أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - الطيب عبد السلام - هذه لغتي ومعجزتي














المزيد.....

هذه لغتي ومعجزتي


الطيب عبد السلام
باحث و إعلامي

(Altaib Abdsalam)


الحوار المتمدن-العدد: 8393 - 2025 / 7 / 4 - 22:14
المحور: قضايا ثقافية
    


منزل العربي الفخيم: الكلمة

ليس لدى العربي ما يقدّسه سوى الكلام.
فأرضه بيداء وجبال، وبيته خيام وعراء. لا صلة مادية بينه وبين الأبدية، لا معبد من حجر، ولا نهر يتجدد، ولا موسم مطير يشدّ الحواس إلى دورة الطبيعة. حياته فرارٌ دائم وهجماتٌ مباغتة: قتل أو سبي، لا طين يسند الجذور، ولا ظلّ يُعيد الطمأنينة. في ذلك الجحيم المنبعث من الأرض والساقط من السماء، لم يجد العربي ما يربطه بالخلود سوى حديثه مع الأبدية — وحيًا كان، أو شعرًا، أو إلهامًا.

الكلام، إذن، هو منزل العربي الفخيم، البيت الذي يسكنه في حضوره وغيابه، في حله وترحاله. هو المأوى حين لا مأوى، والمعبد حين لا قدس، واليقين حين لا يقين. لفظه امتزج بالمعنى كما يمتزج الحلم بالمتمنّى، لذلك تفنن فيه، ونوّع، ووسّع، وصقل.
تعددت الألفاظ لمعنى واحد بتعدد الظلال، كما تتعدد أدوات الجراح الدقيقة أو أواني الطهي لدى أمٍّ خبيرة — تعدد الغنى والامتلاك والوفرة المعنوية.

قال محمود درويش في قصيدته "قافية من أجل المعلّقات"، هذا النشيد التوراتي للهوية العربية، ما يلخّص هذا الشعور في أبهى صوره:

> "هذه لغتي ومعجزتي. عصا سحري.
حدائق بابلي ومسلّتي، وهويتي الأولى،
ومعدني الصقيل
ومقدّس العربي في الصحراء،
يعبد ما يسيل
من القوافي كالنجوم على عباءته،
ويعبد ما يقول..."



فالكلمة إذًا، لدى العربي، ثمينة كقداسة الأولياء في السودان، أو الحسين في بغداد، أو الشفاعة في مصر، أو أيقونات المسيح في روسيا، أو رثاء بيزنطة.
هي آياته ومعلّقاته وأحاديثه وعنعناته وسلاسل رواته — سلاسل الحاضرين الواقفين على مسرح الكلمة: مسرح الأبدية.

لم يُمنح العربي نعمة الغيم أو فيء الغابة أو جريان الأنهار، فاستعاض عن ذلك بمنح نفسه جريان اللغة، بنى وجوده لا على الأرض بل على الهواء، لا على المادة بل على اللفظ، لا على الأسوار بل على الصوت.

وحين كتب المعلقات، لم يكتب شعرًا فقط، بل نقش هويته في الفضاء، جعل القصيدة شاهدًا وقبرًا، سيفًا وحلمًا، نشيدًا وميثاقًا. كان الشاعر نبي القبيلة، وكان الحرف خيمتها الأخيرة. ولأن العربي يسكن في هشاشة المكان، فقد لجأ إلى صلابة المعنى، يصوغ من الهباء بيتًا، ومن الريح سطرًا خالدًا، ومن الفراغ منبرًا تعلو عليه نبرته.

كل ما كتبه لم يكن وصفًا للعالم، بل محاولة لإعادة بنائه على صورة الكلمة، لا على صورة الطين.
ولذلك، لم يكن المجاز ترفًا، بل ضرورة وجودية، وكان الإيجاز سلاحًا ضد الفوضى، والكناية حيلة النجاة من التعرية.

في زمن تُنقّب فيه الأمم عن آثارها في التماثيل والمعابد، ينقّب العربي في قصائده، يبحث عن ظلال صوته في صحراء الماضي.
في وقت تُزيَّن فيه القصور بأعمدة رخام، يُزيّن هو خيمته بالحكمة، يعلّق قصيدته لا ليقرأها، بل ليحرس بها اسمه، أصله، مصيره.

فهو يعرف، في قرارة ذاته، أن من ضاعت كلمته، ضاع وجوده.
وأن من سكت، سُحب من مسرح الأبدية.

وهكذا، لا يزال العربي، مهما ارتدى من حداثة، يحمل في داخله بدويًّا يحنّ إلى بيت الشعر، إلى فصاحة المعنى، إلى يقين العبارة. لا يزال يرى في الكلمة الوعد الوحيد الباقي وسط عالم سريع الزوال.
إنه، باختصار، لا يسكن الأرض.
إنه يسكن اللغة.



#الطيب_عبد_السلام (هاشتاغ)       Altaib_Abdsalam#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أزمة الشعر العربي المعاصر
- الإصلاح الديني بين المسيحية و الإسلام
- العقل و الوجود بين هايدغر و اركون
- الأفق الشعري
- نحو إصلاح الحركة الليبرالية السودانية
- تجدد المعني القرآني
- النبؤة
- ثورة الطبقة الوسطى و واقع ما بعد الثورة
- جامعة الخرطوم..المركز الثقافي الفرنسي و بالعكس.. كلام في الز ...
- من الاسلام الإستشراقي إلى الاسلام التاريخي
- اركون قارئا و مقرؤاً
- إستعراب السودان / حوار مع البروفيسير عبد الله علي إبراهيم
- المهدي السوداني
- تدوين تاريخ السودان المفقود
- السودان من حكم الفونج الأفارقة إلى حكم الجلابه العرب..قرأة ف ...
- القربان البشري بين الرؤية الإستشراقية و الرؤية النقدية
- ما هي الفلسفة؟ حوار جماعي مع خالد تورين
- محمود محمد طه بعيون محمد اركون / الإسلام السوداني و إمكان ال ...
- من شاعرية اللفظ إلى شاعرية المعنى.. نحو رؤية جمالية جديدة.
- تأملات في رحلة المعراج.. في تحيين المتخيل العربي


المزيد.....




- أمريكا: هبوط اضطراري لطائرة بملعب غولف.. ومصادرة كوكايين بقي ...
- سوريا.. عشائر الجنوب تعلق على بيان الرئيس أحمد الشرع
- سوريا.. أحمد الشرع يعلق على أفعال بعض الدروز في السويداء وال ...
- سوريا: الرئاسة تعلن وقف إطلاق نار -فوري- في السويداء وتدعو ك ...
- الشرع: سوريا ليست ميدانا لمشاريع الانفصال
- فريدريش ميرتس ..لماذا يشكر إسرائيل على قيامها بـ-أعمال قذرة- ...
- الاحتلال يوسع اقتحاماته بالضفة ويجبر فلسطينيين على هدم منازل ...
- لماذا لا تُصنّع هواتف -آيفون- في أميركا؟
- قوات العشائر السورية تدخل عددا من البلدات في محافظة السويداء ...
- القنبلة التي قد تعيد تفجير الصراع بإقليم تيغراي الإثيوبي


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - الطيب عبد السلام - هذه لغتي ومعجزتي