مثالية حين نرى كيف تتوارث المجتمعات التفسير الأحادي وتُخضعه لمصالح السلطة والهوية. لم تكن الحروب الصليبية وحروب الإصلاح الديني في أوروبا، ولا مذابح الفتنة الكبرى في الإسلام، ولا صعود الجماعات الدينية السياسية الحديثة سوى مظاهر متكرّرة لهذا الارتباط: العنف باسم المقدّس بوصفه تجسيدًا للطائفية في أقصى صورها.
إنّ السوسيولوجيا الدينية تُجمع اليوم على أنّ الأديان تؤدّي دورًا مزدوجًا: فهي من جهة تمدّ البشر بمعنى متعالٍ يربطهم بقيمةٍ كونية قد تحتّم التسامح والرحمة، لكنها من جهة ثانية تقدّم اللغة والرموز التي تُستخدم لرسم خطوط الدم. بين هذين القطبين يختبر كل مجتمعٍ صراعه المزمن مع الطائفية. فحين تفشل المؤسسات التعليمية والثقافية والسياسية في تأطير المقدّس بوصفه قيمةً إنسانيةً منفتحة، يتسرّب اللاهوت الخام إلى العصبية، وتغدو الطائفة معبدًا حصينًا يبرّر الإقصاء، بل يحوّله إلى عبادة.
هكذا، يظل الدين في كل أطواره مرآةً للإنسان الممزّق بين الحاجة إلى المعنى والخوف من الانقراض وسط المختلفين. فما لم يُعاد تأويل النص وتفكيك سلطته الرمزية لصالح أفقٍ كوني يتجاوز الانغلاق، ستظل الطائفية قابلةً للانبثاق من عمق المعبد كلما اهتزّت الجدران السياسية أو الاقتصادية التي تحيط به. بذلك يصبح التقديس والتكفير وجهين لعملةٍ واحدة: عملة الخوف الذي يبحث عن خلاصه في حدود الدم.

***

السادس: المنظور الفلسفي والفكري

حين ننتقل من الجذور النفسية والثقافية والدينية إلى عمق البنية الاقتصادية والسياسية، نكتشف أن التعصّب والطائفية لا يزدهران وحدهما داخل الأفكار والعقائد فحسب، بل يجدان التربة الخصبة دائمًا حين تتشابك المصالح المادية وصراع السلطة مع هشاشة الموارد أو سوء توزيعها. إنّ التاريخ يقدّم أدلّة وفيرة على أنّ الهوية الطائفية غالبًا ما تتحوّل إلى أداة حشد تعبّئ الجماعات حين تواجه تحديًا في البقاء المادي أو تتهدّد بتغيّر موازين القوى الاقتصادية. فالطائفة لا تنشأ دائمًا دفاعًا عن الإيمان وحده، بل أحيانًا دفاعًا عن الامتيازات المخفية خلف قناع المقدّس.

يذهب علماء الاجتماع السياسي إلى أن السلطة تحتاج إلى آلية ضبط وتحكّم بالجماعات، خاصة حين تعجز عن توحيدها بمنطق المواطنة أو الهوية الجامعة الحديثة. عندئذٍ يصبح استدعاء الانقسام الطائفي وسيلة لإعادة توزيع الولاءات، وضمان بقاء الحاكم أو النخبة عبر تقسيم المجتمع إلى معسكرات مغلقة متناحرة، يصعب عليها أن تشكّل معارضةً موحّدة أو تطالب بعدالة الثروة. ولطالما شكّلت الإمبراطوريات القديمة نموذجًا واضحًا: كيف كان الحكّام يثيرون النزاعات الدينية أو العشائرية ليُضعِفوا الجماعات ويكرّسوا الانقسام حتى وهم يرفعون شعارات التوحيد.
يتكرّر هذا النمط في سياقات حديثة أكثر تعقيدًا، حين تتشابك العوامل الاقتصادية مع البنية الطائفية في أنظمة هشّة. إذ يصبح للهوية الطائفية بُعد مصلحي خالص: إذ تضمن الجماعة لأبنائها حصّةً من المناصب والموارد والعقود وفرص العمل، وتحوّل الولاء السياسي إلى تحالف مالي واجتماعي. وهكذا تنتقل الطائفة من كونها جماعة إيمانية إلى مؤسسة توزيع ريعية مغلقة، تُدار فيها المنافع عبر روابط القرابة والوسطاء، وتُستبعد منها الفئات التي لا تشارك في هذا التكتّل، مهما امتلكت من كفاءة أو ولاء للدولة.
في هذا السياق يُعاد تفعيل الخطاب الديني لتبرير الانقسام وكأنه قدَر أبدي. يُرفع الشعار المقدّس في الظاهر، لكن الذي يُدار في العمق هو شبكة معقّدة من المصالح تتغذّى على الخوف والتعبئة والزبائنية. يصبح الفرد الذي ينتمي إلى طائفة كبرى أكثر ضمانًا لحصته في التوظيف والتعليم والصحة وحتى الأمن الشخصي، مقارنةً بفردٍ معزول يرفض اللعبة الطائفية أو يحلم بالاندماج في هوية وطنية شاملة. وتحت هذا الغطاء تتراجع قيم الكفاءة والعدالة وتزدهر الوساطة والانتماء الضيّق. فينغلق المجتمع على نفسه في دوائر مغلقة، كل دائرة تدافع عن نصيبها وتحميه بعصبية رمزية ظاهريًا ومصلحية فعليًا.
يشرح المفكرون النقديون أن الأنظمة التي تُعزّز الطائفية اقتصاديًا تفعل ذلك لأنها تخشى البدائل الديمقراطية. إذ إنّ الطائفية تُحوِّل المواطنين من كتلة ناخبة حرّة إلى كتل مغلقة تتحرّك وفق هواجس البقاء والهوية، لا وفق البرامج الاقتصادية أو الحقوقية. هكذا يفقد السوق السياسي مبدأ المنافسة النزيهة، ويتحوّل التنافس إلى مساومات زبائنية تتاجر بالهويات بدل البرامج. يصبح الناخب رهينة زعيمه الطائفي الذي يعده بالخدمات أو الحماية، بينما تحتكر النخب الحاكمة شبكات المال والإعلام، وتقدّم خطابًا طائفيًا لتشتيت أي مشروع مدني جامع.

حتى في المجتمعات التي تدّعي العلمانية، يبقى التفاوت الاقتصادي أرضًا خصبةً لانبعاث التعصّب. إذ يكشف التاريخ أن الأزمات الاقتصادية الكبرى تدفع الجماعات إلى التمسّك بهويات مغلقة حين تشعر أنّ موردها ينهار أو يُهدّد من الداخل والخارج. من انهيار الإمبراطوريات إلى الأزمات المالية الحديثة، يجد الخطاب المتطرّف دائمًا منفذًا من خلال شعور الأفراد بأن رزقهم مهدّد وأن المختلف يزاحمهم على كسرة الخبز. يتحوّل الخوف إلى عُقدة جماعية تتسلّح بالرموز الدينية أو الإثنية أو الثقافية لتبرير الإقصاء والعنف أحيانًا. وهكذا يصبح التعصّب نظامًا اقتصاديًا غير مرئي، يقتات على فشل التوزيع العادل ويزدهر حين تُفرغ المؤسسات الحديثة من مضمونها.
إنّ تفكيك هذا التشابك يقتضي الاعتراف بأنّ الطائفية ليست ظاهرة رمزية أو عقدية وحدها، بل منظومة راسخة تُعاد هندستها عبر شبكات السلطة والاقتصاد. لذا فإنّ أي مشروع لمواجهة التعصّب يجب أن يبدأ من إعادة بناء الثقة بين المجموعات حول منطق العدالة والفرص المتساوية. ذلك أنّ الهوية الجامعة لا تُفرَض بالخطابات وحدها، بل تُبنى حين يشعر الفرد أنّ انتماءه الواسع يمنحه حمايةً ورزقًا وكرامةً أكثر من انغلاقه الضيّق. وما لم تُمسّ هذه البنية الريعية العميقة، سيظل الخطاب الطائفي أداة جاهزة في يد كل سلطة خائفة أو جماعة تبحث عن نصيبها المفقود بين خرائط الدم.
إنّ البعد الاقتصادي والسياسي في التعصّب يعلّمنا أن أسوأ الأوهام أن يُحارَب بالكلمات وحدها، أو يُختصر في الوعظ الأخلاقي. فما لم يُحاصَر في جذوره المصلحية، ستظلّ الهويات المغلقة قادرةً على بعث نفسها في كل أزمةٍ جديدة، كما لو أنّ التاريخ قرّر أن يُعيد اختباره الأزلي بين قُدرة البشر على اقتسام الخبز، أو اقتسام الدم.

***

الفصل السابع: حالات دراسية مقارنة

إذا كان التعصّب والطائفية قد وُلدَا في رحم الخوف البدائي والتفسير الرمزي والسلطة الدينية والسياسية، فإنّهما في العصر الحديث لم يفقدا تلك الجذور، بل أعادا صياغة نفسيهما داخل أشكال جديدة توزّعت بين الدولة والأيديولوجيا والحركات الشعبية العابرة للحدود. فما كان في الماضي طقسًا بدائيًا لصنع «الداخل» و«الخارج» صار اليوم سياسةً متقدّمةً تحترف التلاعب بالهويات وإنتاج الأعداء. ولعلّ ما يثير الدهشة أن تكنولوجيا الحداثة، التي وُلدت بوعد التنوير والعقلانية، صارت هي الأخرى قناةً لتضخيم العصبيات. فمن منصّات التواصل إلى الدعاية الإعلامية المتخصّصة في إعادة تشكيل الوعي، يجد التعصّب اليوم أدواته الأكثر فعالية.
تكشف حروب القرن العشرين أنّ الطائفية لم تعد حكرًا على المجتمعات التقليدية أو المناطق التي لم تعرف الدولة الحديثة، بل تسلّلت إلى قلب الدولة نفسها، مستفيدةً من هشاشة أنظمة التوزيع العادل والفشل في صهر الفئات المتنوعة داخل هوية مدنية مشتركة. فالحرب الأهلية في يوغوسلافيا، التي فجّرت البلقان على أسس قومية ودينية، كانت مثالًا صارخًا على كيف يُعيد السياسيون رسم الخرائط بسكاكين الهوية حين تفشل مشاريع الاندماج. وحرب رواندا عام 1994 ليست بعيدة عن ذلك، إذ تحوّلت أسطورة الانتماء القبلي إلى أداة إبادةٍ جماعية حصدت الأرواح بالمناجل والراديوهات التي كانت تبث الكراهية على مدار الساعة.
وفي عالمنا العربي تظل التجليات أكثر قسوة حين يُعاد توظيف الانقسامات الطائفية والمذهبية لأغراض التنافس الجيوسياسي والاقتصادي، فتظهر خريطة معقّدة من النزاعات لا يمكن فهمها إلا بفهم كيف تتداخل الشعارات الدينية مع صفقات السلاح والمال. ما يحدث في العراق ولبنان وسوريا واليمن ليس صراعًا طائفيًا بريئًا ينفجر من أعماق العقيدة فحسب، بل هو هندسة سياسية مقصودة، تُحرّك خطوط الانتماء لتُبقي الدولة عاجزة عن إنتاج عقد اجتماعي عابر للطوائف. يصبح الانتماء الطائفي هناك ضمانًا للبقاء في لعبة الموارد والحماية، وذريعةً لتبرير العنف الذي يتجاوز أحيانًا منطق الخلاف الديني نفسه.
وليس الشرق وحده ميدان هذه التجليات. ففي أوروبا، ومع صعود الشعبويات القومية الجديدة، نشهد عودة خطاب الهوية البيضاء والخوف من المهاجرين، تحت شعارات الدفاع عن «النقاء الثقافي» أو «الحضارة المسيحية». هذا الخطاب الذي بدا في القرن العشرين نتاجًا للنازية والفاشية، عاد بثوب جديد أكثر تهذيبًا لكنه لا يخفي جوهره العنصري. وتصاعدُ حوادث العنف ضد الأقليات واللاجئين في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا ليس سوى علامة على كيف يتغذّى التعصّب من انعدام الأمن الاقتصادي وشعور الأكثرية بالخطر الوجودي أمام موجات التغيّر الديمغرافي.

في الولايات المتحدة، تكشف الانقسامات العرقية المستمرة عن قدرة الهويات المغلقة على البقاء حتى في أعرق الديمقراطيات. رغم التقدم الهائل في التشريعات الحقوقية، أعادت حوادث القتل العنصري وحركات مثل «حياة السود مهمة» تذكير العالم بأن الهويات الإثنية قادرة على إعادة تنظيم المجتمع في خطوط صدعٍ واضحة متى شعر الأفراد أن القانون عاجز عن حمايتهم من التمييز البنيوي. وداخل هذا المشهد، تتنامى جماعات التفوّق الأبيض بوصفها تجسيدًا مباشرًا لفكرة الطائفة العنصرية الحديثة، مسلّحة بخطاب ديني أو قوموي يبرّر عنفها الرمزي والمادي.
أما في الفضاء الرقمي، فإن وسائل التواصل منحت الكراهية بُعدًا جديدًا من السرعة والانتشار. لم تعد الجماعات بحاجة إلى معابد وأضرحة وساحات حروب مفتوحة، بل صارت تنتج سردياتها التعبوية في غرف الدردشة المغلقة ومجموعات البروباغندا المتخصّصة، ثم تُصدّرها إلى الشارع. هكذا تذوب المسافة بين الهويات الدينية والعرقية والأيديولوجية، ويتحوّل التطرّف إلى سلعة إعلامية قابلة للتداول. ولعلّ تجارب التطرّف الديني الرقمي من داعش إلى جماعات اليمين المتطرف تظهر كيف يمكن لشاشة صغيرة أن تحشد آلاف الأتباع حول راية الدم.
إنّ تجلّيات التعصّب الحديث لم تعد حبيسة ثنائية الشرق والغرب، أو القديم والحديث، بل تخترق الخرائط كلّما فشلت الأنظمة في تقديم عقد اجتماعي متماسك يضمن العدالة والكرامة. في هذا المعنى يصبح الفضاء العام، من المدارس إلى الإعلام إلى شبكات السياسة، ميدانًا مفتوحًا لإعادة تدوير الهويات المتصارعة بدلًا من إذابتها في مشروع إنساني جامع. وما لم تتقدّم المجتمعات بأدوات جديدة للتربية على التنوّع والإنصاف والمواطنة العابرة للهويات المغلقة، فإنّ كل إنجاز اقتصادي أو تقني أو قانوني سيظل هشًّا أمام عودة الأساطير القديمة بثوب حديث.
إنّ قراءة تجلّيات التعصّب في الزمن المعاصر تكشف بوضوح أنّ الإنسان الحديث ليس محصّنًا من غرائزه الأولى، بل ربّما صار أشدّ قدرةً على تبريرها وتسويقها تحت شعارات معاصرة. بين الخوف من الآخر، والرغبة في التماهي مع من يشبهنا، وبين من يستثمر هذا التوجّس لأجل القوّة والمال، تستمر دورة الدم والفرز في كل مكان، وتظلّ الإنسانية في صراعها المزمن مع ما صنعته بنفسها من أسوار ورموز وحدود.

***
الثامن: جهود التخفيف والوقاية

حين يصل التعصّب إلى ذروة خطورته ويخرج من حيّز الفكرة إلى حيّز العنف الرمزي أو المادي، يصبح القانون آخر حصنٍ تحتمي به الفئات المستهدَفة، وآخر أداةٍ جماعية لحماية النسيج الاجتماعي من التمزّق الكامل. ولئن ظلّت الأديان والفلسفات تحثّ على التعايش بوعظٍ أخلاقيّ رمزي، فإنّ القانون وحده يترجم هذا المبدأ إلى قواعد مُلزمة قابلة للتنفيذ والمحاسبة. هكذا بدأت المجتمعات الحديثة منذ القرن الثامن عشر تحوّل مبدأ المساواة أمام القانون من شعارٍ فلسفي إلى مواد دستورية تحظر التمييز على أساس الدين أو اللون أو العرق أو الجنس، وتُجرّم الدعوة للكراهية أو التحريض عليها.
لم يكن هذا التحوّل لحظةً واحدةً مكتملةً، بل كان مسارًا تراكمت فيه التجارب الدامية والدروس القاسية. من المحارق العنصرية التي ارتكبها النازيون باسم نقاء العرق إلى الإبادات الجماعية التي انبثقت من رحم الطائفية في أفريقيا وآسيا وأوروبا الشرقية، أدرك العالم أنّ التعصّب حين لا يُضبط نصيًا ومؤسسيًا يصبح شرارة حربٍ كبرى. لذا نشأت بعد الحرب العالمية الثانية أهم الصكوك القانونية التي أرست أسسًا جديدة لحماية الإنسان من العصبيات المميتة، بدءًا من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 الذي كرّس لأول مرة مبدأ المساواة وعدم التمييز باعتباره حجر الزاوية لأي نظام قانوني إنساني.
تلت ذلك معاهدات واتفاقيات دولية متعدّدة، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، واتفاقية مناهضة التمييز ضد المرأة، ومواد قانونية عديدة تُدرج خطاب الكراهية كجريمة يعاقب عليها القانون الجنائي الوطني والدولي. غير أنّ ما بدا على الورق في كثير من الأحيان ظلّ يختبر صعوبة التطبيق حين تصطدم المبادئ القانونية بالبنى الثقافية والسياسية العميقة. فقد تُجرّم الدساتير التمييز لكنها تُغذّيه عبر أنظمة المحاصصة غير المعلنة، أو عبر مؤسسات تعليمية وإعلامية تزرع الفِرقة بدلًا من أن تهدمها.
إنّ التجارب القضائية الكبرى في التعامل مع الكراهية تثبت أنّ القانون ليس مجرّد نصوص، بل سياق مؤسساتي يقتضي استقلال القضاء وحياد الدولة وجرأة القضاة. حين حوكم قادة التطهير العرقي في رواندا أمام المحاكم الدولية الخاصة، وحين أدانت محكمة نورمبرغ رموز النازية بتهمة التحريض على إبادة جماعية، تكرّس مبدأ أنّ الكلمة التي تحرّض على الكراهية تسبق الرصاصة، وأنّ القانون قادرٌ على ردع الأفواه قبل البنادق إن توفّرت الإرادة والآليات. لكن في المقابل، ظلّت مئات النزاعات الطائفية تنفلت من قبضة العدالة في مناطق كثيرة، لأنّ النظام القضائي نفسه يكون أسيرًا للتحزّب أو الفساد أو الخوف من انفجار التوازنات الهشّة.
تُضيف المنظمات الحقوقية الدولية طبقة جديدة من الرقابة والضغط، إذ تراقب الخطابات العنصرية والانتهاكات الطائفية وتوثّقها وتحوّلها إلى أدلّة أمام المحاكم الدولية. ومع ذلك، يبقى الأفق محدودًا ما لم تتحمّل الدول مسؤوليتها الأساسية في سنّ تشريعات واضحة وتعليم قضاة ومدّعين عامّين على ملاحقة خطاب الكراهية بجرأة لا تعرف التسييس ولا الانتقائية. فتجريم الكراهية لا يعني قمع حرية التعبير، بل ضبطها بقواعد تحمي المجتمع من التحريض على العنف والفرز الدموي، إذ لا حرية مطلقة حين يتحوّل الكلام إلى سلاح إبادة معنوية قد يسبق الإبادة الجسدية بخطوة واحدة.
من هنا تبدو العلاقة وثيقة بين القوانين الدستورية والمدنية والجنائية وبين الإرادة السياسية والثقافة المجتمعية. فالمجتمع الذي يشرّع لقيم المساواة ولا يكرّسها في التعليم والإعلام يُنتج فراغًا تستغله الجماعات المتطرفة لتجعل القانون مجرّد حبرٍ على ورق. ولذلك لا يُمكن فصل القانون عن البيئة التي تحتضنه: إنّ حماية الإنسان من التعصّب ليست فعلًا قانونيًا خالصًا، بل مشروعٌ تربويٌ ثقافيٌ سياسيٌ متكامل، يحتاج إلى مؤسسات قوية وصحافة حرّة وقضاء مستقل وبرلمانٍ لا يخضع لمساومات الهويات المغلقة.
وحين تفشل القوانين الوطنية يُعاد اللجوء إلى القانون الدولي، حيث يظهر دور المحاكم الدولية ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية التي يمكنها أن تلاحق من يرتكب جرائم الكراهية والإبادة حتى لو احتمى بحدود دولته السيادية. لكن هذا المسار يظل محفوفًا بالعقبات حين تتشابك السياسة بالمصالح الكبرى. فما زالت الإبادات الجماعية والجرائم الطائفية تُرتكب أحيانًا في ظلال التوافقات الدولية، ويظل القانون في أحيانٍ كثيرة شاهدًا لا حيلة له إن لم تتوفّر الإرادة الجماعية لتطبيقه.
هكذا يتضح أن القانون، برغم كونه ضرورة أخلاقية وبنية ردعٍ مركزية، ليس كافيًا وحده ما لم يتحوّل إلى ممارسة حية في حياة الناس. إنّ تجريم الكراهية وإقصاء الطائفية من النصوص لا قيمة له ما لم يُزرَع في المدارس والجامعات والإعلام وفي شبكات الثقافة الشعبية. فالقوانين تُعدّل الأفعال حين تُرفد بوعيٍ جمعيٍ يرفض الإقصاء ويرى في المختلف امتدادًا للذات لا خصمًا لها. في هذا المعنى يظل القانون أداةً أخيرةً لصيانة العقد الاجتماعي من التمزّق، ودرعًا لا غنى عنه ضد نزعات الإنسان العتيقة حين تخرج من ظلال الغريزة إلى شوارع الدماء.

***
الفصل التاسع: خاتمة وتوصيات

إذا كان التعصّب والطائفية قد نشآ في تربة الخوف والجهل والمصالح المركّبة، فإنّ مواجهتهما لا يمكن أن تكون ردّ فعلٍ عاطفيًّا أو مجرّد صيحةٍ أخلاقية. إنّ التاريخ يثبت أن المجتمعات التي نجحت في نزع فتيل العصبية لم تفعل ذلك بقرارٍ فجائيّ أو شعارٍ بلاغي، بل بمساراتٍ طويلة ومعقّدة أعادت فيها بناء منظومة القيم والموارد والمؤسسات معًا، كي لا تبقى الهوية الضيّقة ملاذًا وحيدًا للخائفين والجائعين والناقمين. لذلك تبدو الخطوة الأولى لمواجهة الطائفية اليوم هي الاعتراف بأنها بنية متعدّدة الأبعاد، تحتاج إلى تفكيك متزامن في التعليم والإعلام والسياسة والاقتصاد والقانون معًا، لا في جزيرة معزولة.
يدرك علماء الاجتماع أنّ المدرسة هي أول ساحات كسر الدوائر المغلقة. فما دام الطفل يتعلّم أن المختلف خصمٌ أو عدوّ أو نجس أو أدنى مرتبة، فلن تجدي القوانين ولا الوعظ ولا حملات التوعية اللاحقة. لذلك أنشأت المجتمعات التي خبرت مرارة الحروب الأهلية مناهج تعليمية جديدة لا تحتفي بالاختلاف نظريًّا فحسب، بل تحوّله إلى مادة حية للنقاش والفهم والنقد، وتدرب الأجيال على التفكير النقدي بوصفه أداةً لمواجهة الأوهام والأساطير التي طالما غذّت العصبيات. وما لم يصبح هذا النمط جزءًا من الهوية التربوية للمجتمع، ستظل المدرسة مصنعًا صامتًا لإعادة إنتاج الجدران نفسها.
بعد المدرسة، تأتي ساحة الإعلام بوصفه النافذة التي يشكّل الناس عبرها خيالهم الجمعي عن الآخر. إنّ الخطاب الإعلامي الذي يحوّل الطائفة أو العِرق أو الدين إلى رمز سلبي، أو يصوّر جماعةً بعينها كبؤرة خطر دائم، هو وقودٌ مباشر لإشعال النزاعات أو على الأقل تحصين الانقسامات. لذلك تصبح حرية الإعلام وحدها بلا جدوى ما لم تقترن بمسؤولية مهنية صارمة، وقوانين تحاصر خطاب الكراهية من جذوره، وتمنع تحوّله إلى سلعة ترفع نسب المشاهدة وتزيد أرباح المعلنين. فالإعلام النزيه لا يعني تغطيةً محايدة فقط، بل إنتاج سردية إنسانية تقرّ بأن التنوع شرط وجودي لا عيب ينبغي اقتلاعه.
لا يقلّ العمل السياسي شأناً عن التعليم والإعلام، إذ تظلّ الأنظمة السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية مرتعًا خصبًا لتوريث الكراهية. فحين يُربط رزق الفرد أو فرصه أو أمنه بانتمائه، يصبح الدفاع عن الطائفة واجبًا مصلحيًّا قبل أن يكون التزامًا عقديًّا. لذلك كانت التجارب الناجحة دائمًا هي التي تفكّك هياكل المحاصصة بهدوءٍ وتؤسس بديلًا عادلاً واضحًا: نظام مواطنة متوازن يضمن التمثيل ويكفل تداول السلطة ولا يترك الهوية القومية أو الدينية تُختَزل في وظيفةٍ أو مقعدٍ أو مكسبٍ عابر. هنا يصبح العبور إلى الدولة المدنية ليس شعارًا أيديولوجيًا باردًا، بل ضرورة عملية تضمن أن يجد الفرد في هويته الأكبر حمايةً حقيقية تغنيه عن الاحتماء بهوية أصغر.
ويُعدّ الاقتصاد بدوره حجر الزاوية. إذ تكشف كل التجارب أنّ الفقر والتفاوت والتهميش مواد قابلة للاشتعال كلما استُثمرت في خطاب تعبوي. إنّ العدالة الاقتصادية لا تُحقّق فقط بتقارير مالية أو خطط إنمائية، بل بإصلاحات حقيقية في توزيع الثروة والفرص والموارد بين المناطق والفئات، حتى لا يبقى أحد رهينةً لهوية مغلقة بوصفها باب رزقه الوحيد. إنّ الفرد حين يجد في النظام الاقتصادي بابًا مفتوحًا، يصبح أقل ميلًا إلى الاحتماء بسياج طائفي أو قبَلي أو عنصري. لذلك لا معنى لمكافحة الكراهية إذا تُرِك ملايين الشباب على هامش الفقر والبطالة والتهميش.
ولعلّ أقوى أدوات المقاومة تظل في أيدي الأفراد حين يُعاد ربطهم بقيم إنسانية تتجاوز الجماعة المغلقة. إنّ الفلسفة حين تنجح في التسلل إلى حياة الناس اليومية تصبح بمثابة مناعة رمزية ضد النزعات البدائية. وما كان التنوير يوماً مشروع نخبٍ معزولة، بل انبثق حين تحوّلت أفكار العقل والحرية والمساواة إلى أدوات تفكيرٍ فرديٍّ يحرّر المرء من عبودية الطوطم والجماعة المغلقة. لذلك فإن نشر الفكر النقدي وتعميم الحوار الفلسفي في الأندية والمدارس والمنصات الجديدة ليس ترفًا ثقافيًّا، بل جزء من تحصين الإنسان ضد انغلاقه القديم.
ولا بد أن يتكامل هذا كلّه مع حوكمة رشيدة تضمن استقلال القضاء وفاعلية القانون، ليشعر الفرد أنّ ظلمه سيجد من ينصفه دون حاجة إلى زعيم عشيرة أو شيخ طائفة أو حامل سلاح. فحين يشعر الناس أنّ القانون يحميهم ويُطبَّق على الجميع بلا انتقائية، يفقد الخطاب المتعصّب كثيرًا من بريقه، لأن الناس لا يفرّون إلى الهويات المغلقة إلا حين يفرّ العدل من الدولة.
إنّ دراسة نماذج تاريخية مثل جنوب إفريقيا ورواندا وأيرلندا الشمالية تكشف أن المجتمعات قادرة على تفكيك العصبية إذا امتلكت شجاعة المواجهة والصراحة والمصالحة. في جنوب إفريقيا، لم ينهِ النظام العنصري مجرد إلغاء القوانين وحده، بل بُنيت لجان الحقيقة والمصالحة لتعيد صياغة الذاكرة الجماعية، وتفتح أبواب الاعتراف والاعتذار والصفح، دون أن تُفرغ العدالة من مضمونها. وفي أيرلندا الشمالية أُدمجت برامج المصالحة مع إصلاح سياسي واقتصادي طويل المدى، حتى صارت مساحات التلاقي اليوم أقوى من مساحات التناحر التي مزّقت المجتمع لعقود.
هكذا يثبت التاريخ أن لا علاج للتعصّب دون مشروعٍ طويل النفس، يبدأ من المدرسة ولا ينتهي عند المحكمة، ويضع في قلبه إنسانًا يدرك أن انتماءه الأعمق ليس قبيلةً أو مذهبًا أو لونًا، بل فكرة أنّ هذا العالم لا يُبنى إلا بشراكة المختلفين فيه، أو لا يُبنى على الإطلاق.

***

حين نبلغ نهاية هذا المسار الطويل في تأمّل جذور التعصّب والطائفية وتشريح بناها النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقانونية، ندرك أن هذه الظاهرة ليست شذوذًا عابرًا في تاريخ البشر، بل سيرة ممتدة من الخوف والهوية والحاجة إلى الانتماء وإلى الحماية معًا. إنّ ما يسمّيه البعض «الاختلاف» كان دائمًا امتحانًا قاسيًا لقدرة الإنسان على التقدّم فوق طبقات غرائزه الأولى، وترويض نزعة رسم الحدود بينه وبين الآخر المختلف عنه في الدين أو العِرق أو اللون أو اللغة أو حتى الفكرة.
إنّ هذا البحث يثبت أن الإنسان حين يخشى يفكّر بالغريزة قبل العقل، فيجعل من الجماعة ملاذًا مقدّسًا، ويبني حولها سرديات نقاءٍ موروثة تشرعن الإقصاء والعنف، ثم يكسوها بعمامة الدين، أو ببيارق القومية، أو برايات الدفاع عن الأرض والعرض، لتصبح الكراهية مشروعًا مشروعًا. هكذا تتحوّل العصبية من مجرد شعورٍ خام إلى نظام معقّد، تصنعه المؤسسات ويغذّيه الإعلام ويحرسه القانون حين يُفرَغ من مضمونه العادل.
لكن التجارب نفسها التي ولّدت الطائفية ولّدت في الجهة الأخرى بذور مقاومتها. فما من جماعةٍ بشرية خضعت للتقسيم إلا وخرج منها صوتٌ ينادي بفكرة أوسع من القبيلة والمذهب. من قلب المذابح برزت بيانات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومن قلب المحارق الدينية وُلدت نظريات العقد الاجتماعي والفلسفة النقدية، ومن بين خرائب الحروب الأهلية تسرّبت فكرة العدالة الانتقالية ولجان المصالحة والحقيقة. هكذا ظلّت النزعة الإنسانية في شجارٍ مزمن مع عصبياتها، وكأنّ الإنسان واقفٌ أبدًا على حافة تردّده بين أن يكون كائنًا حرًّا يرى الآخر امتدادًا له، أو أن يعود أدراجَه ليحتمي بغابة الهويات القديمة.
إنّ ما يرشح من كل فصل في هذا البحث يؤكد أن المواجهة لا تُختزل في أداةٍ واحدة. فلا القانون وحده قادرٌ على صدّ الكراهية إن بقيت مناهج التعليم تكرّر الأساطير ذاتها، ولا المدرسة وحدها قادرة على تفكيك الأسوار إن ظلّت المجاعة والبطالة توزّع الخوف بالتساوي. لذلك يبدو مشروع كسر التعصّب أقرب إلى مشروع إعادة بناء العقد الاجتماعي من جذوره: عقدٌ يرى أن الحقوق لا تمنحها الطائفة بل يضمنها دستورٌ عادلٌ محميٌ بقضاءٍ مستقل. عقدٌ يجعل المدرسة ساحةً حرة للنقاش لا مصنَعًا لإنتاج الولاءات العمياء. عقدٌ يربط الرزق بالكفاءة لا بالانتماء، ويجعل الإعلام نافذةً للمشترك الإنساني لا بوقًا يُضخّم الكوابيس.
في ختام هذا المسار يظلّ السؤال مفتوحًا أكثر من أي إجابة: هل يملك البشر شجاعة كافية ليكونوا أوسع من غرائزهم القديمة؟ هل يستطيعون، في زمنٍ تتكاثر فيه الشاشات والمنصّات والحدود الرقمية، أن يصنعوا مساحةً من العيش لا تحتاج إلى تحصينات الهويّة المغلقة؟ أم أن التعصّب سيظل دائمًا احتياطيًا باردًا جاهزًا للاستدعاء كلّما ضاقت الموارد أو انهارت الثقة؟
ربما يكمن الجواب في تفاصيل صغيرة. في كلمة مُعلّمٍ يصحّح خطأً شائعًا عن المختلف. في نصٍّ قانوني يُطبّق بعدلٍ بلا تمييز. في برنامجٍ إعلاميٍّ يُعيد صياغة الخيال الشعبي ليُشبه إنسانًا لا طائفة. وربما يكمن في فلسفةٍ فردية يتبنّاها كلّ واحدٍ فينا حين يختبر أسهل اختيارٍ على الإطلاق: أن يرى في الآخر ظلّه لا خصمه.
إنّ هذه الدراسة، بكل ما فيها من تحليلٍ وتشريحٍ واستدعاءٍ للتاريخ والنظرية، تظل دعوةً مفتوحة لأن نفكّر مرّةً أخرى: لعلّ الكرامة التي يحرسها العدل ويتشاركها المختلفون هي وحدها التي تهزم طوفان الدم، وتكسر طغيان الأسوار، وتؤكّد أن الإنسان لم يُخلق ليعيش في قفصٍ ضيّق اسمه القبيلة، بل في أفقٍ مفتوح اسمه العالم.

***

المراجع:
أ: قائمة المراجع والمصادر العربية:
الجوهري، محمد علي. الطائفية وأثرها على وحدة المجتمع العربي. القاهرة: دار النهضة العربية، 2015.
مصطفى، أحمد عبد العظيم. الهوية الدينية في المجتمعات العربية: دراسة في أسباب التعصب والتطرف. بيروت: دار الفكر، 2018.
الزيات، سامي. الصراع الطائفي بين الدين والسياسة: دراسة تحليلية. عمان: دار الفكر المعاصر، 2017.
الشاطر، محمد. علم النفس الاجتماعي للعنصرية والتعصب: دراسات معاصرة. القاهرة: المركز العربي للنشر، 2016.
عبد السلام، عبد الرحمن. السياسة والهوية في الوطن العربي: قراءة في الأزمات الطائفية. بيروت: دار الحداثة، 2019.
عبد الوهاب، يوسف. الطائفية في التاريخ الإسلامي: جذورها وتطوراتها. بغداد: دار الكتب العلمية، 2014.
الحسين، فاطمة. المجتمع والفرقة: قراءة في أسباب التمزق الاجتماعي. القاهرة: دار المعارف، 2012.
ناصر، هيثم. العدالة والهوية: أبعاد قانونية وسياسية. عمان: دار الفكر، 2020.
الخطيب، سمير. الحقوق والحريات في التشريعات العربية: دراسة مقارنة. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017.
كمال، رائد. الدين والسياسة في المجتمعات العربية: بين التعصب والاعتدال. القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 2015.
الشناوي، أحمد. الخطاب الإعلامي وأثره في تأجيج الطائفية. القاهرة: دار الثقافة للنشر، 2018.
العبادي، ندى. التربية على المواطنة وأثرها في الحد من التعصب الطائفي. بغداد: دار الجرح، 2019.
ناصر، محمد. النزاعات الطائفية في الشرق الأوسط: دراسة في أسبابها وحلولها. بيروت: دار العلم للملايين، 2016.
الرفاعي، سامي. العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية: تجربة دولية وتطبيقاتها العربية. عمان: دار الفكر، 2021.
عبد المجيد، حسام الدين. الفكر السياسي في الإسلام: بين الهوية والاندماج. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 2014.
زكي، فؤاد. الهوية الوطنية ودورها في تحقيق الوحدة الوطنية. القاهرة: دار الفكر العربي، 2013.
صبحي، جمال الدين. الفلسفة السياسية المعاصرة: مفاهيم وحركات. بيروت: دار الطليعة، 2017.
القاضي، هشام. المجتمع المدني وأثره في تقوية الوحدة الوطنية. القاهرة: المركز العربي للأبحاث، 2019.
المنشاوي، عادل. التسامح الديني والمواطنة: قراءة نقدية. القاهرة: دار الفكر المعاصر، 2018.
مصطفى، جمال. الدين والعنف: قراءة في الطائفية المعاصرة. بيروت: دار النهضة، 2020.

ب: قائمة المراجع والمصادر الأجنبية:

Tajfel, H., & Turner, J. C. (1979). An integrative theory of intergroup conflict. In W. G. Austin & S. Worchel (Eds.), The social psychology of intergroup relations (pp. 33–47). Monterey, CA: Brooks/Cole.
Durkheim, É. (1912). The Elementary Forms of Religious Life. New York: Free Press, 1995 (Translation).
Bar-Tal, D. (1996). A Social-Psychological Perspective on Peace and Conflict: The Israeli-Jewish Case. In D. Bar-Tal & E. Staub (Eds.), Peace and Conflict: Theoretical and Empirical Contributions (pp. 19–36). Cambridge University Press.
Haidt, J. (2012). The Righteous Mind: Why Good People Are Divided by Politics and Religion. New York: Pantheon Books.
Said, E. W. (1978). Orientalism. New York: Pantheon Books.
Smith, A. D. (1991). National Identity. University of Nevada Press.
Anderson, B. (1983). Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism. London: Verso.
Girard, R. (1986). The Scapegoat. Baltimore: Johns Hopkins University Press.
Fukuyama, F. (2018). Identity: The Demand for Dignity and the Politics of Resentment. New York: Farrar, Straus and Giroux.
Miller, D. T., & Prentice, D. A. (2016). Psychology and Law. Annual Review of Psychology, 67, 87–109.
Kelman, H. C. (2008). Reconciliation from a Social-Psychological Perspective. In Y. Bar-Siman-Tov (Ed.), From Conflict Resolution to Reconciliation (pp. 27–44). Oxford University Press.
Kelman, H. C. (1999). The Interdependence of Israeli and Palestinian National Identities: The Role of the Other in Existential Conflicts. Journal of Social Issues, 55(3), 581–600.
Rawls, J. (1971). A Theory of Justice. Cambridge, MA: Harvard University Press.
Habermas, J. (1996). Between Facts and Norms: Contributions to a Discourse Theory of Law and Democracy. Cambridge, MA: MIT Press.
Lijphart, A. (1977). Democracy in Plural Societies: A Comparative Exploration. New Haven: Yale University Press.
Fanon, F. (1961). The Wretched of the Earth. New York: Grove Press.
International Covenant on Civil and Political Rights (ICCPR). (1966). United Nations Treaty Series, vol. 999, p. 171.
Convention on the Elimination of All Forms of Racial Discrimination (CERD). (1965). United Nations Treaty Series, vol. 660, p. 195.
United Nations General Assembly. (1948). Universal Declaration of Human Rights, Resolution 217 A (III).
Minow, M. (1998). Between Vengeance and Forgiveness: Facing History after Genocide and Mass Violence. Boston: Beacon Press.
Tilly, C. (2003). The Politics of Collective Violence. Cambridge University Press.
Snyder, J., & Vinjamuri, L. (2003). Trials and Errors: Principle and Pragmatism in Strategies of International Justice. International Security, 28(3), 5–44.
Boix, C., & Posner, D. N. (1998). Social Capital and the Consolidation of Democracy. American Journal of Political Science, 42(3), 524–538.
Nussbaum, M. C. (2011). Creating Capabilities: The Human Development Approach. Harvard University Press.
Gurr, T. R. (1970). Why Men Rebel. Princeton University Press.



#مالك_مجباس (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غزة، حين تصير الأرضُ مقبرةً للريح
- رصاصةٌ للبحر.. ووردةٌ للدم
- توراتهم الملوّثة وخرائطنا المحترقة: في ظلال الحرب الأخيرة
- خرائط الدّم: من النكبة إلى النسيان
- الدولة الدينية: حين يتخذ القمع وجه الإله


المزيد.....




- المتحدث باسم حركة فتح: تصور اليوم التالي للحرب بغزة أصبح خطة ...
- المؤتمر اليهودي المناهض للصهيونية يدعو إلى طرد إسرائيل من ال ...
- التصوف بالحبشة.. جذور روحية نسجت هوية الإسلام في إثيوبيا
- ماليزيون يطالبون حكومتهم بعدم قبول سفير أميركي يهاجم الإسلام ...
- من هو حكمت الهجري الزعيم الروحي لطائفة الموحدين الدروز؟
- نتنياهو أبلغ بابا الفاتيكان بقرب التوصل لاتفاق لإطلاق الأسرى ...
- تردد قناة طيور الجنة الجديد على كل الأقمار الصناعية بجودة عا ...
- بعد استهداف الكنيسة في غزة.. اتصال بين البابا ونتنياهو ووفد ...
- قادة مسيحيون في زيارة -نادرة- للكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في ...
- الفاتيكان يكشف ما قاله البابا لاوُن لنتنياهو حول الكنيسة في ...


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مالك مجباس - التعصّب والطائفية: الجذور النفسية والاجتماعية والدينية والفلسفية — دراسة تحليلية مقارنة