محمد الشهاوي
(Muhammad Alshahawy)
الحوار المتمدن-العدد: 8403 - 2025 / 7 / 14 - 00:42
المحور:
الطب , والعلوم
"عندما تكون النظرية مُصابة بالهشاشة، والممارسة مثقوبة بالفشل، والتشخيص مبنيًا على كلام، والعلاج مُقررًا بالفهلوة، وغياب المعايير في صالح المعالج اثباتًا لمرضه بمعالجته!"
الطب النفسي، رغم ضرورته كفرع طبي يتعامل مع معاناة الإنسان العقلية والعاطفية، لا يخلو من نقاط ضعف بنيوية وعملية تثير انتقادات متزايدة من باحثين وفلاسفة وعاملين في الصحة النفسية. إحدى أبرز نقاط الضعف تكمن في غياب المؤشرات البيولوجية القاطعة لمعظم الاضطرابات النفسية؛ فعلى عكس فروع الطب الأخرى التي تعتمد على فحوصات مخبرية أو تصويرية لتشخيص الأمراض، يستند الطب النفسي غالبًا إلى تقييمات سلوكية وتقريرية خاضعة للتأويل، مما يفتح الباب لاختلافات كبيرة في التشخيص بين الأطباء، ويطرح أسئلة جوهرية حول مصداقية التصنيفات المعتمدة في دليل DSM أو ICD. هذه التصنيفات ذاتها تُتهم بأنها قائمة على توافقات اجتماعية ومهنية لا على ركائز علمية موضوعية، مما يجعل بعض ما يُوصف بالاضطرابات النفسية محل جدل فلسفي وعلمي وأخلاقي. المفارقة المؤلمة أن كثيرًا من الأطباء النفسيين، رغم هذا الاضطراب المعرفي البنيوي في مجالهم، يتعاملون مع المريض بغطرسة فكرية وسلطة خطابية تُوحي بيقين علمي غير موجود، وكأن لسان حالهم: "أنا المعالج، وأنت المريض"، بينما هم غالبًا لا يعرفون حتى ما الذي يجعل من شخص ما مريضًا وآخر سليمًا. فهم عاجزون عن تحديد حدود "الطبيعي" بدقة، ويجهلون الأسس الإبستمولوجية التي تجعل من "الاضطراب" اضطرابًا، في ظل غياب أي أداة قياس حقيقية. لا يوجد مقياس موضوعي أو اختبار معملي يُحدد وجود "مرض نفسي" كما يحدث في باقي فروع الطب، ورغم ذلك يمارس الطبيب سلطته وكأنها قائمة على حقائق لا يُرقى إليها الشك.
وتكمن إحدى أخطر مشكلات الطب النفسي في مستويات الفشل الذريع التي تظهر جليًا في غالب الحالات، حيث تتكرر الانتكاسات، وتستمر المعاناة دون تحسن ملحوظ، في ظل وصفات دوائية روتينية وحوارات علاجية نمطية لا تنفذ إلى جوهر الأزمة. المرضى يتنقلون بين التشخيصات المتناقضة، ويتناولون أدوية متضادة التأثير، ويُحمَّلون في النهاية مسؤولية "عدم الاستجابة"، وكأن العطل فيهم لا في المنهج المعالج. الحالات المعقدة مثل الاكتئاب المقاوم، الفصام المزمن، اضطراب الشخصية الحدية، والقلق العام، كثيرًا ما تواجه جدار العجز، حيث تَفتُر الحيلة العلاجية، وتتحول الاستشارة إلى تكرار باهت لعبارات الدعم والتهدئة. وغالبًا ما يُقابل الفشل السريري بجدار من الإنكار المهني، أو تحميل المريض مسؤولية تعثّر العلاج، بدلًا من الاعتراف بحدود المعرفة العلاجية في هذا الحقل المتذبذب. إن الفشل في الطب النفسي ليس عرضيًا، بل يبدو منهجيًا؛ فالعلاج لا ينجح غالبًا إلا في الحالات الخفيفة ذات الطبيعة التكيفية، بينما الحالات الأكثر عمقًا وتعقيدًا تواجه تكرارًا دوريًا للألم، والعزلة، والتوصيفات التي لا تضيف فهمًا ولا شفاءً.
من ناحية أخرى، يعتمد كثير من الطب النفسي على نظريات لا يمكن اختبارها تجريبيًا بسهولة، مثل التحليل النفسي أو بعض نماذج العلاج السلوكي المعرفي، مما يثير إشكاليات على مستوى المنهج العلمي. كما أن التداخل بين الأيديولوجيا والعلم في هذا المجال واضح، حيث تلعب القيم الثقافية والاجتماعية دورًا في تعريف ما يُعدّ "سلوكًا منحرفًا" أو "شذوذًا نفسيًا"، ما يفتح المجال أمام التحيز وسوء التصنيف. أما الاعتماد الكبير على الأدوية النفسية، فغالبًا ما يتحول إلى مجرد تخدير كيميائي للمعاناة، دون الغوص في جذورها النفسية أو الاجتماعية أو الوجودية، مع ما يرافقه من آثار جانبية واعتمادية مزمنة. هذا دون أن نغفل العلاقة المشبوهة بين شركات الأدوية وبعض الجهات البحثية، حيث تتحول المعاناة البشرية إلى سوق تُدرّ الأرباح. كما أن الطب النفسي لم يكن دومًا حليفًا للحرية، بل استُخدم في أزمنة ومجتمعات مختلفة كأداة قمع لترويض المخالفين وتبرير العزل والإقصاء تحت مسمى "العلاج".
وفي خاتمة هذا العرض النقدي، لا يمكن تجاهل المفارقة المؤلمة التي تكشفها الإحصاءات الحديثة، حيث تشير الدراسات إلى أن نسبة كبيرة من العاملين في الطب النفسي أنفسهم يعانون من اضطرابات نفسية، وغالبًا ما تفوق هذه النسبة تلك الموجودة لدى عامة الناس، بل وحتى لدى المرضى غير المعالجين. بعض التقديرات تضع نسب الاكتئاب والقلق ومحاولات الانتحار بين المعالجين النفسيين في معدلات مقلقة تتجاوز 40% في بعض الفئات، مما يطرح تساؤلًا وجوديًا عميقًا: كيف يمكن لمعالج أن يساعد الآخرين وهو عاجز عن اتزان ذاته؟ وكيف يُمنح خطاب السلطة العلمية لمن يفتقر إلى أدوات القياس، ويمارس يقينًا لا يستند إلى أساس؟ إن الجهل المؤسف الذي يغلف كثيرًا من الممارسات في هذا المجال، والغطرسة غير المسنودة التي يتبناها بعض المعالجين، تكشف أن الحاجة الحقيقية ليست فقط إلى علاج المرضى، بل إلى مساءلة عميقة وجذرية للبنية المعرفية والأخلاقية للطب النفسي نفسه، لئلا يتحول من طبٍّ للروح إلى جهاز إقصاء بيد الجهل المقنّع بلغة العلم.
غير أن النقد، إذا أراد أن يكون بنّاءً، لا ينبغي أن يكتفي بالتفكيك، بل عليه أيضًا أن يطرح بدائل ومداخل إصلاحية. من بين الحلول الممكنة، تبرز الحاجة إلى مراجعة جذرية وشاملة للمعايير التشخيصية، بحيث لا تُبنى على تصويت لجان مغلقة بل على دراسات علمية متعددة التخصصات، تُشرك علماء الأعصاب، الفلاسفة، علماء الاجتماع، والمشتغلين في مجال الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة. كما ينبغي تطوير أدوات تشخيص كمية وموضوعية، تُقارب ما هو معمول به في سائر فروع الطب، بحيث لا يبقى التشخيص رهينًا لانطباعات شخصية وتقديرات مرنة. من جهة أخرى، لا بد من فرض الشفافية على العلاقة بين شركات الأدوية والمؤسسات البحثية، وتشجيع التمويل المستقل للأبحاث النفسية، حتى لا تُدار المعاناة البشرية كمنتج تجاري. كما يُستحسن أن يُعاد تأهيل الأطباء النفسيين نفسيًا وثقافيًا، لا فقط طبيًا، من خلال برامج تدريبية إلزامية تشمل الوعي الذاتي، النقد الفلسفي، والجانب الإنساني في العلاقة العلاجية، مما قد يخفف من غطرسة "المعالج العارف" ويفتح المجال لحوار متبادل يليق بكرامة المريض. ومن الضروري أيضًا تبنّي نموذج علاجي أكثر شمولية يدمج بين الطب النفسي، والتحليل النفسي، والعلاج الوجودي، والدعم الاجتماعي، بدل الحصر في أنماط نمطية ضيقة.
أخيرًا، قد يكون الوقت قد حان لإعادة التفكير في معنى "الصحة النفسية" نفسها، ليس كامتثال لمعايير اجتماعية مسبقة، بل كقدرة الإنسان على منح معنى لمعاناته، والتعبير عنها دون قمع، والعيش رغم تناقضاته لا بمحاولة إزالتها كأعراض مرضية، بل بفهمها كجزء أصيل من التجربة الإنسانية. هكذا فقط يمكن للطب النفسي أن يستعيد شرعيته الأخلاقية والمعرفية، ويصبح أداة لتحرير الإنسان، لا أداة لإخضاعه باسم "العلاج."
#محمد_الشهاوي (هاشتاغ)
Muhammad_Alshahawy#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟