|
النهر المحترق وبزوغ القمر من عتمة الليل
خالد سالم
أستاذ جامعي
(Khaled Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8352 - 2025 / 5 / 24 - 12:01
المحور:
الادب والفن
"لكنها تدور يا ملوك الطوائف..."
د. خالد سالم
عندما تُذكر فنزويلا يقفزُ إلى المخيال الشخصي أحد أهم الأعمال الأدبية في أمريكا اللاتينية، رواية "دونيا بَربَرَة" للفنزويلي رُومُولو غايغُوس، والمحرِّر اللاتيني، الفنزويلي سيمون بوليبار، والزعيم الفنزويلي أُغو تشابيث، والهجرة العربية إلى تلك القارة. وكلها عناصر تتداعى إلى الذاكرة وتقرِّبنا من هذا البلد ومن أمريكا اللاتينية رغم المسافات الجغرافية. والتقاطًا لخيط الماضي نجد أنفسنا أمام ديوان "النهر المحترق" للشاعر الفنزويلي خورخي رودريغيث غوميث، الذي يعترك الحياة العامة بسيف السياسة والكلمة من أجل الشعب، ضاربًا بجذوره في اختصاصه الأول، الطب النفسي، قبل أن يحترف السياسة، سياسة تهدف إلى تعرية الوحشية وإعلاء القيم الإنسانية. خورخي رودريغيث شخصية عامة، ثائرة ومتمردة، تمرده يتجلى في مرآة اللغة، وعلى مألوف الكتابة الشعرية. فقد شغل هذا الشاعر والروائي مناصب رفيعة من بينها نائب رئيس الدولة ووزير الإعلام والاتصالات، واليوم يشغل رئاسة الجمعية العامة، قمة السلطة التشريعية في فنزويلا، ضمن مسار الشعب والدفاع عن حقه في الحياة والسلم وتطوير بلده تحت قيادة الرئيس الحالي نيكولاس مادورو، وريث خط سلفه أُوغو تشابيث، وتنفيذ خطه السياسي، "التشابيثية" ( 1)، أي بناء نموذج إشتراكي خاص بفنزويلا. وحينما نلِجُ ملكوت شاعر ما لا بدَّ من أن نبحث عن كونه الشعري لنكتشف رؤيته ونقارب مُثُله، ونتذوق شعره بلغة المتلقي إلى بوح القصيدة، وهنا يستقر الشعر في شغاف القلب، فيصبح للحروف بوح ومعانٍ. فالكون الشعري عند خورخي رودريغيث كلٌّ متكاملٌ، متفاعلٌ، فيه ما هو حسيّ وفكري وبياني ورمزي. إنّه رؤية حياة واستشراف وحضور. ومهمة القارئ الضمني أن يتفاعل ويتعامل جماليًّا مع هذه المكونات كلها بغية اكتشاف القصيد. ديوان "النهر المحترق" تجربة إنسانية في الفقد، فقد الأب، الذي خصَّه بهذه المرثية الطويلة. لهذا جاءت قصائد الديوان مرآة لهول الموت وما استدعاه من حزن وحنين خيَّما على أحلامه ليالي الجمعة، ليصبح باكيًا للحظة صباح السبت (2) أمام جلال الموت. يُسقط الشاعر أحزانه بفراق أبيه المفجع على النهر الذي التهمته النيران، فغدت فروع الشجر ميتة، لكن الطيور لا تزال تغنِّي، بصيص أمل. والأب في حفرة الموت ولهفة الحياة يرقب الآتي من بعيد. لهذا فمن الطبيعي أن يتوسم الحزن كل حرف نسجه الشاعر. وفي الوقت ذاته يتقاسم أحزانه مع الطبيعة، مع مشاهدها المحلية. بيد أن هذا الحزن الذي يخيم على الديوان، يبوح للملتقي برسالة فحواها أن القمر سينبثق من العتمة، فحوى الديوان، ديوان فنزويلا في واقعها القاسي جرَّاء سهام الآخر، في الشَّمال وعلى الجانب الآخر من مياه الأطلسي، وهي فترة تذكِّرنا بمواقف هذا "الآخر"، قوى الاستعمار، من دول عربية، سبقت فنزويلا تشابيث ومادورو في أن يكون قرارها بيدها. يبدو النص حوارًا من طرفٍ واحد، فلا جواب سوى آهات الفقد، الحزن، في مرآة طبيعة قاسية، نهر يعيش ثنائية الحياة والحرق، الموت رغم وجود نسغ السيرورة، الحياة. وقصيدة الرثاء تتضمَّن بالضرورة مبالغات تمنح الشاعر القدرة على التحليق في فضاء الدلالات والصور الشعرية غير المطروقة. لعل أبرزها هنا هو احتراق النهر، فكيف يحترق الماء؟! وهنا، في ديوان "النهر المحترق"، تتجلَّى دلالات عمق المعاني والغوص في كُنْه النفس الإنسانية، فالحزن يتوسَّم كل حرف نسجه الشاعر، لكن من العتَمة ينبثق القمر، الأمل، وهذا يحيلنا إلى وضع فنزويلا وشعبه الساعي إلى استقلال الذات والحفاظ على مكتسباته وثرواته الطبيعية، مطمع الآخرين. هذا يحملنا إلى الغوص في سيماء هذا الشاعر، الطبيب النفسي اختصاصًا، لفهم كُنه مفرداته وصوره الشعرية. فخورخي رودريغيث غوميث حاصل على دكتوراه في الطب النفسي، وله عالمه الروائي قبل الشعري، من هنا جاء انتقاؤه لمشاعره الجياشة وعفويته في التعبير بالكلام المنثور لينقل للمتلقي الضمني أحساسيه أمام مشهد الفقد وجلال الموت. والنهر دلاليًّا، في الوعي واللاوعي، يحيل إلى التموُّج، التعرُّج، وربما الهُدُور في حالة بعض الأنهار. وبهذا ندرك أنَّنا أمام مشهد متغيِّر ما يحيل إلى تناقض في العنوان نفسه، وما للأبيات المقتبسة من قصائد رامون بالوماريس في رثاء والده، التي وضعها الشاعر الابن في صدر ديوانه. وفي المقابل يجد المتلقي ضمينًّا تدفُّق الحياة وخلودها عبر ابتسامة الأب والمطر، مع حفيف الصوت الأنثوي، رمز الصيرورة، رغم تشبيه النهر بالثعبان، رمز الشر، ما يحمل في طياته هذا التناقض بين معنى النهر وحالته في هذا النص. النص يحملنا إلى عوالم أخرى يذخر بها أدب أمريكا اللاتنية، ظاهرة الموت والابن الذي يبحث عن الأب في فضاء الرفات، أعني هنا على وجه الخصوص رواية "بدرو بارامو" للمكسيكي خوان رولفو، حيث ذهب البطل للبحث عن أبيه في قرية كومالا -وسط المقابر وصيف قائظ- التي شغلت فضاءً واسعًا في الكتاب، ما يحيلنا إلى الموازاة بين تلك القرية والنهر في هذا الديوان. إنها رحلة اقتفاء أثر الأب، البحث عنه رغم حضوره الذي يحيلنا إلى ظلال الواقعية السحرية في فضاء روائي امتد عقودًا في النصف الثاني من القرن العشرين، في آداب الإسبانية والبرتغالية في أمريكا اللاتينية. ويجد القارئ نفسه في فضاءٍ حُلميّ، مناميّ، ليمسك بتلابيبه بحثًا عن النهاية ويقوده في خط مستقيم إلى الأمام، دون حاجة إلى تقنية الاسترجاع الفني. يتجلَّى النهر بأكثر من هيئة ولفظ، ما يطرح أسئلة حول الهوية الحقيقية له، ويحمل على التفكير في بعض المقاطع على أنه ذلك الحاضر الغائب، وأحيانًا يتخذ شكلًا مؤنثًا في ضمير "هي"، في لعبة لتبديل دائم للمعنى. يرى الناقد ليوناردو رويث تيرادو في مقاله (3) أن "النهر المحترق" فيه موضوع جماعي وما ضاع في اللغة نداء، اسم مستقبلي. والقصيدة تبدو وكأنها الستار الشفَّاف الذي يفصلنا ويسمح لنا بالرؤية، أو الفاصلة بين ما هو واقعي وما هو سحري. ومن بين الاستعارات العظيمة في الديوان استعارة ما يحترق، فالنهر لا يمكن أن يحترق إلا إذا لم يكن موجودًا أو كان مصنوعًا من الورق. هناك مساحة أخرى حول العذاب، متمثلًا في تعذيب الأب، ما يحمل أحيانًا إلى مُناخ عدمي لكنه ليس نسيانًا، فالذاكرة أُنقذت من الغرق في الأرض المحروقة: "في ساعة العذاب أين كنت؟/ الأرض الحمراء بين الغاف/ دخان حطب خفيف/ والنهر/ الذي كان يتبع ابتسامتك/ في صمت". جليٌّ أنَّ الديوان مرثية للأب، خورخي أنطونيو رودريغيث، الذي توفي تحت تأثير التعذيب بعد القبض عليه في قضية سياسية وهو في الرابعة والثلاثين بينما كان الابن، الشاعر، في الحادية عشرة من عمره؛ ما ترك هذا الجرح الغائر في نفسه، الذي تحوَّل لاحقًا إلى كوابيس يومية بعد مقتل الأب، الزعيم الطلابي والثوري اليساري. وعلى خطاه سار الابن في دنيا السياسة، فشغل ويشغل مناصب عليا في فنزويلا. تُعرِّج القصيدة على الذاكرة من ألبوماتها المرتبطة بعبور الصحراء، والتعبير التصويري للعذاب، لما فيه قصور، وفي الوقت ذاته حضورها الذي يمكن أن يكون ذكرى ومستقبلًا: "لستَ في هذا الألبوم/ ولكن الصورة الظلية/ لما هو قادم/ ليست هناك/ خطواتك/ لقد محاها/ الدُّخَان". العالم الشعري للديوان قائم على أبيات قصيرة، تعبر بضمير المخاطَب لنسج حوار لُحْمَته الحضور والفقد عبر مرآة الذاكرة التي تعكس موت الأب تحت تأثير التعذيب، بينما يدعو الحضور، الباقين على قيد الحياة للخروج من قبر النار والغبار والتقدُّم بين الأنقاض. وهنا تتجلى الذاكرة المسيطرة من خلال عاطفة متشظية عمَّدها ذلك النهر المحترق الذي يتخذ أشكالًا وأصواتًا متنوعة، ملتحمة بمشهد طبيعي متمرد وعنيد، تمتد هاتان الصفتان من الشاعر المعروف بصلابته وثوريته الممتدة إلى الجذور، المَرْثّي، الذي يتوجه إليه وكأنه يسمعه، أي لم يمُت، إمعانًا في التحدي والصلابة: "أنت لست/ ذلك الجسدَ الممزَّق/ لست تلك الدميةَ الممزَّقة بالمعدن/ استمع/ حرًّا الآن/ خرير النهرِ الذي كان نهرًا/ صفير الطائر الأحمر الصغير/ الذي كنت ترعاه وأنت غرير/ أنت لم تعد طعامًا للضباع/ بل رجفة النسيم في المساء". وهذا يحمل الملتقي إلى التفكير في أنه أيضًا إسقاط على عناد فنزويلا وصلابتها في زمن تكثر فيه الضباع، التي تحوم حول كل شعب يخالف الآخر في رؤيته للحياة، عبر نهر الحياة لا يحترق رغم أنه يبدو هكذا، ليخرج طائر العنقاء من الرماد، في ولادة جديدة ليبزغ القمر من عتمة الليل.
الهوامش: * مصر ستكون ضيف شرف معرض كتاب كاراكاس، فنزويلا، الذي سيعقد في يوليو 2025، وقد تُرجم هذا الديوان مع كتب أخرى من الأدب الفنزويلي. (1) Chavismo التشابيثية: نسبة إلى الرئيس الفنزويلي السابق أوغو تشابيث Hugo Chávez، ومؤسس الحزب الاشتراكي الموحَّد، وهي فكر يساري يسعى إلى التلاحم بين شعوب العالم الثالث في مواجهة سيايات الولايات المتحدة الأميركية ذات اليد الطولى في أمريكا اللاتينية. وكان لتشابيث مواقف إيجابية من القضية الفلسطيينية وسورية وليبيا. واعترف أنه ناصري الهوى، إذ تعلَّم منه الكثير في صباه وقرأ فكره. وقال حسب مجلة العلوم السياسية الصادرة في الأرجنتين إن دماءً عربية تجري في عروقه. Revista N䣀 "TEORÍA POÍTICA E HISTORIA" https://www.revcienciapolitica.com.ar/num24art4.php (2) من تقديم الديوان الذي نُشر في جريدة "أونيبرسال" يوم 16 نوفمبر 2024. واطلعت عليه في الشبكة المعلومات بتاريخ 29/12/2024 من الرابط التالي: Jorge Rodríguez presentó su poemario “Río Quemado” EL UNIVERSAL https://www.eluniversal.com › politica › jorge-rodriguez-... (3) عنوان مقال لوناردو رويث تيرادو بالإسبانية هو: PALABRAS PARA RÍO QUEMADO، أي: كلمات للنهر المحترق
#خالد_سالم (هاشتاغ)
Khaled_Salem#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في وداع ماريو بارغاس يوسا الآخر
-
عن اللغة الإسبانية في يومها
-
الثائر اللاتيني غيفارا يغني للنيل
-
هل من انقاذ لهذه الأمة التي تندفع نحو الهاوية
-
غارثيا لوركا الشاعر الذي خُيل لهم أنهم قتلوه
-
التجربة الإسبانية لدى الشاعر عبد الوهاب البياتي
-
خصائص الشخصية العراقية والشخصية المصرية
-
خمسون عامًا على ثورة القرنفل في البرتغال
-
الشاعر أُكتابيو باث في ذكراه:على العالم العربي أن يبحث له عن
...
-
قصيدة إسبانية في رثاء المفكر الفلسطيني وائل زعيتر
-
العربية محفوظة لكونها لغة القرِآن؟!
-
كارمن رويث برابو المستعربة العربية
-
اليوم العالمي للغة العربية والعرب اللاتينيون المنسيون
-
الروائي لويس ماتيو ديث يفوز بجائزة ثربانتس نوبل آداب الإسبان
...
-
حقوق الملكية الفكرية وتأثيرها على التنمية المستدامة: إسبانيً
...
-
الأوهام الدينية بين هيكل سليمان وقصر الحمراء
-
المقاومة بين نومانثيا الإسبانية وغزة الفلسطينية
-
اليهود بين المتحف العراقي وطوفان الأقصى
-
زُرت بلاد الرافدين
-
ذكريات عن علاقة الروائي جمال الغيطاني بإسبانيا
المزيد.....
-
محافظة خوزستان الإيرانية: بوابة التجارة والثقافة
-
مجموعة مسلحة تُهدّد الفنان باسم ياخور بعد عودته إلى دمشق وتم
...
-
مسؤولون فرنسيون: انقطاع الطاقة في اليوم الأخير من مهرجان كان
...
-
اغنية.. لقد فات الأوان
-
إضاءة نقدية على القصيدة العمودية المعاصرة
-
بريتني سبيرز تعتذر عن الفضيحة التي تسببت بها على متن الطائرة
...
-
مخرج إيراني معارض للنظام يفوز بجائزة ذهبية في مهرجان كان الس
...
-
زاخاروفا: كيسليتسا يكذب بقوله إن الوفد الأوكراني تحدث باللغة
...
-
-بوليوود- تودع الممثل مكول ديف
-
“الإعلان الرسمي الاول” مسلسل قيامة عثمان الحلقة 193 الجزء ال
...
المزيد.....
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
المزيد.....
|