أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - ابراهيم ازروال - لوك فيري ونيتشه















المزيد.....


لوك فيري ونيتشه


ابراهيم ازروال

الحوار المتمدن-العدد: 8383 - 2025 / 6 / 24 - 02:47
المحور: قضايا ثقافية
    


بقلم : إبراهيم أزروال

ليس من السهل ،تقديم قراءة متسقة لفكر ونصوص وشذرات نيتشه ،واستنباط محاورها الرئيسية ،وتلافي بعض التأويلات السائدة ،رغم منافاتها ومجافاتها ،لفكر نيتشه ومقتضيات نظرته إلى العالم .إن نصوص نيتشه ،متسقة ومتناسقة ،وإن مالت أحيانا ،إلى الاستعارات والمجازات والكنايات والإشارات البعيدة ،ونأت عن الدقة الاستدلالية المعهودة في الفكر الفلسفي النسقي ( سبينوزا أو كانط أوهيغل مثلا).
المقاربات الثلاث لفكر نيتشه : -I
هناك ثلاث مقاربات ممكنة لفكر نيتشه ، حسب لوك فيري:
1-مقاربة تعتبر نيتشه استمرارا لفكر ونقدية الأنوار ولا سيما فولتير والموسوعيين (تقريظه لفولتير في" إنسان مفرط في إنسانيته"و"إرادة القوة " مثلا)؛
2-مقاربة تعتبر فكر نيتشه نقيضا نظريا وفكريا لفكر الأنوار(نقد نيتشه الحاد لكانط ) بالذات (جيل دولوز مثلا)؛
3-مقاربة هايدغر الذاهبة إلى اعتبار نيتشه مفكر التقنية بامتياز. إن عالم التقنية هو عالم العقل الأدائي، والإرادة المنزوعة الأهداف والغايات. تصير الإرادة بمقتضى العقل التقني، متمحورة حول الوسائل، دون الأهداف. ولا تبرز دلالة "إرادة القوة "، إلا إذا قرئت من هذا المنظور بالذات.
إن هذه المقاربات الثلاث، ملائمة ومتناسقة -إجمالا-مع فحوى فكر نيتشه حسب لوك فيري.
توجهات فكر نيتشه :-II
نقد العدمية: -1
إن مفهوم العدمية هو مفتاح فكر نيتشه ،حسب فيري .
إن العدمي، ليس هو الكلبي الرافض لكل القيم والمثل الميتافيزيقية و الفكرية والسياسية للمجتمع الحديث: التقدم والديمقراطية والثورة والاشتراكية وحقوق الإنسان والعلم والأمة ..إلخ ،بل هو –من منظور نيتشه –المقر برفعة هذه القيم ،وتعاليها على الواقع .تقر العدمية بأفضلية المثال على الواقع ،والطوبى على التاريخ المعاش و الماوراء على العالم المتعين.
خلافا لما يعتقد ،لا ينكر العدمي القيم ،بل يثبتها ويبرزها ضد الواقع المعقد والمركب والمنفتح على كل المنظورات عادة . لم تخلق المثل أو ماسماه نيتشه بالأصنام إلا لنفي الواقع وإنكاره.
(إن تقسيم العالم إلى "عالم حقيقي" و"عالم ظاهر " سواء على الطريقة المسيحية ، أو على طريقة كانط (الذي ليس في نهاية الأمر سوى مسيحي مستتر )،لا يمكن أن يصدر إلا بإيعاز من الانحطاط ، ولا يمكن إلا أن يكون علامة حياة آفلة...) -1-
إن العدمية، إذن، هي رفض الواقع باسم المثال أو الطوبى.
إن المثال، هو حصيلة القيم المضادة للإنسان من حيث هو كائن تراجيدي. ولذلك، فإن صاحب " أفول الأصنام " يروم الإطاحة بالأصنام، وكشف أقنعتها الصفيقة والكثيفة.
يسعى نيتشه جاهدا إلى تحرير الواقع من المثال، عبر تحطيم الأصنام، وإبراز معنى وقوة ومدلولات الواقع الأرضي والرضا بالمتاح هنا والآن.
(إن آخر ما يمكن أن يخطر لي أن أعد به هو "ّإصلاح" البشرية. كما أنني لن أشيد أصناما جديدة ؛ وليعلم القدامى ما الذي يجلبه الانتصاب على قدمين من صلصال .تحطيم الأصنام (وهذه كلمتي المفضلة للتعبير عن"المثل") هي حرفتي ،ذلك أنه بمجرد أن ابتدعت أكذوبة عالم المثل قد تم تجريد الواقع من قيمته ومن معناه ومن حقيقيته ... "العالم الحقيقي" و"العالم الظاهري" –أو بعبارة أكثر وضوحا : العالم المبتدع والعالم الواقعي ...) -2-
إن العدمي لا يتماهي مع المثال المتخيل ،إلا لينفي ويتنكر للواقع ،المركب ويتبنى العدمية في أصفى مظاهرها وتجلياتها. وبما أن نيتشه متشبث بالقيم الأرضية والدهرانية ، فإنه يهفو إلى نقد العدمية وتحطيم أصنامها ،باعتبارها إفقارا دلاليا وفكريا للعالم ،واستبعادا نسقيا لمعانيه ودلالاته العميقة.
حكمة المصالحة:-2
وبينما يمعن في تفكيك المثل والأصنام والأفكار النافية لعينية العالم وأرضية الإنسان، فإنه يؤسس لفكر مخالف، قائم على المصالحة مع الكائن أو على حب القدر. amor fati
إن التصالح مع الواقع والحاضر ومحبة الأرض، هما الترياق الشافي من آفات العدمية. لا يمكن التصالح مع الحاضر وامتلاك الحكمة، دون كسر أصنام العدمية القائمة في اعتباره.
ثمة مانعان يمنعان من تحصيل الحكمة، حسب نيتشه هما : الماضي والمستقبل.
(الرضى بالحياة ،وحتى بمشاكلها العويصة والشائكة ،إرادة الحياة التي تضحي في مرح بأشد نماذجها كمالا لفائدة خصوبتها التي لا ينضب لها معين –هذا كله هو ما أسميته الديونيسي ،ها هنا استشعرت وجود منفذ إلى نفسية الشاعر التراجيدي.) -3-
وقد أكد على هذه المصالحة الأنيقة مع العالم والأرض، في أكثر من مفصل من مفاصل كتابه الحكمي:"هكذا تكلم زرادشت".
(أرجوكم إخواني أن تضلوا أوفياء للأرض ولا تصدقوا من يمنيكم بأشياء فوأرضية. إنهم يدسون لكم السم سواء علموا ذلك أم جهلوه.إنهم يحتقرون الحياة ، وهاهم يحتضرون ،هؤلاء المتسممون الذين تعبت منهم الأرض ...) -4-
وبينما تميل العدمية إلى تعليق الواقع وتكثيف حجب القيم النافية لجدارة الحياة، فإن نيتشه ،يصر على إعادة بناء الوعي الوجودي ،من خلال نقض القيم العدمية ،والتوحد بالواقع وقواه والتوافق والتناغم مع إيقاعات الحياة وهبات الوجود وتدفقات ودفقات الكينونة.
محاور فكر نيتشه :-III
يمكن ،حسب لوك فيري ، توزيع فكر نيتشه على ثلاثة محاور كبرى :
النظرية: -1
يقدم نيتشه في الحقيقة نظرية مضادة ، لا نظرية نسقية متماسكة على غرار ما قدم ديكارت أو سبينوزا أو كانط أو هيغل أو ماركس .لقد أسس نيتشه ،نظرية مضادة عرفت بالجينيالوجيا ، تروم نقض وتفكيك ،مثاليات و أوهام الميتافيزيقا والأخلاق الأفلاطونية –المسيحية . تهتم الجينيالوجيا ،بالقيعان والأعماق والمضمرات والمخفي والمسكوت عنه واللامفكر فيه في كل فكر معلن .
يعتني الجينيالوجي بالغامض ،والمخفي واللاشعور أكثر ما يعتني بالواضح والظاهر والمرئي والشعور .
(ألا يكتب مؤلفاته بالضبط لحجب ما يخفي في أعماقه؟ بل إنه يشك حتى في كون فيلسوف من الفلاسفة يملك آراء "خالصة ونهائية"،ويتساءل عما إذا لم تكن وراء كل مغارة فيه مغارة أخرى ، تفتح على نحو أعمق،وتحت كل سطح عالم جوفي أكثر رحابة وغرابة وغنى ، وتحت كل الأسس وكل القواعد قعر سحيق للغاية . ) -5-
وعليه ،لا يتوجب النظر إلى كل حكم باعتباره حقيقة ، بل بما هو "عرض" أو" قناع" لعالم الحياة و"إرادة القوة ".
تعتني الجينيالوجيا ،بالكشف عن الخفايا والبواعث النفسانية والميتافيزيقية ،المحتجبة خلف "الأعراض" الظاهرة أي خلف أحكام القيمة وإرادة المعرفة.
ليس الواقع إلا نسيجا من القوى ؛وحين تجتمع هذه القوى ،فإنها تتصادى مع الحياة أو ما سماه نيتشه ب"إرادة القوة" .
لا تعني" إرادة القوة" ،عنده ،الرغبة في التسيد أو التسلط أو التملك أو الاستئثار بالخيرات أو بالمقامات ،بقدر ما هي إرادة منشغلة بتنمية ذاتها في المقام الأول .إن" إرادة القوة" هي بمعنى آخر " إرادة الإرادة" .لا تنشغل "إرادة القوة" بإرادة السلطة أو بنيل السعادة أو التقدم أو السؤدد ،بل بتكثيف قواها، وإنماء فعاليتها وتوسيع "مجالها الحيوي".
ليست أحكام القيمة، إذن ،" موضوعية"، ومنفصلة عن المصالح الحيوية لحاملها ومعتنقها. إن أحكامنا وملفوظاتنا وخطاباتنا، ليست إلا تعبيرات عن أحوالنا وهيئاتنا الحيوية، وليست وحدات أو كليات مجردة أو مستقلة أو منفصلة عن قوانا الحيوية.
ليست هناك أحكام "موضوعية" ومستقلة عن المصالح الحيوية للفرد. فكل الأحكام، وكل الملفوظات، والجمل الموظفة في سياقات التداول والتحاجج أو الكشف عن الذات وانشغالاتها واهتماماتها وهواجسها، ليست إلا تعبيرات عن الحالات والقوى الحيوية.
إن عالم نيتشه هو عالم يرصد التشظي والتفكك، وليس عالما مفعما بالانسجام والرونق والبهاء كما نرى عند الرواقيين ونيوتن وكانط.
(بالعكس ،لقد عاد العالم"مطلقا" لنا مرة أخرى :بحيث لن نستطيع أن نتجاهل إمكانية احتوائه على عدد لا يحصى من التفسيرات .مرة أخرى تتملكنا الرعشة الكبرى :-منذا قد يرغب إذن في تأليه غول هذا العالم المجهول ،محييا في الحين هاته العادة القديمة ؟ ) -6-
إن عالم نيتشه عالم فاقد للتناسق والانسجام والوحدة والنظام، وهو لذلك مختلف كليا عن عالم الإغريق المتناسق (عالم الرواقيين مثلا) ، وعن عالم المحدثين المتسم رغم كل شيء بكثير من التناغم والتوحد والتناسق ( عالم نيوتن أو كبلر أو كانط ).
ليس العالم –في الواقع - إلا نسيجا من القوى المتصارعة والمتعارضة؛ ولا معنى في اعتباره للبحث عن معقولية هذا الكاوس أو المتاه الكوني الممتد، أو لتسويغ ما لا يقبل التسويغ العقلاني كما يفعل العلماء و الفلاسفة المحدثون.
ثمة صنفان من القوى أو الغرائز والنزوات، حسب نيتشه :
القوى الارتكاسية ( (les valeurs réactives
إنها القوى المضادة للموجود والمقرر والمتفق عليه ،فهي تنفي وتبطل وتحد وتقصي وتميل إلى السلب .وبما أن البحث عن الحقيقة عن طريق الفلسفة أو العلم ،يبطل الأخطاء والأوهام والآراء الخاطئة ،ويصدر عن منهجية سلبية ،فإنه غرار للقوى الارتكاسية من منظور نيتشي.ويعد سقراط الغرار الأكثر تميزا،لمخاضات القوى المضادة والسلبية .
(إن ما يعتبر علامة انحطاط لدى سقراط، ليس الاضطراب الفوضوي للغرائز الذي كان قد اعترف به فحسب،بل كذلك تضخم ملكة الجدل وخبث الكسيح الذي يميزه.)-7-
تتجلى القوى الارتكاسية-حسب صاحب "أفول الأصنام"- في "إرادة الحقيقة" الموجهة للفلسفة والعلم على المستوى الثقافي والفكري ،وفي المثال الديمقراطي على المستوى السياسي.
تتميز القوى الارتكاسية ،بنزوعها إلى التحكم والتوسع والتمدد ، من خلال حذف أو تطويق أو الاعتراض ومجابهة القوى المعارضة لها.
ليست للطرائق والأساليب الجدلية، الرديئة وغير المهذبة في نظره قيمة كبرى، إذا قيست، بالذوق والمنطق الأرستقراطي.
(الشيء الذي يحتاج إلى أن نبرهن عليه لا يكون ذا قيمة كبيرة. (...)يكون عالم المنطق كالمهرج : يستمتع به الناس ، ولكنهم لا يأخذونه مأخذ الجد. وسقراط هو المهرج الذي تم حمله على محمل الجد ،فما الذي حدث بالضبط ؟.) -8-
كان انتصار الجدل والأساليب الجدلية والقيم السقراطية ، علامة على أفول وانهزام الذوق والمنطق الأرستقراطيين .
القوى الفاعلة.(les forces actives )
تتجلى القوى الفاعلة، البعيدة عن الدحض والإقصاء والمجادلة والمخاصمة، في الفن أكثر من الفلسفة والعلم. وثمة ترابط في فكر نيتشه بين الفن باعتباره التجلي الأكبر للقوى الفاعلة، والأرستقراطية والشغف بالعالم المحسوس والجسدي. خلافا للإنسان النظري، يقدم الفنان، الغرار المتفرد،"منظورات واعدة للحياة"، وقيما عالية بلا صخب جدلي أو مساجلة مدوية ،أو مناظرة مستعرة.
فبينما يمكن الجمع بين فنون مختلفة، المأتى والمنزع، بدون تسويغ أو تبرير أو جهد نظري، لا يمكن إثبات رأي فكري أو نظرية علمية، دون تفكيك الآراء والنظريات السابقة أو المخالفة أو المناقضة للرأي الجديد أو للنظرية العلمية المستحدثة(الدحضانية في العلم مثلا).وبينما يمكن إثبات صحة فيزياء نيوتن بالقياس إلى فيزياء ديكارت مثلا،فإنه لا يمكن التفكير في صواب المنجز الفني أوالموسيقي لشوبان بالقياس إلى المنجز الفني أو الموسيقي لباخ أو رافيل أو موزار.
لا يرفض نيتشه القوى الارتكاسية ،خلافا لما تظن بعض التفسيرات والتأويلات ،بل يلح على التحكم فيها ،وترتيبها بحيث تسهم في تكثيف الحياة وإغنائها.
تتمكن القوى الفاعلة، إذن، من التوسع والتمدد وفرض طابعها المخصوص، دون مجابهة أو تطويق أو حذف القوى الأخرى. وتتجلى القوى الفاعلة، في ميدان الفن، بصفة خاصة، وفي مسارات الأرستوقراطية، وتصوراتها" المقدسة" للعالم الحسي والفيزيقي.
يفرض الفنان ،في اعتباره ، القيم ويفتح منظورات وممكنات جديدة للحياة، دون جدال أو اعتراض أو تسويغ برهاني أو استدلالي، خلافا للإنسان النظري أي للفيلسوف أو العالم.
الإيطيقا : -2
لم يقدم "صاحب "جينيالوجيا الأخلاق" إيطيقا متناسقة على غرار ما قدم كانط في " نقد العقل العملي "،بقدر ما قدم إيطيقا مضادة ومناقضة للأنساق الأخلاقية السائدة في الثقافة الغربية .
ليس نيتشه –حسب فيري - فوضويا أو هيدونيا أو متمردا تواقا إلى التحرر عبر الفن والمخيلة والحساسية ومتع الجسد أو رومانسيا هائما في بيداء الحنين وبراءة الأشياء ،خلافا لتأويلات بعض مفكري الاختلاف والتفكيك.
تمثل الفوضوية ،لحظة اهتياج الأهواء وتصادمها وتنازعها وتمزقها،واندلاق الأهواء الحزينة.ولذلك فهي تضعف الحياة و"إرادة القوة". ليست الفوضوية ذروة الحرية ،أو نشوة الفرح ،أو صبوة اللذة ،بقدر ما هي ذروة انتصار القوى الارتكاسية.
يرفض نيتشه ،إذن، الفوضوية والهيدونية والتمرد الفرداني ،علاوة على الرومانسية .
(حين يطالب الفوضوي الساخط، باعتباره ناطقا باسم الطبقات المنحطة في المجتمع ،ب"الحق"وال"عدل"و"المساواة في الحقوق"،فإنه يفعل ذلك بدافع جهله، فهو لا يستطيع أن يدرك سبب معاناته ، ولا إلى أي شيء يفتقر ،أي إلى الحياة.) -9-
وبينما يمعن في نقض الفوضوية والهيدونية ،فإنه ينشئ نموذجه الأخلاقي القائم على تراتبية القوى في النفس. لا يمكن ،تخطي سلبية وانحطاط الأخلاق ،دون التحكم في القوى والأهواء ،وإقامة تراتبية صارمة بينها، والحيلولة دون تعارضها وتنازعها وتناهبها .فبفضل هذا النموذج ،سنتمكن ،في منظوره ، من تحقيق أقصى ما يمكن من القوة والفرح والبهاء .إن أخلاق نيتشه ،هي حسب لوك فيري ،أخلاق "الأسلوب الكبير " و"العظمة "و"الانتصار على العدو الداخلي".
من الضروري، الاحتفاظ بالقوى الإرتكاسية المنفعلة، وعدم إطراحها بالكلية ،وإلا سقطنا في مطبها ومهواها وفي رعونة الأهواء.
(لقد أعلنت الحرب على المثل الأعلى المسيحي الضعيف (وكذلك على ما يمت إليه بصلة حميمة)ليس بنية القضاء عليه . بل فقط لأضع حدا ، لطغيانه ،ولأهيئ الساحة لاستقبال مثل أعلى جديد ،مثل أقوى ...يعد استمرار المثل الأعلى في الوجود واحدا من تلك الأشياء المرغوبة أكثر : وإن لم يكن ذلك سوى بسبب المثل الأعلى الذي يريد إبراز قيمته بجانبه ،وربما فوقه – إذ يجب أن يكون له خصوم ،خصوم أشداء ،لكي يصبح قويا .) -10-
لا يتم للقوة أن تتفتح وأن توسع مداها وأن تزداد كثافة ورهافة وأناقة الحياة، إلا إذا تم تحقيق التناغم والانسجام وإقرار التراتبية بين القوى المتعارضة.
يقتضي "الأسلوب الكبير" تجميع القوى ،الارتكاسية أو المنفعلة والقوى الفاعلة أو الإيجابية وتحقيق الانسجام بينهما .
( إن"العظمة " –وهي كلمة لا لبس فيها لدى نيتشه ،وتعني دائما في استعماله التحكم في كل القوى – تتجلى في المصالحة ،والانسجام بين الإيجابي والضدي أو الارتكاسي ،وليس أبدا في رفض كلمة لفائدة أخرى .) -11-
من البين أن انهمام نيتشه بالفن الكلاسيكي ( الفن الكلاسيكي الفرنسي أو الحديقة الهندسية أو التراجيديا الإغريقية ... إلخ) ،راجع إلى استيفاء هذا الفن لشروط "العظمة" أو "الأسلوب الكبير ".يجسد الفن الكلاسيكي ،الانسجام والاتساق والتساوق والكثافة وتدفق القوة الحيوية .
ولا يمكن فهم كثير من مواقفه الناقدة لما يسميه بالانحطاط، دون أخذ تصوره لشرائط تحقق "العظمة " بعين الاعتبار.
وهذا ما يفسر كذلك اعتراضه على المثالية، وعلى الرهافة والمحبة الإنسانية الشاملة كما تتجلى في الموروث اللاهوتي والتاريخي المسيحي.
(المناداة بهذه المحبة الشاملة للإنسانية تعني،عند الممارسة ،تفضيل المرضى ،والفاشلين ،والمنحطين :وبالفعل ،لقد أهانت وأضعفت القوة، والمسؤولية .....)-12-
خلافا للمثل المخالفة والمتعالية على الحياة، فإن التوفيق والمصالحة بين القوى المتعارضة، مسايران أو منسجمان مع الحياة ومقتضياتها.
إن هذه المصالحة، هي المثال، المطابق للحياة ،حسب نيتشه،وهذا ما سماه ب"العظمة".
(لنفترض أن شخصا يحيا بشكل مكثف من أجل حب الفنون التشكيلية والموسيقى لدرجة أن روح العلم استخفه،وأنه تنبه الى استحالة إزالة هذا التناقض بالقضاء على إحدى هاتين القوتين وتطوير الأخرى تطويرا كاملا،حرا ،فإنه لن يتبقى له إلا أن يجعل من نفسه أثرا (monument)ثقافيا شاسعا حتى تسكنه هاتان القوتان ولو في طرفين متقابلين،في الوقت الذي تسكن فيه بينهما قوى أخرى موفقة ومصالحة ، متوفرة على قوة مرجحة تستخدمها ،عند الضرورة ،لتهدئ الصراع حين ينفجر.) -13-
ويقصد ب"العظمة "،في هذا المقام ، تحقيق القوى الحيوية ،المنسجمة والمتراتبة ،الكثافة والرهافة القصوى .لا مجال إذن لإقصاء ،القوى المنفعلة ،في فكر نيتشه ،القائم على ضرورة تحقق التراتب والانسجام والرهافة بين القوى المتعارضة. لا ينفي القوى المضادة، بالكلية، بل يطالب بترويضها وحسن تدبيرها والإفادة منها في تحقيق "العظمة " أو "الأسلوب الكبير".
لا تتحقق "العظمة " ،إذن ،إلا باندماج القوى الفاعلة أو الإيجابية والقوى المنفعلة وتفاعلها بانسجام.
ولابد في هذا السياق من استحضار مفهوم جوهري في فكر نيتشه ،هو مفهوم أو فكرة "إرادة القوة".
"إرادة القوة" هي "إرادة الإرادة" ،وليست إرادة السلطة أو السطوة أو الهيمنة،كما يعتقد عادة .
تمثل "إرادة القوة "المركزية في فكر نتيشه، إنطولوجياه أي رؤيته للكائن وماهيته حسب لوك فيري.
ينتصر نيتشه للكلاسيكية اليونانية والفرنسية ( النحت الإغريقي و مسرح كورناي والموسيقى الفرنسية مثلا)،وينأى عن عاطفية الرومانسية وعنفوان قواها المتصارعة ( رومانسية فيكتور هيجو مثلا ).كما يفضل الموسيقى الكلاسيكية الرياضية على الموسيقى الرومانسية والعاطفية ، ولذلك فهو يفضل موزار على شومان ،أو برامز وينأى كليا عن رتشارد فاغنر.
لا يقصي نيتشه ،حسب لوك فيري ،العقلانية الأخلاقية رغم نقده الحاد لكل رموزها وتجلياتها الفكرية الكبرى ،على الإطلاق ،بل يرى ضرورة استدماجها والتحكم فيها وتحقيق الانسجام بين كل القوى الحيوية للإنسان .
الحكمة أو نظرية الخلاص: -3
يقدم نيتشه حكمة "العود الأبدي" و ومعنى "المصالحة مع المصير"، باعتبارهما الركن الركين لكينونة غير عدمية.
إن نظرية "العود الأبدي" ،هي البديل النيتشي للميتافيزيقيا ؛فبعد تفكيك أصنام الميتافيزيقيا والعدمية ،وإعمال الجينالوجيا في جسد النظريات السائدة ،والكشف عن أخلاق اللاأخلاقي،فإنه ينبري لإبراز قوة ومتانة حكمة فكرة أو نظرية " العود الأبدي".
لقد منع الانشغال بالماضي والاعتناء بالمستقبل، من التصالح مع الحاضر، والإقرار بمزاياه وفضائله. فبفضل محبة الحاضر، يتمكن الحكيم، من امتلاك رصانة الفكر والشعور وينأى عن مواطن الاهتزاز والتحير الناتجة عن الحنين أو عن الرجاء وما ينتج عنهما من أوجاع وأعطاب وجودية .وبينما طالب شوبنهاور بالهروب من الواقع وعالم الإرادة والاحتماء بالفن والشفقة والنيرفانا ،فإن نيتشه ،يطالب بالتصالح مع العالم ومحبته ،والإقرار "ببراءة الصيررة ".
كلما تحرر الإنسان من الحنين والتذكر (الحنين إلى الماضي) والرجاء (التمني والتعويل على المستقبل وممكناته)، تمكن من التحرر من الأهواء الحزينة (الندم والإحساس بالذنب والخوف). وبفضل هذا التحرر من ثقل الحنين والرجاء، يصير بهيا يتمتع بالبراءة والمصالحة الهادئة مع العالم الراهن.
يقترب نيتشه كثيرا،حسب لوك فيري من باروخ سبينوزا ،وينأى بمسافات عن كانط وفلسفته الأخلاقية.
لا يتخطى الحكيم المشكلات، بالتماس البدائل في الفن والشفقة والنيرفانا البوذية ،كما يصنع شوبنهاور ، ولا بالفرار ومعاندة الإرادة ، بل بالقبول الكلي بالعالم والراهن والحياة .
لا تتحقق السعادة أو الغبطة، هنا، إلا بتحرير الحاضر من أثقال ومفاعيل الماضي والمستقبل.
تتجلى حكمة نيتشه ،حسب فيري ،في نظرية "العود الأبدي". لم يتمكن نيتشه بسبب المرض من استكمال وإحكام صياغة وتدقيق هذه الفكرة،الجوهرية في مساره الفكري .تتوخى هذه الفكرة تبيان أسس التمييز بين ما يمكن من العيش بهناءة ويوفر مقتضيات الحبور والتوافق الهنيء مع تحولات الحياة ،وما يولد الشقاء والبؤس والتمزق والتحير والتعاسة.
(ليست[فكرة العود الأبدي ] في العمق شيئا سوى معيار للتقييم، مبدأ للفرز والتمييز بين لحظات حياتنا الجديرة بأن تعاش والأخرى غير الجديرة بذلك.) -14-
يتمكن الحكيم من امتلاك الصفاء والهناء، بفضل ممارسته "الأسلوب الكبير"، وإتباعه فكرة "العودة الأبدي" وابتعاده الكلي عن كل ضروب الإحساس بالذنب.
نقد نيتشه :-IV
إن حكمة نيتشه مغرية مثل حكمة سبينوزا ،حسب لوك فيري.فمن البديهي ،أن يقبل المرء على حكمة تقوم على التصالح مع الحاضر وعلى محبة المصير،ونشدان الفرح والحب والهناءة ،وتجنب إكراهات أخلاق الواجب والأمر القطعي الكانطي والأهواء التعيسة أو الحزينة . إلا أن محبة الحاضر، تنطوي، حسب فيري ،على عطب جذري.إذ لا يمكن في اعتباره التصالح ،بأي وجه من الوجوه ،مع كل مواضعات الواقع .لا أحد من أتباع نيتشه تمكن في اعتباره من دحض وتفنيد "دليل الجلاد".
كيف يمكن التصالح أو محبة عالم، يعبق بالعنف والظلم والشراسة التمييز والعدوان والبربرية والوحشية؟
لا يمكن في اعتبار لوك فيري ،التقليل من وجاهة هذا الاعتراض على فكر نيتشه وسبينوزا ،كما يفعل كليمان روسيه.
تنهض المصالحة مع الواقع على تجنب الندم والرجاء ما أمكن ، ومحبة الواقع AMOR FATI ،وقبوله بكليته إن أمكن .
كيف يمكن قبول محبة العالم بإطلاق، وتنسيب أو التقليل من وجاهة وقوة "دليل الجلاد "؟ألا تقود هذه المحبة المتوهمة إلى الكلبية والتخلي عن الفعل وقبول العالم كما هو ؟
ألا تصير المصالحة، مثالا جديدا، يؤكد، من حيث لا يريد الحكيم، العدمية السائدة؟
إن متطلبات "محبة المصير" و"براءة الصيرورة" و"العود الأبدي" ، تعمل ،خلافا للمتوقع والمطلوب حسب منطق "محبة المصير" ،على تأجيج الأهواء الحزينة ، في مفارقة لا يستوعبها عشاق نيتشه مطلقا .

الهوامش:
1-فرديريك نيتشه،أفول الأصنام ،ترجمة : حسان بورقية ومحمد الناجي ، أفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، 2008،ص.28.
2-فريدريش نيتشه ، هذا هو الإنسان ،ترجمة :علي مصباح ، منشورات الجمل ،كولونيا /بغداد ،الطبعة الثانية 2006،ص.8.
3-(فريديريك نيتشه،أفول الأصنام ،ترجمة : حسان بورقية ومحمد الناجي ،ص.113.)
4-فريديرك نيتشه،هكذا تكلم زرادشت،ترجمة وتقديم : محمد الناجي ، أفريقيا الشرق ،الدار البيضاء ، 2006،ص.14.
5-فريديريك نيتشه،ماوراء الخير والشر، ترجمة : حسان بورقية ، أفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ،2006،ص.199.
6-فريدريك نيتشه،العلم المرح ،ترجمة وتقديم : حسان بورقية ومحمد الناجي ، أفريقيا الشرق ، الدار البيضاء،2000،ص.242.
7-(فرديريك نيتشه،أفول الأصنام ،ترجمة : حسان بورقية ومحمد الناجي ، 2008،ص17.
8-(فرديريك نيتشه،أفول الأصنام ،ترجمة : حسان بورقية ومحمد الناجي ، أفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، 2008،ص18.)
9-(فريدريك نيتشه،أفول الأصنام ،ترجمة : حسان بورقية ومحمد الناجي ، ،ص84.)
10-فريديريك نيتشه ،إرادة القوة –محاولة لقلب كل القيم ، ترجمة وتقديم : محمد الناجي ، إفريقيا الشرق ،الدار البيضاء ،2011،ص.321-322.
11-Luc Ferry, Sagesses d’aujourd’hui, J’ai lu 2016, page 147.)
12-فريديريك نيتشه ،إرادة القوة –محاولة لقلب كل القيم ، ترجمة وتقديم : محمد الناجي ،ص.112.
13-فريدريك نيتشه ، إنسان مفرط في إنسانيته –كتاب العقول الحرة ، الجزء الأول ، ترجمة: محمد الناجي ، أفريقيا الشرق ،الدار البيضاء ، 2002،ص.154.
14-(Luc Ferry, Apprendre à vivre, Flammarion, 2009, page :222.)


إبراهيم أزروال
أكادير-المغرب



#ابراهيم_ازروال (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حسن حنفي ونقد الاستشراق
- استجلاء الوعي في سينما المخرج محمد خان
- المعالجة الدرامية لقصة -أهل القمة- لنجيب محفوظ
- المعالجة الدرامية لقصة -الحب فوق هضبة الهرم - لنجيب محفوظ
- هادي العلوي والفكر الهندي
- التجديد اللغوي في - المعجم العربي الجديد - لهادي العلوي
- ورطات العلائق في فيلم -أربعاء الألعاب النارية - لأصغر فرهادي
- الإنسانية الانتقالية ونسيان تراجيديا الحياة والموت
- أشواق الذات في فيلم - أرض الأحلام - لداوود عبد السيد
- استشراف المستقبل وإشكاليات الحرية في فيلم -انفصال - لأصغر فر ...
- لمحات عن السيرة الذاتية للمختار السوسي -الجزء الثاني
- لمحات عن السيرة الذاتية للمختار السوسي الجزء الأول
- الذات والتاريخ في -رحلة من الحمراء الى إيلغ -لمحمد المختار ا ...
- نبيلة قشتالية –برتغالية في القصر السعدي بتارودانت
- الدراسات التراثية : إشكاليات المنهج والتداول
- إفريقيات -موانع المأسسة السياسية
- موزار والإشهار
- حكايات حارتنا : حكايات التوت والنبوت
- ميرامار : شخصيات باحثة عن موقف.
- معاصر السكر بسوس في عصر المنصور الذهبي . قراءة في (أخبار أحم ...


المزيد.....




- الحرائق الكارثية أتلفت أكثر من 30 مليون هكتار من غابات البرا ...
- إسرائيل وافقت على وقف إطلاق النار مع إيران.. هل تكون غزة الت ...
- سوريا.. انفجار دمشق يثير التساؤلات وسط فوضى أمنية وإعلامية م ...
- بزشكيان: إيران لا تسعى للسلاح النووي وسنحمي حقوقنا المشروعة ...
- قادمة من مخيم الهول.. الداخلية تكشف عن خلية -داعش- المتورطة ...
- سلطة في الظل.. هل حلّ -الشيخ- مكان الدولة في سوريا؟
- حدث أمني -حساس- في خان يونس.. مقتل وإصابة ما يزيد على 20 جند ...
- الحرب على إيران تعيد الليكود إلى الصدارة.. نتنياهو: العالم ش ...
- مساندة الجزائر لإيران: -مجازفة دبلوماسية- مع الولايات المتحد ...
- الخارجية الليبية تستدعي سفير اليونان للاحتجاج


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - ابراهيم ازروال - لوك فيري ونيتشه