أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عزالدين محمد ابوبكر - القمر ، والتفكير القمري على الطريقة المصرية القديمة: بين الدورات الكونيّة والحكمة الرمزيّة















المزيد.....

القمر ، والتفكير القمري على الطريقة المصرية القديمة: بين الدورات الكونيّة والحكمة الرمزيّة


عزالدين محمد ابوبكر

الحوار المتمدن-العدد: 8366 - 2025 / 6 / 7 - 23:40
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لم يكن القمر في الحضارة المصرية القديمة مجرد جرم سماويّ ، بل كائن حيّ ، روحانيّ ، يتنفس عبر دوراته ، و يُرسل بـ إشارات رمزية تشي بعلاقات عميقة بين الكون والإنسان ، إن "التفكير القمري" ليس فقط نظرة إلى القمر كـ كوكب ، بل هو نمط تفكير ، وطريقة إدراك للزمن ، للخلق ، للموت ، وللأبدية ، وفي هذا المقال سوف أحاول كشف كيف ربط المصري القديم نفسه بالقمر ، لا كموضوع عبادة فحسب ، بل كمصدر للحكمة الكونية ، ولإعادة بناء الذات والكون معًا.

وفي مصر القديمة ، كان رصد القمر هو الأداة الاولى لقياس الزمن ؛ حيث أنه الجسم الظاهر في أغلب الليالي ، و الأكثر تحولاً في هيئاته وسرعة إكتمال دورته نسبياً ، وسهولة مراقبتها ، وهكذا أصبح العام ، والشهر ، والاسبوع ، كلهم مقترنين بمراحل القمر ، أما على المستوى الميثولوجي ، فإن القمر كان يمثل عين حور اليسرى ، وقد اقترن القمر ببعض المعبودات مثل المعبود چحوتي 𓅝𓏏𓏭𓀭 ، الذي أصبح مسؤولاً عن حساب الوقت وفقاً لمراحل القمر ، وقد كان للمعبود چحوتي هيئتين رئيسيتين ، الأولى وهي تمثيل لـ چحوتي برأس الأيبس (أبو قردان) وجسم إنسان ، أما الثانية فهي عندما يُمثل چحوتي بهيئة قرد البابون ، وفي هذه الهيئة يمثل معبود القمر نفسه.

و يُعد طائر أبو قردان رمزًا للمعبود چحوتي ، يعود تاريخه إلى فترتي ما قبل وبداية الأسرات ، وقد تم الإشارة إلى المعبود چحوتي في عدد من فقرات متون الأهرام ، وارتبط چحوتي بعدد من الآلهة مثل المعبود رع ، الذي كان چحوتي رفيقاً له في رحلته السماوية ، و خلال فترة الدولة القديمة نجد أن المعبود چحوتي لم يرتبط فقط بـ المعبود رع ؛ حيث ارتبط بـ المعبودين أوزير و حور ، و في سياق الميثولوجيات المصرية القديمة ؛ نجد أن چحوتي كان يمثل كـ رسول الآلهة و وسيط بين الارباب ، في مجمع عين شمس كما تخبرنا أسطورة الصراع بين حور و ستخ ، ومن النقطة السابقة يتضح لنا لماذا قارن اليونانيين بين چحوتي و هرمس رسول آلهة الأولمب عندهم.

وتجدر الإشارة إلى وجود معبود للقمر آخر غير چحوتي ، وهو المعبود خُنسو 𓐍𓈖𓇓𓅱 معبود القمر واحد أعضاء ثالوث واست (طيبة) ، الذي ظهر وانتشر صيته في عصر الدولة الحديثة ، و الاسم خُنسو يعني "المتجول" ، أو "مَن يجوب السماء" ، بـ إعتباره التجسيد الربوبي الكائن في السماء ، والاسم مشتق من الفعل خنس ، بمعنى "سافر عبر" أو "مر إلى" ، واسم خُنسو (الذي يعني المتجول) يُعد إشارة إلى عبور السماء ؛ حيث أن عبور السماء أمنية من أمنيات المتوفى ، لذلك فعندما يذكر المتوفى اسم خُنسو فهو يطلب العبور بواسطة الإله ، مثلما يفعل رع بـ چحوتي في متون الأهرام ، و للمعبود خُنسو عدة جوانب من شخصيته ، فهو المتعطش للدماء والقتل ، وهو الرحيم الذي يقوم بـ شفاء المرضى ، وهو حامي الأولاد ومحب السلام ، ويظهر المعبود خُنسو عادة بهيئة شاب داخل رداء محكم أبيض اللون ، و حاملاً لبعض رموز الملكية ، ويعلو رأسه الهلال والقمر ، و تتدلى من شعره خصلة شعر جانبيه.

وقد اقترن المعبود أوزير بالقمر ؛ حيث يتقاطع القمر مع فكرة الموت و الإنبعاث ، التي حدثت لأوزير بعدما قُتل وقطعت أوصاله ، لكن إست (ايزيس) أعادته للحياة ، وهذه الدراما الرمزية تتماهى مع مراحل القمر : التناقض ، والاختفاء ، ثم الظهور من جديد.
حيث يكون القمر رمزاً أوزيريًا ، يقوم بـ تذكير الفرد المصري بدورة الموت والبعث ، و أصبحت العقيدة الاوزيرية عقيدة راسخة في الديانة المصرية القديمة ؛ حيث أصبح الخلود مُمكنًا ، لكنه مشروط بالمعرفة والعبور الطقسي ، وقد كان الملك المتوفى يتمنى أن يقترن بالقمر ، بعد موته حتى يضمن لنفسه تجدد ولادته في العالم الآخر ، شأنه في ذلك شأن الشمس التي تولد في كل صباح من جديد ، والقمر الذي يولد كل شهر من جديد ، وتؤكد متون الأهرام تلك الفكرة ؛ حيث نجد الملك ونيس يتمنى أن يطوف في السماء ، مثلما يطوف رع (الشمس) و چحوتي (القمر) في السماء.

- التفكير القمري كـ نمط إدراك :

(الدورة مقابل الخطية) ؛ حيث يفكر المصري القديم وفق الزمن الدائري لا الخطي ؛ والزمن القمري يُعلّم الإنسان أن الحياة ليست سيراً من البداية إلى النهاية ، بل عودة وتكرار وتحول ؛ حيث يكون القمر مُعلمًا للصبر ، و الترقب ، و الوعي بالتحوّل البطيء ، و التفكير القمري يعني إدراك أن كل شيء يمر بدورات: الولادة ، النضج ، الإنحلال ، ثمّ الولادة من جديد.

وبخلاف الشمس ، المرتبطة بـ الإشراق والعقل الظاهر ، والقمر يُحيل إلى العقل الباطن ، الحلم ، الحدس ، والليل ، والتفكير القمري هو تفكير الغموض ، التأمل ، الغوص في النفس ، ولهذا الأمر نجد أن القمر في مصر القديمة ، قد ارتبط بـ الكهنة ، و قوة الطقوس (السحر) ، والكتابة (حيث يكون الفرد ، كـ القمر الذي يدوّن دوراته) ، والحساب (حيث كان التقويم شمسي-قمري-نجمي) ، و الزمن المصري القديم لم يكن اعتباطيًا ، بل كان دقيقاً ، وكان القمر أساس التقويم ، خصوصاً في تحديد مواعيد الأعياد ، الطقوس ، والمواسم ، ويكون القمر في هذا السياق كائناً مشارك في النظم الكونية ، يُضبط عليه إيقاع الأرض والإنسان.

وفي التفكير القمري ، الظلمة ليست نهاية ، بل بداية ، و اللحظة التي يختفي فيها القمر تُعتبر في مصر القديمة لحظة خصبة ، لحظة لبدء قيام قوة الطقوس (السحر) ، و التواصل مع العالم الآخر ، وفتح أفق روحي جديد ، وهذا الأمر يتوافق مع الاعتقاد الاوزيري بأن الموت هو بوابة التجدد.

ثم نجد في ثنايا مخطوطات الخروج إلى النهار ، ظهور إشارات متكررة إلى "الليل" ، "الظلمة" ، "التحول" ، وكلها تحمل رمزية قمرية ، و الروح تمر بمرحلة "الاختفاء" كما القمر ، ثم تعود إلى النور ، والقمر هنا يصبح مُعلمًا صامتاً للروح ، يُرشدها في الظلمة حتى تصل إلى نور النهار الابدي ، و ليس من الغريب أن نجد أن الكلمة الدالة على الوعي ، في مصر القديمة هي نفس الكلمة الدالة على القلب ، لأن التفكير القمري يُعلّم أن الإنسان يجب عليه أن يعكس في داخله دورة القمر ؛ حيث عليه أن يمرّ بـ التحولات ، بالنقص والاكتمال ، لكي يصل إلى التوازن.

والفكر المصري القديم لم يكن وجوديًا بالمعنى الحديث للكلمة ، لكنه كان فكراً عميق في إدراكه لمعضلات الإنسان مثل: الموت ، الزمن ، الهوية ، المصير ، والتفكير القمري علّمه (المقصود: الإنسان) أن كل شيء يتحوّل ، وأن لا ثبات إلا في التغيير نفسه ، وقد علّم القمر المصري القديم أن بعض المعاني لا تُدرك بالنور الكامل ، بل في الظلال ، في الحلم ، وفي الرمز ، وهذا النوع من الحكمة الرمزية ، التي تختار "عدم الإفصاح الكلي" ، بل تعتمد على التلميح ، وعلى الإشارة ، و الإيحاء.
وفي مصر القديمة ، لم يكن القمر إلهًا خارجيًا فقط ، بل كان مرشدًا داخليًا أيضًا ، و التفكير القمري هو الوعي بأننا جزء من دورة كونية أوسع ، وبأن في داخلنا قمرًا ؛ يتناقص ويتزايد ، يموت ويُبعث ، يختفي ليظهر ، و هو تفكير يتطلب التواضع أمام حكمة الكون ، والقدرة على رؤية النور في عتمة الوعي وضحالة الوجود ، وضبابية الفكر العام.

المصادر :
- صـ ٣٩٤٠ ، الفلك في مصر القديمة ؛ تأليف ماسيمليانو فرانشي ، ترجمة فاطمة فوزي ، مراجعة علاء شاهين ، انس ابراهيم ، المركز القومي للترجمة ، الطبعة الأولى -٢٠١٥ ، القاهرة.
- صـ ١٨٠١٨١ ، ٢٤٠٢٤١ ، الديانة المصرية القديمة ، الجزء الأول (المعبودات) ؛ تأليف عبد الحليم نور الدين ، ... ، الطبعة الثانية -٢٠١٠ ، القاهرة.



#عزالدين_محمد_ابوبكر (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ديالكتيكيّة تفسير الأحلام عند ابن سيرين
- هل يمكن قراءة الأعمال الكرتونيّة وجوديًا؟
- المنطق الوجوديّ ... -المنطق الذي لا يسعى للتوصل إلى قوانين ث ...
- المنطق الوجودي ... منطق الإنسان الملقى به في الوجود
- مقالة غير ختاميّة عن فلسفة الشوارع المصريّة
- مقالات أدبيّة: الشذرّة الرهاويّة ... من الأدب الرؤيويّ الأپو ...
- مقالات وجودية: نظريّة المراحل الكيركجوريّة
- مقالات وجودية: فلسفة الشوارع المصرية ، الجزء الثاني
- مقالات وجودية: نظريّة المراحل عند كيركجور
- فلسفة الشوارع المصريّة : فلسفة مواقف ، وتفكر إنسانيّ.
- مقالات وجوديّة: أبو الدرداء ، حياته ، ومذهبه ، ومواقفه الوجو ...
- مقالات وجودية: هل يمكن دراسة ”السحر العربي“ وجودياً؟
- مقالات وجودية: كيركجور ومواقفه الفلسفية
- مقالات وجودية: «المتصوف الغريب» ... مقاربات وجودية الجزء الث ...
- مقالات وجودية: «المتصوف الغريب» ، النِفَّريّ مقاربات بين الو ...
- «المتصوف الغريب» ... بدأ من العراق وانتهى في مصر: النِفَّريّ
- وقائع من العصر الذهبي المصري القديم : الجزء الثاني
- مقالات وجودية: هل يمكن قيام تفسيرية ”وجودية“ للآثار المصرية؟
- مقالات وجودية: كيركجور حياته وأثرها على فكره
- وقائع من العصر الذهبي المصري القديم


المزيد.....




- طريقة جلوسها وإطلالتها.. أول ظهور لزوجة أحمد الشرع لطيفة الد ...
- تحديث مباشر.. مظاهرات لوس انجلوس وترامب ينشر الحرس الوطني
- السعودية.. محمد بن سلمان يشعل تفاعلا بما قاله عن -إخوتنا في ...
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات قرب موسكو خلال ساعتين ...
- -ليس من مصر ولا قطر-.. تقرير إسرائيلي عن حل لأزمة الرهائن في ...
- ترامب ينشر الحرس الوطني الأمريكي بعد اشتباكات في لوس أنجلوس ...
- البرازيل تواجه انتكاسة بيئية حادة في الأمازون
- ترامب يهدد ماسك بـ-دفع ثمن باهظ-!
- العلماء يستبعدون وجود -الكوكب إكس- في 75% من مواقعه المحتملة ...
- آلاف الأوكرانيين يراسلون روسيا بحثا عن أقاربهم من الجنود الم ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عزالدين محمد ابوبكر - القمر ، والتفكير القمري على الطريقة المصرية القديمة: بين الدورات الكونيّة والحكمة الرمزيّة