|
الروائية العنود الشمري في روايتها -أعرف أني بخير -
نعيم عبد مهلهل
الحوار المتمدن-العدد: 8357 - 2025 / 5 / 29 - 18:11
المحور:
الادب والفن
محطات مثيرة عن هجرة ارواحنا وخطواتنا ونبض القلوب
(( جميعهم يشتركون في استغلال أحلام الفقراء، يجنون المال من خوفنا وجرحنا، تروق لهم التسلية بأوجاعنا، نبدو بالنسبة لهم مثل الحيوانات التي تعمل في السيرك، نقفز على حواجز الألم، ندور في حلقات النار، ونتوازن بصعوبةٍ على حبل الخوف، فلا نسقط ولا نصل، وهذا العالم يقف يتفرّج علينا، بعضهم يضحك، وبعضهم الآخر يجني المال والأرباح. )) العنود الشمري ــ رواية أعرف اني بخير لا تأمل في بقاع أخرى ما من سفين من أجلك وما من سبيل، وما دمت قد خربت حياتك هنا في هذا الركن الصغير فهي خراب أينما كنت في الوجود. -قسطنطين كفافيس
2
تعبير السرد في روايات الهجرة أي كان مكانها هو قائم على دهشة ولحظة إنتظار قدر الطريق . وثمة من يعتقد أن الرواية اكتسبت شيئا من تعريف جديد ونمط كتابي في اغلبه يحتفي بقلق الأمكنة يسمونه السرد المهاجر أو رواية الهجرة وهي تحتاج إلى عين تشاهد بأدق التفاصيل ومعايشة حقيقة وملهمات استذكار بين أن يكون بأدق التفاصيل وبين أن نسكب عليه هاجس ارواحنا .فما يكتب يندرج ي خانة الوثيقة حتى عندما تشتبك في رؤيا العمل اضافات من البوح والعشق وتغير المحطات وقسوة الطرقات بين بحر هائج وغابات قد تملأها الدببة والضباع والذئاب ايضا . وبالرغم من هذا فأن تلك الوثيقة ستريك التأريخ السري والغامض والمغامر لأدب الهجرات ،وهنا الهجرات لاتشبه النمط الاسطوري والتارخي لهجرات الشعوب من ارض إلى ارض من اجل العشب والماء والغزو وانما الهجرات هنا هي هجرات الافراد والعوائل من اجل النأي عن الجوع والاضطهاد وبحثا عن أرض موعودة بالراحة والأمان والاموال إسمها "اوربا ". ومع الفصل الاول من رؤيتنا لما دونته الروائية " العنود الشمري " في روايتها " أعرف أني بخير " والصادرة عن " دار نشر الدراويش للطباعة والنشر والتوزيع في بلغاريا " نستكمل في فصل ثان تفاصيل دهشة هكذا نمط مثير من تقصي هاجس الرحلة في تفاصيل سفر القدر الغيبي الذي لاتستطيع أن تُقدرَ كيف ينتهي وكيف يكون . لكن الروائية "العنود الشمري " تفاجئني بحس عليم لطوبغرافية الاحساس قبل طوبغرافيىة المكان وتشعر ان الطرقات تمتلك جغرافية واحدة خرائطها قلق الانسان على مصيره. وفي تتابع الفصول عن هذا السرد المحبوك بالظاهرة الإنسانية والقلق وتعدد الحكايات في قلب كل مهاجر من مهاجري رواية العنود تشعر ان من كتب النص كتبه بعدسة كاميرا سينمائية وليس بحروف كيبورد او حبر القلم . هي تكتب لأنها ترى ..ومتى ترى تستطيع ان تكتشف التفاصيل بهاجس كل مكان تستقر فيه اقدارها وخصوصا تلك المكانات البائسة التي تسمى " الكمبات " المؤقتة منها والدائمة . والمؤقت هو استراحة لوادة من محطات الهجرة قد تكون ليوم او حتى اسبوع او شهر ،والدائم قد يستمر لسنوات وبعض من اعرف صار الكمب بيتهم ولا يتمنون مغادرته. ومع اول تلك الأمكنة ترصد عنود في روايتها احساس انساني يتدفق بين حالات الفرح الظاهري والخوف الباطني .فتعيش مع أبي سلاماً وعائلته عبر اجفان الطفل عيسى في تصورات مدهشة تعتني بها العنود في احترافية السرد والقائمة على فكرة تحويل القلق والخوف إلى هاجس إنساني ساحر يجعلها ترتدي ثياب الام تريزا بكهنوتية الحب والايثار والاندفاع لتعتني بتلك الكائنات الطفولية الخائفة والقلقة من نهاية مصير لاخبرة لهم فيه . هذه الامومة تمارسها بطلة الرواية حتى مع أناس اكبر منها سنا ، فبين أبي سلام والطفل عيسى مسافة عمرية شاسعة تحتاج إلى متغيرات من التعامل واختلاف انماط الرعاية والحنان فتفصل هذه المشاعر ذهنية السرد في متعة الحزن والانتصار مع نشوة الذات الإنسانية لصاحبة الحكاية التي تعتني بجمال احساسها في لغة شعورية في وصف مكان بائس وصلوا إليه عند حدود شمس الأمل التي تمناها الجميع تأتي باشراقة نهاية الطريق ونيل اوراق اللجوء. فنحاط صورة المكان في بؤسه وسوء ادارياته وشحة الطعام فيه ، غير أن جمالية السرد الذي تتقنه العنود بإثارة مشاعر البشر وافتراض أن الجنة في بعض محطات الوصول إليها تكون هكذا . نعيش تلك الاحترافية في نقل الوصف بما ينطبق على الحالة بخصوصيتها كواحدة من محطات الراحة المهيئة لرحلة الخوف والقلق ورحمة المهربين الذين لايجنون لهم في الرواية عبارة لمديح فهم سكنهم الطمع والابتسامة الخادعة والوعود الكاذبة . لهذا لا تبتكر العنود شيئا من ميتافيزيقا أخيلة البشر في أدعيتهم وأحلامهم السماوية فقط ، ولكنها تنقل الشعور بالخوف والمرض وامنية مغادرة المكان الردئ هذا .ويحضر عيسى دائما بوجهه الطفولي البريء عكس ما هو عيسى الحقيقي " المخلص " لنرى في الرواية أن مريم " الرسالة " وعيسى الطفل هما حاجة لتأثيث الحلم الإنساني الموعود لجميع المهاجرين في رواية العنود الشمري " أعرف أني بخير " (( نام عيسى في أحضاني ذلك المساء، تراجعت درجة حرارة جسمه إلى المستوى الطبيعي، وهدأ روعه، فغفا على صدري، مثل غيمةٍ، يا للبراءة التي تفوح من ملامحه، وتخترق قلبي، يا لجماله الآسر! لقد وقعت في فخّ سحره الطفوليّ، لا أقوى على الابتعاد عنه، ولا أقبل بفكرة أن يصيبه مكروهٌ، أودّ لو أني أفتح قلبي، وأحفظه هناك، مدى العمر، أريد أن أحميه من كلّ الشرّ، والبؤس المستفحل في هذا العالم، أريد أن يبقى هكذا صغيراً وحالماً، أريد أن تدوم إلى أبد الآبدين براءتُه وابتسامته. أطبع قبلةً على جبهته، وأتفرّس في محيّاه، نائمٌ كملاكٍ صغيرٍ، سقط سهواً إلى الأرض،)) الرواية هذه حالة المكان في انسانية وجمالية لغة السرد فيه تعتني بها كاتبة الرواية وتصيغ لنا المبنى اللغوي والمحترف لسرد يرصد الأمكنة بمشاهدات روحية ومادية . وحالة عيسى هي ما تؤشره حالات لاتحصى يتعرض له هؤلاء الفارين من زازنين بؤس الحياة إلى ما يقال انها حدائق الضوء والسعادة والشعور إن الجميع سيكونون بخير . عيسى تضعه الروائية كواحد من حالات القلق التي ترافقنا في صدفة التلاقي بين بشر من جنسيات عديدة وكل واحد يحمل قصته معه . ومن بعض الحالات التي تجلس حكاياتها على اريكة العيون القلقة والبريئة كما عند عيسى تستجمع العنود بدهشة الروي وتتبع القدر في محطاته من خلال خواطر التذكر وتدهشنا بحكايات الحزن والبحث عن قطرة الضوء في سماء حالكة الظلام . لهذا يشعرك هذا المكان بأننا في بدء مغامرة الحياة الجديدة والاعتناء بعيسى وعائلة أبي سلام هي من بعض مكاسب هذه المغامرة .حيث تكون القدرية في مفارقات أن تجد شرطيا يلاحقك بنظرات الرعب من أجل أن ترشيه ببعض اليوروات يأخذها ويسمح لهم بالذهاب إلى محطات اخرى من قدرهم الغامض في وعود المهربين والرسائل التي تأتي عبر الايميلات ومواقع الانترنيت من مهاجرين قدامي جربوا ذات الطرق التي ندفع بخطواتها نحن وكأن كاتبة الرواية تقول لك حديث عن وراثة قدرية يتناسلها المهاجرون بسبب انظمة الحياة المرتبكة والسيئة في اوطننا. فأتخيل أن صاحبة " أعرف اني بخير " هي من بعض مؤسسي الفهم العميق لمشاعر سكان كوكب الهجرة عندما تشعر وانت تتعقب احاسيس ابطال رواياتها انها ترتبط معهم بعاطفة واحدة يلونها هاجس الخلاص وطفولة عيسى إن كان نبيا أو مهاجرا وأن رسائل مريم هي الجرس الذي ينبهنا إلى هكذا حالات انسانية وكونية ووجودية. تبدأ في تحويل السرد الكتابي إلى مشاهد سينمائية لتبدأ لك وبحرفة اخراجية متقنة لتريك كقارئ وناقد ومشاهد صورة الضياع في أول مدن كوكب الهجرة . فنرى صراعات جديدة تبدأ ومواقف تستجد وبطلة الرواية لم تزل تتطوع لأنقاذ الاخرين من محنة القلق لديهم وتهرع لجلب الدواء إلى الصغير عيسى وتهدأ من روع أبي سلام وتدفع بمغامراتها وبشجاعة إلى داخل المدينة الجديدة وازقتها تبحث عن نوافذ صوب الأمكنة الاخرى وهي تدرك تمنى ان المكان الذي فيه ربما هو من بعض تضاريس الارض اليونانية ولكن ايثاكا لن تكون هنا حتما . وبالرغم من هذا تظهر لك الرواية وبطلتها إنه بالرغم من كل تلك المصدات والعوائق والمواقف البائسه فأن الجميع ومن خلال تلك الآمال التي جعلت رحلتها ورحلة من معها في القارب مشتركا روحيا ومصيريا وكانها تتلو عليهم في كل موقف صعب ما ردده الطغرائي قبل الف عام: اعلل النفس بالامال ارقبها ........ما اضيق العيش لولا فسحة الأمل. لهذا تشعر وانت تغور في ذاكرة الرواية وهاجسها أنها رواية مكتوبة لصناعة الحياة والأمل في متغيرات صعبة وحرجة ومخيفة .واي حركة ترصدها بطلة الرواية في طريق الأمل هذا هو إيقاد عود ثقاب أو شمعة ميلاد حلم في عيون اولئك الذين توثق لهم احلاما غيبية في طريق اسمه الهجرة إلى فردوس لايتخيل سحره وجمال غير اؤلئك الذين كتبت عنهم مريم يوميات الاثر الذي يصنعه الحنين والقدر مع بشر اجتمعوا في قارب بلحظة اممية مقدرة وتحت رحمة المهربين وثانية تحت عطف ومزاج حرس الحدود. وعلة عيسى الطارئة وارتفاع درجة حرارة جسده فهو الدمية التي كانت اول الامتحانات له في قدر السفر هذا . فستنجد بأم سلام في محاولة للحصول على اي مسكن لتلك البراءة التي لاتجيد التعبير إلا من خلال عينيها . حيت المدن لاتوفر ضمانا صحيا لأي من يضع خطوته على ارصفتها ، مدن في العادة لايعرف المهاجرون السيرة الذاتية لنهاراتها لكنها الأن تبعث لرفاق الرحلة وجه من يومياتها ومظاهر الحياة الأوربية فيها . والغريب انها تستعيد في وجه بطلة الرواية من دون ان تعلم او تعرف تستعيد وجه كافافيس شاعر قصيدة المدينة فهو يوناني ايضا وذات المشاعر توثقها روح الرواية وانسيابية اللغة وعذوبة الحزن في تلك الموسيقى السردية التي عنوانها " اعرف اني بخير ". كانت مدينة حدودية تبعث على بهجة مثل تلك المدن الغابرة التي صنع فيها كافافيس الاخيلة الشهية لجنود طروادة وكريت واثينا وايثاكا ورودس . تفتح افقا سحريا في عيون مريم والروائية تمد رئتيها لتشم بين الكلمات عطر أمل تديم فيه هذا التواصل بما تتخيله الاجفان ،فأحسب أن الرؤية هنا في تلك المدونة السردية قد تغيرت ودفعت خطوة الأمل صوب نوافذ تبعدها عن مشاغل الخوف والمجهول وحالة عيسى طفل النبؤة والطريق الذي تحسبه أتى من اورشليم ليكون في هذا التيه معها وتتحمل معه مسؤولية لم تتوقعها , لكن مدينة البحر الآن تجلب شيئا قليلا من جمالية النظر إلى ملامحنا المتعبة من الخوف والبحر ورداءة قوارب الهجرة تنظر بأجفان مرتاحة .وربما تحس ان المدينة التي خربت حياة كافافيس لايمكنها أن تنال الخراب ثانية وهي تستقبل المهاجرين بمجد هيلاني قديم وابنية تنادم ضوء البحر حيث تتحرك جدرانها مع موج البحر بهاجس خفي تصفه الروائية بحروف من دهشة الشعر والنظر الممتع إلى المدينة وروحها والبيوت :
(( في تلك المدينة المطلة على الشاطئ الأزرق واسع المدى والأفق، كنا نتجوّل نحن السبعة، نجرّ معنا أذيال الأمل. رائحة هذه المدينة مألوفةٌ جدّاً، وكأنني زرتها من قبل، وأنا التي لم يسبق لي أن سافرت خارج بلدي، كنت أتأمّل بانبهارٍ شديدٍ كلّ هذه المباني الحجرية الملوّنة بألوان الفرح. السماء زرقاء تحتضن الغيمات بلهفةٍ غير مسبوقةٍ، والأرصفة معبّدةٌ بالحجر والطوب، تشكّل لوحاتٍ فنيةً، تحاكي جمال السماء، الخضرة والأشجار تُبرز مفاتنها وغوايتها على مدّ البصر، والبحر الغافي على أطراف المدينة يزيدها رونقاً وتألّقاً، المباني الحجرية القديمة التي تخبّئ التاريخ بين أسوارها، وتفوح من نوافذها رائحة الحكايات، والروايات. التماثيل الفنية الغريبة تفاجئني، وتثير دهشتي، كلّما توغلت في هذه المدينة أكثر، تعمّقت دهشتي، مدينةٌ لا تخجل من تاريخها، ولا تتهرّب من حاضرها، تبهرني الكنائسُ التي تحتلّ مساحتها بثقةٍ، بتصاميمها المعمارية العتيقة، وتماثيل أشخاصٍ مرّوا من هنا تحرس الكنيسة، وتطوّقها من كلّ صوبٍ.)) الرواية حديث الرواية شيق ويتقلب بين حذر وخبايا طرق رحمتها الوجوه الغريبة وما تدونه ملامحها ومعها فلسفة المهربين بين المزاج والطمع والخداع . فبعد مديح النظر إلى مدينة كافافيس وبعض هاجسس الاخيلة المريحة التي اظهرت لنا لغة روائية تفيض بشعرية الصورة وتعتني بالنظر إلى موجودات كونية تبعد عنا القلق ولو لساعات .وهذه اللغة المسكونة برفاهية الحروف وحرفية الكتابة الماهرة هي نمط لغوي لبنية الرواية وهيكلها اللغوي وربما تلك اللغة هي شيء من مفاحات السرد الانثوي ذلك لان العنود الشمري هنا تمارس وبأحتراف الكتابة بلغة المغايرة والدخول إلى منطقة الحدر بين الشعر والرواية وكما ريشة فنان تجتهد في ضبط التحولات التي هي من بعض مفارقات امكنة الهجرة بين لحظة التأمل السعيدة لصباح من صباحات الفردوس وبين المماطلة والنقاش مع المهرب الذي اسمه السيد جان . وحكاية السيد جان تظهر لنا جزء من أهم تفاصيل حكايات هكذا سفر يهاجر في هكذا طريقة .ترينا وجوها تمتلك مفاتيح الرحلة ولكنها لاتعتمد الرحمة بل تعتمد المال ولا يهمها حياة هؤلاء مسلوبي الارادة والمحطمين بتخيل لحظة الأمل وهي تتحقق وتعطى لهم أوراق الثبوت السياسي والانساني من أنهم ( آوس لندر ) بالالمانية تعني أنهم لاجئون من خارج البلد . في تلك الجزئية الإنسانية من الرواية تظهر لنا "العنود" في تعقبها لخطوة وتحولات الرحلة هذا الجانب الذي يهم كل المهاجرين والنقاش بين السيد جان " المهرب " وبين أبي سلام تظهر تراجيديا مستلبة تعاني من رغبة ولحظة تسهيل الأمر بأي طريقة لكن مزاج وعناد وقسوة السيد جان تعيش في تناقض بين الحلم الانساني ورغبته للوصول إلى نقطة أمان اكثر سلاما وبيئة نظيفة تلك التي تسكن أبي سلام وعائلته. تتقن العنود ادارة الحوار وترينا بمشهد سينمائي سردي ما دار من حديث في محاولة شحن هذه العائلة بطريقة يقررها هذا المهرب وقد يقبض الثمن مقدما او على الأقل نصف هذا الثمن ثم ان نجحت المهمة يختفي بغمضة عين وإن تم امساكهم في الطريق ايضا يختفي . لكنه الحل الوحيد ، الذي يقدم نفسه بابتسامة ثعلبية ماكرة ولكنها في اي لحظة يتحول إلى ذئب شرس . تسكن عند قراراته حياة ومصير سبعة قلوب مهاجرة قيل لها ان لدى السيد جان رحلة إلى مقصدهم الذي يعرفوه اسما ولا يعرفوه تضاريسا ..وربما نظرات المهرب وعدم اكتراثه بأن عائلة أبي سلام اصبحت و من معها عائلة واحدة حين رفض وببرود نقلهم في هذه الرحلة هي من صنعت لدى بطلة الرواية رغبة ان تفك رابطة الود مع بيت ابي سلام وهي تتحسس جوازها في حقيبتها لتهرب وبذعر ومشاعر فقدت عاطفتها وتكمل المسيرة وحدها ناسية كل الود والعلاقات الروحية والإنسانية الجميلة طوال محطات هذا السفر الذي لا يريد أن ينتهي وهو الان مع انسان تقول عنه الرواية بوصف دقيق انه لايظهر حين تريده وتحتاجه ولن تجده ،لكنه يحضر عندما يريدك هو .. في تلك الجزئية المهمة من بدن الرواية تشعركَ وانت تشاهد دراماتيكية هذا المشهد وتبدلاته النفسية من خلال نظرات وإحساس بطلة الرواية ازاء النقاشات التي تدور بين المهرب السيد جان وابي سلام ومن معه . صورة من مشهد التوسل والتضرع أن يوافق المهرب على نقل السبعة المبشرين بلحظة الخلاص من جحيم تلك المحطات وفي الجهة الاخرى هناك من يرافقهم ويسجل التفاصيل وقد يتمنى قبل ان يتمنون هم ان يكون بين ممن ينقلهم السيد جان في رحلة الغد إلى المكان الاكثر اقترابا من نقطة الحلم . وبين الأمل وموافقة السيد جان على نقل كامل افراد الرحلة . تشعر في هكذا مواقف إن ليس بالإمكان الوقوف على افق ممكن في نهاية السفر . فصل فيلم السيد جان ادركت فيه " العنود الشمري " كشفا للحالات الإنسانية في مرحلة البحث عن الخلاص وتغير المشاعر ومواقفها ..وعبر المشهد السينمائي المتقن برصد حالة تنتابها الكثير من المواقف تضعنا روح السرد عند مفقترقات عديدة تأتي رحمة الله في النهاية وتتحرك اجفان السيد جان موافقة على اتمام الرحلة وتنتهي رقصة اخرى من قصص هذا الطريق المبلط بالاسفلت والوعر بالمفاجات وفقد توازن ارواحنا في مرات عديدة : (( يقول السيد جان، المهرّب أو المرشد السياحي، كما يحب أن نسميه، وجميعنا دون استثناءٍ نلتزم بأوامره، ونحكم إغلاق النوافذ، ونغطيها بالستائر السميكة، وننام كالغرباء. هذه الحافلة مثل القلوب مكتظةٌ بالقصص والحكايا التي لا تُحكى ولا تُنسى ... نخبّئها عن أعين الآخرين في الأعماق، حيث لا يصل أحدٌ من الفضولين، ونسدل الستائر عليها، ليس لنا جدرانٌ تحكي لنا أو عنّا، ولا أعينٌ ترنو إلينا أو تروينا، وحيدون ومفرغّون من كلّ شيءٍ، إلا الخوف والحلم، خوفٌ من ماضٍ يلاحقنا، وحلمٌ بغدٍ نلاحقه، ومثلما يمتثل تلاميذ المدرسة لأوامر المعلم، نمتثل لأوامر السيد جان، كلٌّ يجلس في المقعد الذي اختاره لنا، وأعيننا تلاحقه كظلّه، يبدو واثقاً ومعتاداً على ما يفعل، بملامحه الهادئة، وكلماته المنمقة، ولغته البسيطة، يتسلل إلى قلوب الركاب، يسحرهم بدفء معاملته، ينوّمهم مغناطيسياً، فيتسرب الهدوء منه إلى نفوسهم، تملأ الطمأنينة التي تفيض منه أرواحهم، تحلّ السكينة على المكان، ويخيم الصمت، يتقدم إلى مقدمة الحافلة، ويجلس بجانب السائق الأشقر، يقول له شيئاً بلغةٍ لا أفهمها، وتنطلق بنا الحافلة إلى المجهول .)) الرواية
كانت الرواية فصولا من تعاقبات الدراما والمواقف فهي تثيرك بإنسانيتها المتعددة الحوار حتى عندما يتسيدها حزن ومشاعر فقدان الأمل وفقدان الأوراق الثبوتية . والسير معها هذا الأحساس السردي المكتوب بلغة الكاميرا هو شيء من التمتع بتلك الملهاة المكتوبة كدرس تأريخي في تحولات النظم والمجتمعات حيث الهجرة اصبحت ظاهرة اجتماعية وعولمية تسكن البحار والغابات والمطارات وموانئ البحر. وتبقى السير مع قراءة هاجس متعة النص الذي يثرك في شاعرية اللغة وحرفية اتقانها صنع المشهد هو الشيء السحري في اكتشافنا لروائية اسمها " العنود الشمري " وكل الذي يسكن ذاكرتها هو حلم الانتماء إلى نوع من الحب أسمه " الجغرافية " بعدما شعرت ان لها تأريخا جيدا ومهيباً على مستوى العائلة والقبيلة والطموحات المدرسية والعلمية . لهذا وبعيدا عن تلك المحطات المشوقة بحزنها والاعيب المهربين وعلى عيسى ونظرة البؤس في بارءة عينيه ومجيء يوسف كمحاولة لاعادة ما فقدته بطلة رواية العنود الشمري " أعرف أني بخير " وحتى ما يلمح إليه شهوانية السيد جان البائسة ورغبة أم سلام وابي سلام أن يكون الجميع في حافلة التهريب التي يدير دفتها المرشد السياحي ( المهرب السيد جان ) بعيدا عن كل هذا فأن استعادة البنية السردية لفكرة الرواية وهاجسها يتنمي أولا إلى سايكولوجية التفكير والانتماء والحس والموهبة إلى كاتبة الرواية التي لاتجلب وجها من فنتازيا خيال متعة القارئ وهو يعيش ابتسامة الرضا إنه يتماهى ويقرأ رواية العاطفة الإنسانية ويتضامن مع كل اؤلئك الذين يهربون من بلدانهم تخلصا مما يعتقدوه الجحيم والتغييب وكبت الحريات. تشعرك الرواية بضرورة الأنتباه إلى بنيتها ولغتها ومشاهد الحوار بين صناع حكاية هذه الرحلة . وستشعر انك تعيش هاجس الشعور انك والروائية تسير خطوة بخطوة مع مريم وقلقها وقوة الصبر في ثقافة روحها وانتباهها إلى ادق ما يدور حولها لتكتبه في يوميات هي ذاتها بعضا من يوميات العنود التي تشعر ان ظلال صانعة النص ترسم ايماءاتها عند ضفاف كل العيون الحائرة والمستلبة التي تفتش عن قدرها في جشع المهربين وطرقات المدن الغربية ومصادفات ترهب كل شيء فيك كالذي تعرضت له بطلة الرواية وهي ترفض عرض السيد جان بتقديم المساعدة لتتعرض إلى لصوصية وتسرق منها حقيبتها واوارقها ليجيء يوسف في محاولة منه لإنقاذ حيرتها وحزنها وارتباك مشروع الهجرة كله. لكن يوسف هذا ليس كيوسف العبراني حل المعضلة من خلال الرؤيا ويعطي الحل ، فقد كان يمتلك الرغبة بالمساعدة ولكن من دون جدوى : (( في صباح اليوم التالي، جاء يوسف إليّ معتذراً، كان قد وعدني بأن يعيد إليّ حقيبتي وأوراقي، ولكن تقطّعت به السُّبل، ولم يستطعِ البلوغ إلى ذلك الفتى اللصّ، أخبرني يوسف أن هذا الفتى، إنما هو واحدٌ من الآلاف الذين تجنّدهم العصابات والمافيات، تقذف بهم يومياً في الشوارع، وتتركهم تحت أشعة الشمس الحارقة، أو برد الشتاء القارص.)) الرواية يشعر القارئ بألفة حب وتضامن مع هذا الأستلاب الذي يصيب تلك الفتاة وهي تعبر بلغة شفافة وعميقة عن أحساس العمق في أرواح أبطال رواياتها وتترك الظواهر الأخرى ولا تعتني بها كما تعتني في سرديتها بالهاجس العميق لشعورها أن مكامن الإحساس بالخلاص ورؤى الأمل وبنود بيانات حقوق الانسان تكمن هناك . لكن الحياة كما في مداد هاجس السرد عند " العنود الشمري "الحياة تمضي إلى الأمام ويعود الأمل بموافقة السيد جان بنقل الجميع على أمل أن تجد حلاً لما فُقد منها من مستلزمات واوراق ثبوتية هي بالنسبة للمهاجر الاوكسجين التي يشم هواء نوافذ الحياة الجديدة في أمكنة الحلم الذي لم يزل إفتراضيا إلى الآن . مع عودة روح الحياة إلى فاقدة الأمل وهوية القدر والمكان حيث هي الآن بدون وطن ، وبدون كل شيء . تستكمل الرحلة مع السيد جان لتبدا ذاكرة أرخى للطرق والمدن التي لن تكون بدهشة تلك المدن الهيلينية التي كتب عنها ايتالو كالفينو كتابه الأسطوري مدن لا ترى . ياخذهم إليها المرشد السياحي المخادع ويرميهم هنا إلى قدر جديد تأويهم فيها كمبات متعبة او فنادق من الدرجة الخامسة والجميع يسكنهم ذات الأمل ويمسكون ذات الخيط ليصلوا إلى حافة النجاة ويتشبثون بها . تلك الحافة التي تصل اليها ممكنات الحلم البشري في التعامل مع مشروع الهجرة التي يسكن كل واحد يتمنى العالم الافضل الذي تشع من ثقب حلم الوصول الى هناك وتتداخل مع الاوامر التي يطلقها السيد جان قبل ان تتحرك الحافلة : (( أرجو أن تتعاونوا معنا، وعدم لفت الانتباه؛ لأن ذلك يصبّ في مصلحتكم ومصلحتنا، ولكي تكون هذه الرحلة يسيرةً وموفقة". التفت إلى الرجل العجوز، وقال مازحاً: "ولا تستعجلوا أرزاقكم، يوجد الكثير من الحسناوات، حيث نحن ذاهبون ..". وارتسمتِ الابتسامات على الوجوه ..! طلب الرجل العجوز أن يقصّ علينا بعض القصص من باب التسلية وقتل الملل، وافق جان على شرط ألّا نذكر تفاصيل أو أسماءً، وألا نتعرّف على بعضنا أكثر من اللازم تجنباً للمشاعر الضارة، قال الجميع: لك ذلك )) الرواية .
فوبرتال 22 مايس 2024
#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كاظم الركابي ( شلونكم ..والخجل الذي في عيونكم )
-
مدخل لأول رواية عراقية عن عبد الحليم حافظ
-
الجواري وممثلات السينما
-
ابتسام عبد الله
-
آخر مرة زرت فيها الأهوار
-
الصابئة في ذكريات أيام اهلنا والناصرية
-
أغنية يا حريمة ( هاجس الحب في عراق القرن العشرين )
-
سكينة الروح في الطين السومري
-
مدينة جلجامش و الكولونيل الياباني ماساهيسا ساتو*
-
كما صوت أودنيس
-
مندائيات العطر وأنتِ منهن مطر
-
موسيقى النم نم
-
شه ونم الذكريات جبال عطرك وبنجوين
-
الشاعر مؤيّد الهوّاش في كتابه الشعري (هناء )
-
نابليون وحسقيل ساسون والعراق
-
سمفونية سومرية لشاكيرا وسلمان المنكوب
-
الرحابنة يبكون كل صباح
-
مداسُ الابْ ودروس بوذا
-
اشلاء محترقة تتزوج في ساحة مظفر
-
ارحموا السويد يرحمكم الله
المزيد.....
-
مصر.. أزمة حادة بين فنانتين شهيرتين تنتهي بقبلة على الرأس (ص
...
-
المغرب: مهرجان -جدار-.. لوحات فنية تحوّل الرباط إلى متحف مفت
...
-
بعد تكرميه بجائزة الثقافة في مالمو 2025 - محمد قبلاوي ”صناعة
...
-
هوليوود.. نهاية حلم صناعة السينما؟
-
اكتشاف أثري تحت الركام.. ما مصير القرى الأثرية بعد سقوط نظام
...
-
أعلام في الذاكرة.. حكايات شخصية مع رموز ثقافية عراقية وعربية
-
-القسطنطينية- يفتتح الدورة السابعة لمهرجان -بايلوت- الروسي (
...
-
بيان رسمي بعد نزاع بين ملحن مصري وحسين الجسمي
-
من غرناطة إلى تستور.. كيف أعاد الموريسكيون بناء حياتهم في شم
...
-
مايك تايسون يتلقى عرضا مغريا للعودة إلى الحلبة ومواجهة أحد أ
...
المزيد.....
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
المزيد.....
|