أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد رباص - لوك باشلو يقرأ -الموجز الصغير للاإستطيقا- لمؤلفه الفيلسوف الفرنسي آلان باديو















المزيد.....

لوك باشلو يقرأ -الموجز الصغير للاإستطيقا- لمؤلفه الفيلسوف الفرنسي آلان باديو


أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)


الحوار المتمدن-العدد: 8371 - 2025 / 6 / 12 - 03:48
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يقول آلان باديو عن كتيبه "الموجز الصغير للاإستطيقا": إن الديداكتيكية، والرومانسية، والكلاسيكية هي الأنماط المحتملة للعقدة بين الفن والفلسفة، والطرف الثالث لهذه العقدة هو تربية الذوات، وخاصة الشباب. ما يميز قرننا الأخير (العشرين)، في رأيي، هو أنه رغم تشبعه بهذه الأنماط الثلاثة، إلا أنه لم يُنتج أي نمط جديد. وهذا يُفضي اليوم إلى نوع من فك الارتباط بين هذه الأطراف، وانفصالٍ مُحبط بين الفن والفلسفة، وانهيارٍ تامٍّ لما كان متداولًا بينهما: الموضوع الديداكتيكي. من هنا تنبع الأطروحة التي مفادها أن هذا الكتاب الصغير لا يعدو أن يكون مجرد سلسلة من الاختلافات: وفي ضوء هذا الوضع من التشبع والانغلاق، يتعين علينا أن نحاول اقتراح نمط جديد، وهو نمط رابع من الاتصال بين الفلسفة والفن".
من أجل تلقي التفاصيل الممتعة لما ورد ملخصا في هذا التقديم الجميل "للموجز الصغير.."، تعالوا معي، قرائي الأعزاء، نتابع ما كتبه عنه لوك باشلو:
إلى جانب شكلنة ودقة العمليات الوصفية، التي ساهمت البنيوية بشكل كبير في اعتمادها في جميع العلوم الاجتماعية، فرضت، طوعا أو كرها، نموذجا نظريا قائما على فرضية سوسير القائلة بأن اللغة هي نموذج جميع أشكال التعبير. لذا، فإنها تضع التأمل في الصورة مباشرةً ضمن إشكالية عامة تتجاوز بكثير مجرد ملاحظة البيانات والأعمال الأيقونية، مع خطر طمس خصوصيتها. فالصور، في الواقع، تُنسب إلى نظام خارجي عنها، هو اللغة، ولا تُفهم إلا من خلالها. وقد طورت جميع الدراسات التي تدّعي استنادها إلى السيميولوجيا والبنيوية هذا المفهوم، وقد كثرت منذ نشر كتاب رولان بارت "سيميولوجيا الصورة" (1964).
أحيى هذا الخيار بانتظام متخصصو الصور من جميع الأطياف (وينتر في مجالنا).
مهما كانت خصوبتها المُثبتة، لم تنجح هذه النظرية قط في كبح جماح سيل التساؤلات الذي يُثيره ظهور الصور في سياقات مُحددة. يبدو أن تنوعها وأصالتها وطبيعتها غير المتوقعة في كثير من الأحيان ووظائفها المُتعددة، بالنسبة لمعظم المهتمين بالصور، يتجاوز إلى حد كبير الحدود التي يفرضها النموذج اللغوي. ومع ذلك، كان لهذا الأمر فضل إبعاد خطاب الصورة عن إمبراطورية المقولات الفلسفية (إشكالية العلاقة بين الحقيقة والفن) التي كان غالبا منحصرا فيها. بين المقولات الفلسفية، الواسعة جدا التي لا تُدرك خصوصية إيقونوغرافيا، والنموذج اللغوي الضيق جدا الذي يسمح بما يبدو أساسيا بالهروب، ما هو المسار الجديد الذي يُمكن أن ينفتح؟
الطريق الرابع لآلان باديو
يطرح آلان باديو (1998) فكرةً في الفصل الأول من كتابه "الموجز الصغير للاإستطيقا"، وفي ما كتبته عن هذا النص، هناك إشاراتٍ إلى نظرياتٍ أخرى، أو مُكمِّلاتٍ، أو مُضاداتٍ لمقترحات باديو، وأمثلةٍ على ممارساتٍ أيقونيةٍ خاصةٍ ببلاد الرافدين. فيما يلي افتتاحية هذا النص:
"أعني بـ"اللاإستطيقا" علاقةً بين الفلسفة والفن، لا تدعي بأي حال، على افتراض أن الفن في حد ذاته مُنتجٌ للحقائق، جعله موضوعا للفلسفة. على عكس التأمل الإستيطيقي، تصف اللاإستطيقا الآثارَ الفلسفية الداخلية البحتة الناتجة عن الوجود المُستقل لبعض الأعمال الفنية." (باديو 1998).
لذا، يُعد الفن مُنتجا للحقائق، وهو، على الأقل، مُساوٍ للفلسفة. يُنتج الفن آثارًا فلسفيةً داخليةً بمجرد وجود بعض أعماله. العلاقة بين الفن والفلسفة، بحسب المؤلف، تتسم إما بالنبذ ​​أو بالولاء. ومن المثير للاهتمام ملاحظة أن الفن (وخاصة الصور) والفلسفة مرتبطان تاريخيا، منذ نشأة الفلسفة الغربية في اليونان. ويمكن تصور هذه الصلة بثلاث طرق: ديداكتيكية، ورومانسية، وكلاسيكية.
النمط الديداكتيكي
يُسند التمط الديداكتيكي للصورة دور التعليم. يجب أن تنقل الصورة حقيقةً مُكتسبة خارجيا. ويتحقق هذا النقل من خلال قوة التشابه الانتقالية، كما يُمكن للاستعارة، مثلا، أن تُساعد على فهم فكرة ما. ولكن يجب ألا تتجاوز وظيفتها هذا المستوى.
يجب أن يكون معيار الصورة هو التربية، لكن معيار التربية هو الفلسفة. وبالتالي، تكون الصورة تحت السيطرة لأن حقيقتها تأتي من الخارج، ولا يُمكن قياسها إلا من خلال تأثيرها على الجمهور.
النمط الرومانسي
يرى النمط الرومانسي في الصورة المظهر الوحيد القادر على إظهار الحقيقة. وهكذا، يُنجز ما لا تستطيع الفلسفة إلا الإشارة إليه. الصورة هي الجسد الحقيقي للحقيقة؛ وهي تُقابل استعارة معروفة في مجتمعاتنا (المسيحية) ، وهي استعارة المسيح. المسيح هو الصورة الحية، تجسد الله الآب على الأرض.
النمط الكلاسيكي
وأخيرا، خفف النمط الكلاسيكي من حدة التوتر بين النمطين السابقين: الحظر الديداكتيكي، الوظيفة الأداتية البحتة للصورة في خدمة التربية، والفلسفة بالتالي، والتمجيد الرومانسي. كان أرسطو هو صاحب هذا الاختزال. الصورة في حد ذاتها عاجزة عن قول الحقيقة، لكن هذه ليست مشكلة، لأن ذلك في النهاية ليس من وظيفتها. يتعلق الأمر بشيء آخر: التطهير، الذي يُمكن تعريفه بأنه تفريغ المشاعر في صورة انتقال إلى الشبيه.
لذلك، فإن معيار الصورة هو فائدتها في علاج آلام الروح. يترتب على ذلك أن دور الصورة سيكون، بلا شك، الإرضاء، وليس إنتاج الحقيقة. فالإرضاء لا يأخذ من الحقيقة إلا ما يُمكّن من إطلاق عملية التماهي، أي شظايا الحقيقة. الحقيقة، في الواقع، كيانٌ مُجرّد من كل حقيقة، لكن بعض جوانبها قد تجد موضع تطبيق في المخيال؛ موضع تطبيق عواطف أشكال الانتقال. وهذا ما يُسمى بالواقعية. ينبع السلام بين الصورة والفلسفة من الحد الفاصل بين الحقيقة والواقعية. فإلى جانب الصورة، تحتفظ الفلسفة بحقها في الحقيقة.
حالة بلاد الرافدين
لدعم هذه الأطروحة، يمكننا الاستشهاد بحالة بلاد الرافدين. بعد أن اضطررتُ إلى تناول وظيفة الصور في سياق بلاد الرافدين، وبعد دراسة العينات التي كانت بحوزتي بدقة بالغة، توصلتُ إلى استنتاج قريب من الوظيفة التطهيرية التي شرحها أرسطو، ولكن بطرقٍ ومساراتٍ تجاهلت عمدا النظريات الجمالية الكلاسيكية الكبرى. كان الأمر يتعلق بعينات من صور بلاد الرافدين تحمل الأختام الدائرية لنهاية العصر النحاسي، في وقت ظهور ما يُسمى بمجتمعات ما قبل الدولة.
في هذا السياق، تُعتبر الصور دائما إحدى نتائج حركة هيكلة اجتماعية واسعة. لكن دراسة متأنية لصور هذه الفترة واستخداماتها قادتني إلى افتراض أنها لم تكن نتيجةً بسيطةً لهذه الحركة فحسب، بل كانت بلا شك أصل هذه الحركة الهيكلية الاجتماعية. وأنها بدت، من خلال أدائها - أي من خلال طريقة استقبالها - وكأنها أصل ما يُسمى بالدولة أو ما قبل الدولة. كيف؟ لأنها تُشرك المُستقبِل في عملية إسقاط تُطلق التوترات الحتمية في أوقات الأزمات التي تُميز الهيكلة الاجتماعية. كيف تُطلق هذه التوترات؟ من خلال تنوع ما تكشفه، هل طلب إكمال رسالة تُعتبر ناقصة، أم إسقاط، أم تطهير؟ يُمكننا مُقارنة هذا الوضع بممارسة الاختبارات الإسقاطية، المُستخدمة كعلاج، والتي يقول بعض علماء النفس إنها تُعادل التحليل النفسي الحقيقي.
عارضت هذه الأطروحة الفكرة الأكثر شيوعا، وهي أن الوظيفة الأساسية للصور مطابقة لوظيفة اللغات الطبيعية، ألا وهي التواصل. وقد تعزز تأثير النموذج اللغوي أيضا بملاحظة نشأة الكتابة ثم توسعها في بلاد ما بين النهرين، والتي انتقلت، من طبيعية الصور التوضيحية إلى تجريد العلامات المسمارية، من التفسير المباشر للصورة إلى الفهم، رهنا بتعلم تدوين اعتباطي مُصمم لنسخ العبارات اللغوية.
لذلك، كان هناك ميل سريع جدا لمواءمة وظيفة الصورة مع وظيفة الكتابة، لسبب بسيط هو أن الأخيرة تنحدر من الأولى، وأن الكتابة تبدو بوضوح خاضعة للنموذج اللغوي. يمكن تصور ذلك في الكتابة الأبجدية الحالية، التي يجب أن تنقل عبارات لغوية، ولكن على مستوى تحليلي أساسي إلى حد ما، وهو أمر غير مقبول في مرحلة إعادة الكتابة الأيديوغرافية (الرمزية) في بلاد ما بين النهرين.
يرى آلان باديو، في كتيبه "الموجز الصغير للاإستطيقا"، أن القرن العشرين لم يفعل شيئًا سوى العودة باستمرار إلى الانحصار ضمن هذه الطرق الرئيسية الثلاثة في تنظيم الإنتاج الفني والتفكير فيه. وقد استولى، شيئا فشيئا أو تلقائيا، على هذه الأنماط بشكل متكرر ومنهجي لدرجة أنها أصبحت الآن مشبعة. وبالتالي، فإن جميع التفسيرات المقدمة تُنتج في النهاية دمجا، ضمن نفس المقولات، لأعمال مختلفة اختلافا واضحا. وباختصار، نحن ندور في حلقة مفرغة.
ما هو الوضع حاليا؟
من بين الحركات الفلسفية الرئيسية التي طبعت هذا القرن (العشرين)، يمكن إدراج الماركسية، والتحليل النفسي، والهرمينوطيقا الألمانية (هايدغر وعشاق كتبه، بل كل التيار الوجودي والفينومينولوجي) ضمن التوجهات المذكورة آنفا.
الماركسية، بلا شك، نظرية ديداكتيكية. لا داعي لتقديم أمثلة عن ذلك. فالإنتاج الفني، مهما كانت التقنيات المستخدمة، يضطلع بمهمة أساسية تتمثل في نقل مجموعة من الأفكار والتصورات، مذهب أقيم، بطبيعة الحال، خارج نطاق ممارسة هذا التخصص الفني أو ذاك.
التحليل النفسي، كما رأينا، كلاسيكي، إذ يحتفظ بدور التنفيس عن الذات من خلال وظيفة الصورة، من خلال تطبيق الإسقاطات والتماهي، بل إنه بُني حول استخدام هذه المفاهيم. ومن الطبيعي أن نفكر في الطوبولوجيا الفرويدية مع مراحل تطور تكوين الأنا في الطفولة المبكرة والدور الذي تلعبه فيها الصورة، واستحضار أسطورة نرجس، ومرحلة المرآة، إلخ..
لهذا المفهوم الكلاسيكي الأرسطي فعالية واضحة على المستوى الفردي والاجتماعي، إذ أنه يعزز جميع عمليات البناء أو التماسك الاجتماعي. ويمكن لنا أن نجد أمثلة عديدة على هذا الأداء في الإنتاجات المعاصرة والقديمة على حد سواء. وأخيرا، الهرمينوطيقا (هايدغر)، التي هي رومانسية في جوهرها لأن أقوال الشاعر والفنان والفكر الخالص للمفكر، في نهاية المطاف، لا يمكن التمييز بينها.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه القائمة لا تذكر البنيوية. على أي حال، فإن هذه الأخيرة، وكذلك الحركة السيميولوجية بأكملها، تحتوي بوضوح على جرعة كبيرة من الديداكتيكية، بقدر ما يشارك إنتاج الصور في إظهار بنيات تطورت خارج الممارسة الأيقونية وتشير إلى بنية شاملة للأداء الاجتماعي. سيكون هناك نحو حقيقي للأساليب والقواعد التي ترتبط ارتباطا وثيقا بقواعد أخرى تحكم أداء المجتمع. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن ارتباط هذه القواعد الاجتماعية المتعددة في ما بينها يستجيب لآلية لا تخضع لأي تحديد دقيق؛ لأنها تتجلى في البنية التي تتولد بشكل شبه تلقائي، في جميع قطاعات الحياة الاجتماعية، ولكن بطرق مختلفة.
يتعلق الأمر ببنيات البنيات، التي تؤدي إلى البنية الكبرى التي هي، في نهاية المطاف، المجتمع. إذا كان من الممكن وصف وتحليل البنيات-العناصر محليا - الصورة، الموسيقى، قواعد الزواج، النظام الاقتصادي - فإن المحرك الذي يخلق البنية الكبرى يظل مظهرا عفويا يبدو أنه ينبع من نوع من الميتافيزيقيا، قريبا من النمط الكلاسيكي.
النمط الرابع
لفهم إنتاج الصورة الآن، وربما بشكل أدق، كان من المناسب للمؤلف أن يقترح نمطا رابعا، وأن يفكر فيه بعيدا عن الجاذبية الفلسفية، تماما كما سعت الهرمينوطيقا إلى التهرب من صرامة الأوصاف البنيوية والسيميولوجية الجافة نوعا ما (مؤخرا، يمكن لنا أن نستشهد أيضا بالميديولوجيا (علم الوسائط) عند ريجيس دوبريه، وهو عبارة عن سيميولوجيا تلتزم، بالفعل، التزاما صارما بالبرنامج البنيوي: الرسالة هي الواسطة).
لفصل الفكر عن الفن والفلسفة بنجاح، تفرض عملية أولى ذاتها: التخلص من إشكالية علاقة "صورة-حقيقة". مقولات هذه العلاقة هي المحايثة (الحقيقة داخلية في العمل) والتفرد.
في النمط الرومانسي، تكون الصورة بمثابة تجلّ للمحايثة. يكشف الفن عن الانحدار النهائي للفكرة (بالمعنى الأفلاطوني). إنه تجسيد مثالي لهذه الفكرة. لا يسعنا إلا الرجوع إلى نصوص أفلاطون، بل إلى الجدل الدائر حول الصور في بيزنطة، بما في ذلك إشكالية الأيقونات، واستعارة المسيح، إلخ..
من ناحية أخرى، لا تستجيب الصورة، وفقا لهذا التصور، لمبدأ التفرد في ما يتعلق بالحقيقة، لأن هذه الحقيقة هي نفسها التي تطورت لدى المفكر؛ فهي ليست فردية بأي حال من الأحوال.
في الديداكتيكية، الحقيقة ليست كامنة في الصورة، لأنها تأتي إليها من الخارج. فالصورة في الواقع ليست سوى وعاء لهذه الحقيقة القادمة من مصادر أخرى: أفلاطون، البنيوية، الماركسية. لكنها فريدة لأنها وحدها القادرة على عرض حقيقة، ولو جزئيا، على شكل شبيه. ولأن الحقيقة غالبا ما تكون بعيدة المنال عن عامة الناس، من خلال تشبيههم واستعارتهم، فإنها قادرة على نقل شيء من هذه الحقيقة التي كانت ستظل مخفيا لولاها (الصورة).
يجب علينا الآن تجاوز إشكالية الحقيقة هذه والاعتراف في إنتاج الصور بتزامن المقولتين اللتين تحددان ظهور الحقيقة: المحايثة والتفرد. طالما كانت إحدى هاتين الخاصيتين مفقودة، كانت الصورة تفتقر إلى الحقيقة، وبالتالي لا يمكن أن تخضع إلا لهذا النموذج.
ولكن إذا توصلنا إلى إدراك أن المحايثة والتفرد يتجليان بالتساوي وفي وقت واحد في الصورة، كما هو الحال في جميع الإنتاج الفني، فنحن الآن أمام تجل للحقيقة، لحقيقة الفن. وبالتالي، ستكون الصورة إجراءً للحقيقة في حد ذاتها، وفكرا لا يمكن اختزاله في حقائق أخرى، ولا سيما الحقائق السياسية والفلسفية.
وهنا يبرز السؤال: إذا كان الفن هو الإنتاج الأصيل للحقيقة، فما هي الوحدة ذات الصلة بهذا الإنتاج؟ هذه هي إشكالية المحدود واللانهائي.
بغض النظر عما تمت برمجته قبل قليل، يعتبر العمل الفني في جوهره شيء مكتملا، جزئيا، ومحدودا بدقة. وهذا لا يتوافق مع تعريف الحقيقة، سواءً كانت شاملة أو عامة أو كونية. لذا، فالصورة ليست حقيقة، بل هي مجرد حقيقة أيقونية، حقيقة فنية؛ أي عنصر من عناصر العملية المنسوجة، من شبكة من الحقائق الفنية والصور المتعددة. حقيقة الفن عملية مكونة من أعمال، لكنها لا يمكن أن تتجلى بشكل متكامل في أي منها. لذلك، يجب اعتبار الصورة مثالاً محلياً للحقيقة. هذه المثال المحلي، الذي يُنتج شظية من الحقيقة، يُطلق عليه باديو اسم "ذات" الحقيقة.
الأسلاف
بالنسبة إلينا، نحن الذين نواجه الحاجة إلى الإلمام بعينة من الصور، يترتب على ذلك أن الوحدة المعنية ليست الصورة المعزولة، مهما كانت صفاتها التقنية والجمالية، بل تكوين فني، مجموعة من الأعمال، من الصور. يجب أن يكون هذا التكوين تسلسلاً قابلاً للتحديد ولكنه يكاد يكون لانهائياً للأعمال التي تُكوّنه.
يمكننا أن نلمس شجاعة الفيلسوف في اتخاذ موقف يُغرق الفلسفة في أزمة، لدرجة أنه يُقصي جزءً هاما من برنامجها، بل جزءً جوهريًا: التفكير في العالم بكليته، بما في ذلك الإنتاجات البشرية والفنون والصور. ومع ذلك، يصعب فهم ما يُميز المسار الذي يُسميه "رومانسيا"، والذي يُصنف تحته تأويلات هايدغر، عن المسار الذي يقترحه.
ففي الإطار الرومانسي، يغيب التفرد في العمل الفني في علاقته بالحقيقة، لأن حقيقة العمل الفني ليست خاصة به، بل هي مطابقة لحقيقة المفكر، حقيقة متقاسمة، مشتركة، وبالتالي غير متفردة. وهذا بلا شك هو الحال عندما ننظر إلى الفن في شكل قصيدة فقط. ويُنظر إلى الشاعر هنا على أنه قادر على تمثيل جميع الفنانين.
ألا نرى، مرة أخرى، وبشكلٍ خفي، ظهور الدور المهيمن الممنوح للغة على جميع الإنتاجات الفنية؟ بنيويةٌ لا تُعلن عن نفسها كذلك. في الواقع، من الأصعب بالتأكيد التمييز بين "قول" الشاعر وقول المفكر، ولكن ربما ليس بين قول المفكر وقول صانع الصورة.
ضمن ما يتضح من تعريفه للهرمينوطيقا، تمنح الفيتومينولوجيا العملَ الفني، بحق، خصوصيةً لا تُضاهى وعلاقةً بالحقيقة، لا تختلف عن المسار الذي تُشير إليه لإنقاذ الإنتاج الفني من أي تأثير خارجي. يمكن لنا، بالطبع، الاستشهاد بالصيغ المتعددة التي تُزيّن نصوص ميرلوبونتي عندما يتحدث عن عمل الرسام. استحضار "الفكر في الصور"، و"الرسام الذي يُفكّر بيديه"، إلخ..
الفينومينولوجيا، التي كانت في أصل العديد من التحليلات الأيقونية، مثل تلك التي قدمها ميرلوبونتي، مثلل ("العين والروح"، "شك سيزان"، والنصوص التي جُمعت في "المرئي واللامرئي"، وحتى تلك التي قدمها هايدغر عن لوحة فان غوخ، "الحذاء"، في "الطرق التي لا تؤدي إلى أي مكان"، التي تناولها جاك دريدا، في "الحقيقة في الرسم"، إلخ..)، أثبتت الفينومينولوجيا أنه لا توجد بيانات مادية خالصة، خارج الفكر، ولكن هناك ارتباطا ثابتا بين أفعال الوعي (مثلا، الرؤية، الإدراك، التعرف) والأشياء التي تتعلق بها. يُطلق على هذا الارتباط اسم نويز (فعل الفكر)، ويُطلق على الشيء، كما يظهر في هذه الأفعال (بعد ترشيحه إذن بواسطة الوعي)، اسم نويم (فكرة). وبالتالي، فهو ليس شيئا خالصا في حد ذاته، ولكنه موجود في وظيفة إعطاء المعنى لأفعال الوعي.
تحديدٌ صاغه هوسرل (في "فينومينولوجيا الإدراك")، ولكن يُمكن تحديد مقدماتٍ له، أو "تنبؤاتٍ" كما يُمكن تسميتها، في العصور القديمة. هذا هو حال طقس فتح الفم في بلاد ما بين النهرين، الذي يقوم، لإحياء الإله المُمَثَّل بتمثال، بإجراء سلسلة من التلاعبات مصحوبةً بالصلوات، وإلا فإن هذا التمثال لن يُمثِّل شيئا، ولن يكون حيا، ولن يؤدي أي وظيفة. من الواضح أن هذا التراجع المُحفوف بالمخاطر لا يُراعي الصفة التشكيلية المُكتملة للتمثال. فهذه الأخيرة، بالمعنى الدقيق للكلمة، لا توجد إلا بعد الطقس. لذا، فإن تدخل ما تُسميه الفينومينولوجيا "أفعال الوعي" حاسمٌ في هذه الحالة. لم تعد مُشكلة التفرد قائمة، لأن الحقيقة ليست شيئا آخر غير حقيقة الوعي غير المنفصلة عن الموضوع الذي وُلدت معه.
المرجع: https://hal.science/hal-02074323v1/file/Cahier%20des%20the%CC%80mes_ArScAn_01%20Th04_%20Bachelot%20L._A%20propos%20du%20petit%20manuel%20d%27inesthe%CC%81tique%20de%20Alain%20Badiou.pdf



#أحمد_رباص (هاشتاغ)       Ahmed_Rabass#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لوك باشلو يقرأ “الموجز الصغير للاإستطيقا” لكاتبه الفيلسوف ال ...
- الرباط: مركز التوجيه والتخطيط التربوي يعيش جوا من الاحتقان ب ...
- لوك باشلو يقرأ “الموجز الصغير للاإستطيقا” لكاتبه الفيلسوف ال ...
- دونالد ترامب يتعامل مع المتظاهرين في لوس أنجلوس باستعمال الق ...
- الملك محمد السادس: “الاقتصاد الأزرق ليس ترفا بيئيا، بل ضرورة ...
- لوك باشلو يقرأ -الموجز الصغير للاإستطيقا- لكاتبه الفيلسوف ال ...
- إسرائيل تأمر جيشها بمنع السفينة الإنسانية (مادلين) من الوصول ...
- جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء ...
- جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء ...
- خلاف بين ترامب وماسك حول مشروع قانون الميزانية يعجل بالقطيعة ...
- ندوة بالرباط حول تبادل الكهرباء الخضراء وتكامل السوق بين الم ...
- السنون تمضي والذكريات تبقى
- جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء ...
- وجدة: شيوع اتهامات بتزوير شهادات المدرسة الوطنية للعلوم التط ...
- الدالاي لاما: العالم منغمس في القيم الخارجية ومجرد من القيم ...
- الجيش المالي يعلن إحباط هجوم مسلح على معسكر ومطار تمبكتو
- غزة: 30 قتيلاً وأكثر من 150 جريحاً في هجمات إسرائيلية على طا ...
- الأستاذة نبيلة بن أحود تسدي للموظفين الجدد نصائح هامة كي لا ...
- الشاعر حسن نجمي ينظر إلى النهر من بعيد ليستوحي منه كلماته
- جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء ...


المزيد.....




- نتنياهو: ضربنا رأس برنامج التسلح النووي الإيراني.. وندافع عن ...
- إسرائيل تعلن ضرب أهداف عسكرية ومنشآت نووية في إيران
- نتيناهو: نحن في لحظة حاسمة في تاريخ إسرائيل وبدأنا عملية -شع ...
- إذاعة الجيش الإسرائيلي: تل أبيب نفذت عمليتها في حي يقيم فيه ...
- الخارجية الأمريكية تحث رعاياها في منطقة الشرق الأوسط على توخ ...
- أنباء عن موجة هجمات جوية ثانية على مواقع في أنحاء إيران
- إيران تعلق جميع الرحلات الجوية في مطار الخميني بطهران
- ?-عملية شعب كالأسد-.. الجيش الإسرائيلي ينفذ هجوما استباقيا ل ...
- لحظة بلحظة.. الهجوم الإسرائيلي على إيران وتداعياته الإقليمية ...
- الجيش الإسرائيلي: إيران تستعد لغزو إسرائيل بريا ولهجوم من جم ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد رباص - لوك باشلو يقرأ -الموجز الصغير للاإستطيقا- لمؤلفه الفيلسوف الفرنسي آلان باديو