أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - رياض قاسم حسن العلي - تأثير النقد الغربي في الأدب العربي: من الترجمة إلى التمثّل















المزيد.....

تأثير النقد الغربي في الأدب العربي: من الترجمة إلى التمثّل


رياض قاسم حسن العلي

الحوار المتمدن-العدد: 8350 - 2025 / 5 / 22 - 04:51
المحور: قضايا ثقافية
    


لا يمكن الحديث عن تطوّر الأدب العربي الحديث والمعاصر دون التوقف طويلاً أمام التأثير العميق الذي مارسه النقد الغربي بمناهجه، ومفاهيمه، وأسئلته، لا على مستوى القراءات النظرية فقط، بل على مستوى الممارسة الكتابية والنقدية العربية أيضًا. وقد انفتح هذا التأثير ضمن لحظة ثقافية مفصلية بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر، حين بدأت حركة الترجمة والنقل تتسع، لتصل ذروتها في النصف الثاني من القرن العشرين، فكانت بمثابة صدمة معرفية للذائقة النقدية العربية التقليدية، وخلخلة للبنيات الراسخة في الذهن الأدبي العربي.

الترجمة كجسر وكمصفاة

وقد برزت هذه التوترات بشكل جلي في طريقة تلقي المناهج البنيوية وما بعد البنيوية في العالم العربي. فعند ترجمة المفاهيم البنيوية إلى العربية، ظهرت إشكاليات كبرى في المصطلحات التي تتطلب خلفية فلسفية ولسانية معقدة. فعلى سبيل المثال، تُرجم مصطلح structure إلى "بنية" أو "هيكل"، بينما تُرجم discourse إلى "خطاب" أو "قول" أو حتى "سرد"، بحسب السياق والمترجم. أما subjectivity، فحملت دلالات متباينة، منها "الذاتية" أو "الفرادة" أو "الوعي الذاتي"، مما أفضى إلى اضطراب معرفي حال دون تداول ناضج لهذه المفاهيم داخل المشهد النقدي العربي.
وقد أشار الدكتور عبد السلام المسدي إلى هذه الإشكالية في دراسته حول "المصطلحية في اللسانيات"، حيث اعتبر أن الترجمة لم تُراعِ السياقات الإبستمولوجية التي وُلدت فيها المفاهيم، بل أُخضعت كثيرًا منها لآليات نقل غير دقيقة، مما أفقدها دلالتها الإجرائية. وبدوره، ناقش عبد الله الغذامي في كتابه الخطيئة والتكفير (1985) أثر هذا التداخل غير الواعي بالمناهج الغربية على الخطاب النقدي العربي، معتبرًا أن "التلقي العربي للنظرية الغربية جاء استيرادًا أكثر منه حوارًا"، وأن النقاد العرب "مارسوا النقد على الطريقة الغربية دون مساءلتها من موقعهم الخاص".
ورغم هذا، ظهرت محاولات لتأصيل هذه المفاهيم وإعادة قراءتها ضمن السياق العربي، كما فعل كمال أبو ديب في نقاشه لمفهوم "التحول النصي"، وصلاح فضل في اشتغاله على البلاغة الجديدة، حيث سعى إلى دمج أدوات البنيوية مع بلاغة الجرجانيين. غير أن هذه الجهود ظلّت جزئية، محكومة في كثير من الأحيان بإطار تنظيري متعالي على النصوص، أو بتركيز مفرط على المفاهيم دون استيعاب لسياقاتها الفلسفية والثقافية.
ولعل أوضح مثال على هذا التوتر هو تلقي أعمال رولان بارت، لا سيما مفهومه عن "موت المؤلف"، الذي استُخدم في نقد الشعر العربي الحديث بوصفه إعلانًا عن تحرر النص من سطوة المرجع، دون التفات كافٍ إلى أن "موت المؤلف" في سياقه الأصلي كان نقدًا لسلطة المعنى وليس للمؤلف فقط، وهو ما نبه إليه سعيد بنكراد في نقده لتوظيف المفاهيم السيميائية في قراءة النصوص العربية، حيث شدد على ضرورة "توطين المفهوم" قبل توظيفه.
وبذلك، يمكن القول إن أزمة تلقي النقد الغربي في السياق العربي لم تكن فقط أزمة مصطلح، بل أزمة في الرؤية النقدية ذاتها: رؤية تمزج بين الإعجاب بالحداثة الغربية، والخوف من تذويب الهوية، فكانت النتيجة إنتاج نقد يقع بين لغتين: لغة الوافد، ولغة الموروث، دون أن يفلح دائمًا في صهرهما ضمن رؤية جديدة متجاوزة.

● البنيوية وما بعدها: الثورة المفهومية

مثّلت البنيوية، منذ نشأتها في حقل اللسانيات على يد سوسير وتطورها لاحقًا في النقد الأدبي مع تودوروف وغريماس وبارت، لحظة قطيعة إبستمولوجية مع أنماط القراءة التقليدية التي كانت تتمحور حول المؤلف، والسياق، والسيرة الذاتية، والمرجعية الاجتماعية. فقد انتقلت مركزية الدلالة من خارج النص إلى داخله، وصار يُنظر إلى الأدب بوصفه نسقًا لغويًا مغلقًا، تنتظم عناصره ضمن بنية داخلية قابلة للتفكيك العلمي. هذه "النقلة البنيوية"، التي جاءت في أوروبا كردّ فعل على تيارات التأويل الإنساني والنقد البيوغرافي، وصلت إلى الفضاء النقدي العربي في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين ضمن مناخ ثقافي مسكون بهاجس التحديث والانخراط في "المعاصرة".
استُقبلت البنيوية حينها بوصفها "حداثة نقدية"، فتبنّاها عدد من النقاد العرب بحماسة مفرطة، دون مساءلة عميقة لجدوى مواءمتها مع السياق الثقافي العربي، أو التحقق من مدى انسجامها مع طبيعة النصوص المحلية، التي ظلت مشدودة إلى أسئلة التاريخ والهوية والالتزام. وبدل أن تُطرح كمنهج قرائي مؤقت أو أداة تحليلية مشروطة، غدت البنيوية لدى كثير من النقاد العرب عقيدة نقدية جديدة، قائمة على مبدأ "الاكتفاء الذاتي للنص"، كما لو أن هذا النص يولد ويتطور في فراغ، خارج شروطه السياسية والاجتماعية والأنطولوجية.
لقد ساد، نتيجة لهذا التبني غير النقدي، تصورٌ للنص بوصفه "بنية مغلقة"، متعالية على التاريخ، خاضعة لأنظمة من العلامات والبنى السردية، وليس كتمظهر لوعي جمعي أو فاعلية رمزية تُسائل العالم وتُؤطره. وكان لهذا التحول أثر بالغ في تحويل مسار النقد العربي من مساحة الاشتباك مع قضايا الواقع إلى فضاء داخليّ يُعلي من البُنى ويُقصي الدلالات. هكذا، استُنسخت مقاربات مثل نموذج غريماس السيميائي، أو تحليلات تودوروف للأنواع السردية، في قراءات للرواية العربية، غالبًا ما انتهت إلى افتعال هندسة شكلانية تفقد النص أبعاده الرمزية والثقافية.
لكن مع صعود ما بعد البنيوية، ومع تعقّد النظرية الأدبية عبر التفكيك، والتحليل النفسي، ونظريات ما بعد الاستعمار، بدأ هذا الانبهار الأولي يتراجع لصالح موقف أكثر نقدية. إذ لم يعد يُنظر إلى المناهج الغربية كـ"نصوص مقدسة"، بل كمنتجات فكرية تنتمي إلى سياقاتها المعرفية والسياسية. وقد ساهمت هذه المراجعة في ولادة وعي نقدي جديد، أكثر قدرة على تفكيك الجهاز النظري الغربي نفسه، وأقدر على استثمار أدواته في مساءلة المركزيات السائدة، سواء كانت استعمارية أو معرفية أو لغوية.
في هذا الإطار، يبرز مثقفون ونقاد مثل عبد الكبير الخطيبي، الذي دعا في كتابه الاسم العربي الجريح إلى "ازدواجية لغوية نقدية" تُفكك الهيمنة الغربية من داخل خطابها، وتعيد كتابة الذات بلغة مزدوجة واعية بالتشظي والهجنة. كذلك فعل عبد الفتاح كيليطو، الذي ساءل علاقة اللغة بالسرد، والهوية بالترجمة، بأسلوب نظري متين يتكئ على التراث العربي كما يتوسل أدوات النقد الحديث. أما إدوارد سعيد، فهو النموذج الأبرز لما يمكن تسميته بـ"الانتماء المزدوج"، حيث استطاع أن يدمج بين ثقافته العربية وموقعه الأكاديمي الغربي، ليطوّر نظرية الاستشراق التي تعد من أهم المحاولات في تفكيك تمثيلات الآخر العربي/الشرقي في المخيال الغربي، وهو ما فتح الباب أمام تنظيرات ما بعد الكولونيالية عربياً.
وهكذا، فإن النقد العربي لم يعد مجرد "صدى" للمركز الغربي، بل بدأ، في بعض تجلياته، يتحول إلى "موقع نظر" يُنتج المعرفة، ويعيد صياغة العلاقة بين النص والعالم، بين اللغة والهوية، بين المحلي والعالمي. غير أن هذا التحول ما زال هشًا ومتفاوتًا، ويحتاج إلى تراكمات نظرية ومؤسسية تعمّق موقع الناقد العربي في خريطة المعرفة العالمية، دون الوقوع في فخ التبعية أو أسر الأصوليات الثقافية.

● نظرية ما بعد الاستعمار والهوية الثقافية

إذا كانت نظرية ما بعد الاستعمار قد مكّنت النقد العربي من مساءلة العلاقة بين التمثيل والهيمنة، فإن هذا التمكين لم يكن ليحصل بمعزل عن مجمل التيارات النقدية الكبرى التي سبقتها أو تزامنت معها. فمن المهم أن نُقارن بين ما أتاحته هذه النظرية من أدوات، وما كانت توفره البنيوية والماركسية، لفهم كيف تغيّر موقع النص، والذات، والسياق في كل مقاربة.
اعتمدت البنيوية، كما بلورها تودوروف، وغريماس، وبارت، على مقاربة للنصوص بوصفها "أنظمة مغلقة"، تحكمها قوانين داخلية للغة والبنية، مستقلة عن المرجع التاريخي أو نية المؤلف. في هذا الإطار، أصبحت الرواية العربية، مثل ميرامار لنجيب محفوظ أو رجال في الشمس لغسان كنفاني، مادة تُفكك وفق أنماط سردية ونماذج شبه-رياضية للوظائف والدوال، بعيدًا عن سياقها السياسي والاجتماعي. وهكذا، أصبح التمثيل مجرد تقنية لغوية، وانحسر البُعد الأيديولوجي لصالح الصرامة الشكلية.
لكن هذا المنظور البنيوي، الذي حيّد المرجع، اصطدم في السياق العربي بأسئلة لم يكن قادرًا على الإجابة عنها: ماذا يعني أن تُكتب رواية عن فلسطين في خضم النكبة؟ هل يمكن فهم رجال في الشمس فقط من خلال بنيتها السردية دون وعي تاريخي بالهزيمة والنكوص؟ وهنا، بدا أن البنيوية، رغم قوتها التحليلية، غير قادرة على احتواء الغليان السياسي والرمزي للنص العربي الحديث.
بالمقابل، قدّمت الماركسية، خصوصًا عبر أعمال لوكاتش وغرامشي وألتوسير، إطارًا يتعامل مع الأدب بوصفه انعكاسًا للصراع الطبقي، أو جهازًا أيديولوجيًا يُعيد إنتاج أو مقاومة البنية الفوقية. وقد انتشرت هذه الرؤية في النقد العربي منذ الستينيات، مع مثقفين أمثال غالي شكري، ومحمد عابد الجابري في جانبها الفلسفي، وسعيد يقطين لاحقًا في جانبها السردي.
هنا، أصبح النص العربي يُقرأ كموقع للصراع بين القوى الطبقية، وصارت الرواية بوصفها جنسًا حداثيًا تعبّر عن وعي برجوازي مضاد أو مندمج. فعلى سبيل المثال، أُعيد تأويل الحرب في بر مصر ليوسف القعيد كمرافعة ضد البرجوازية العسكرية المتحالفة مع الاستعمار الجديد.
لكن المأزق في النقد الماركسي العربي تمثل أحيانًا في اختزال النصوص إلى "انعكاسات طبقية" تُفرغها من تعقيدها الجمالي واللغوي. كما أن تحوّلات البنية الطبقية في العالم العربي، وهشاشة المجتمع المدني، جعلت بعض المفاهيم الماركسية تبدو مؤدلجة أكثر منها مُفسّرة.
ضمن هذا السياق، جاءت نظرية ما بعد الاستعمار لتتجاوز اختزال البنيوية للشكل، وتبسيط الماركسية للصراع الطبقي، نحو مقاربة تُركّز على "خطاب التمثيل"، أي كيف يُنتج النص صورته عن الذات والآخر، عن السلطة والمقاومة، عن المكان والهامش. ولعل خصوصية هذه النظرية أنها لا تسعى لتفسير الأدب فقط من خلال الصراع الطبقي أو شكلانية اللغة، بل من خلال تمفصلات أعمق: السلطة المعرفية، الجغرافيا الرمزية، الوعي المتشظي، اللغة بوصفها حقلًا للصراع.
في هذا الإطار، تُقرأ رواية مثل موسم الهجرة إلى الشمال بوصفها مواجهة رمزية مع المركزية الأوروبية، حيث لا تُفهم شخصية مصطفى سعيد فقط كشخصية نفسية أو طبقية، بل كـ"نص حيّ" ينكشف فيه الاستعمار المعكوس، إذ يُعيد المستعمَر تمثيل ذاته داخل لغة المستعمِر، في لعبة سردية معقّدة لا تسمح بحسم الهويات.
تكشف هذه المقارنة أن ما بعد الاستعمار لا تلغي البنيوية أو الماركسية، بل تعيد تركيبها ضمن أفق أوسع، يتعامل مع النص العربي بوصفه موقعًا لاختبار الهوية، والذاكرة، والتاريخ، عبر تمفصل لغوي مشحون بالتوتر. وهي بذلك تقترح على النقد العربي أن يتجاوز ثنائية "الوافد والأصيل"، لصالح رؤية هجينة، تعترف بأن الأدب ليس نصًا معزولًا ولا مرآة صافية، بل ممارسة رمزية تتشكل داخل فضاء معقّد من السلطة، واللغة، والتاريخ.

● الترجمة العكسية: من التأثر إلى التأثير؟

رغم الاندفاع الكبير نحو استيراد النظريات النقدية الغربية، لا ينبغي اختزال العلاقة بين الأدب العربي والمركز النقدي الغربي في صورة التلقي السلبي أو الخضوع الأحادي للهيمنة المعرفية. بل إننا، إذا ما دقّقنا النظر في تحولات العقود الأخيرة، سنجد أن ثمة ملامح لما يمكن تسميته بـ"الترجمة العكسية"، حيث بدأ الأدب العربي لا يُقرأ فقط من خلال عدسة النقد الغربي، بل يُعاد إنتاج النقد الغربي ذاته من خلال النصوص العربية.
فمع تزايد ترجمة الأعمال الروائية العربية إلى اللغات الأوروبية، خاصة تلك التي تنتمي إلى ما يُعرف بأدب المنفى أو الشتات، أصبح هذا الأدب يُقرأ ضمن دوائر نظرية ما بعد الكولونيالية، ودراسات الهجرة، والهويات المتقاطعة. هكذا، لم تعد مفاهيم مثل "الهجنة الثقافية"، و"الذات المتشظية"، و"الهوية الحدّية" تُطبَّق على النص العربي فحسب، بل باتت تُساءل وتتسع دلاليًا من خلال هذا النص.
لقد أصبحت بعض المتون السردية العربية، مثل روايات ربيع جابر، وأمين معلوف، والطاهر بن جلون، وحتى كاتب مثل إلياس خوري، تشكّل مادة تحليل في الجامعات الغربية، لا بوصفها "نماذج محلية exotic" بل كنصوص تخلخل المركز وتُربك أنظمة التمثيل ذاتها التي قام عليها النقد الغربي في مرحلة ما بعد البنيوية. بهذا المعنى، لم تعد العلاقة محصورة في أحادية الاستيراد، بل تحولت إلى حقل تفاعلي معقّد، يشهد على ما يمكن تسميته بـ"تأثير الهامش على المركز"، وإن بقي هذا التأثير محدودًا ومشروطًا بسياقات السوق الثقافي، وآليات النشر، والانتقاء الأكاديمي.
وما يلفت الانتباه هنا أن هذا التأثير العربي، وإن جاء متأخرًا، لا يتجلى فقط في النصوص، بل في إعادة صياغة المفاهيم ذاتها: فـ"الهجنة" لم تعد خاصية نظرية تُسقط من أعلى، بل ممارسة سردية تنبثق من تجارب كتابية تشتبك مع اللغة والتاريخ والمكان بشروطها الخاصة. ومن هنا، فإن السؤال لم يعد: هل أثّر النقد الغربي في الأدب العربي؟ بل: إلى أي مدى بات الأدب العربي يشارك في إعادة تشكيل النقد الغربي ذاته؟
●سؤال الخصوصية والكونية

إن التداخل المعقد بين النقد الغربي والأدب العربي لا يلبث أن يثير سؤالًا إبستمولوجيًا شائكًا: كيف يمكن لنقد عربي معاصر أن يستوعب مناهج الحداثة وما بعدها دون أن يتحوّل إلى مجرد صدى تابع؟ وكيف له أن يصوغ أفقًا نظريًا منبثقًا من خصوصية التجربة الحضارية والتاريخية العربية، دون أن ينكفئ على ذاته أو يقع في أسر الانغلاق الثقافوي؟
هذا السؤال، الذي يمس جوهر العلاقة بين المحلي والكوني، لا يمكن حسمه بمنطق المفاضلة أو المفاصلة، بل يتطلب إعادة التفكير في الحدود ذاتها التي تفصل "الخصوصي" عن "الكوني". فـ"الكوني"، في كثير من الأحيان، ليس سوى خصوصية غربية تم تعميمها تحت مظلة التنوير أو الحداثة. ومن ثم، فإن الانفتاح النقدي الحقيقي لا يعني تبنّي المناهج الغربية كأنها معايير نهائية، بل الاشتباك معها بوصفها أنساقًا منتجة للمعنى، ينبغي تفكيكها وسؤالها من موقع الذات العربية، لا على هامشها.
لقد حاول بعض النقاد العرب—من أمثال عبد الكبير الخطيبي، وعبد الله الغذامي، وناصر حامد أبو زيد—تجاوز هذا الانقسام الثنائي، عبر اجتراح صيغ تحليلية تستثمر أدوات النقد الغربي، دون أن تغفل البنية الثقافية والمعرفية للبيئة العربية الإسلامية. فهذه المقاربات لا تتعامل مع النص العربي كمادة خام لمناهج مستوردة، بل كموقع مقاومة وتأويل، حيث تُعاد مساءلة الخطابات، لا بوصفها حقائق، بل كتموضعات قوى وتاريخ.
بهذا المعنى، لا يمكن الحديث عن "نقد عربي حديث" إلا بوصفه مشروعًا مزدوجًا: تفكيكًا للمركزية الغربية من جهة، وبحثًا عن أشكال محلية للمعرفة من جهة أخرى، على ألا تتحول هذه المحلية إلى قوقعة جوهرانية ترفض الحوار، بل إلى تعددية نقدية تنفتح على الآخر دون ذوبان، وتستبطن الذات دون تكلس.
●نحو نقد عربي متعدّد الجذور

إن التأثير العميق والمتشعب للنقد الغربي في الحقول الأدبية العربية لم يكن مجرد حدث ثقافي عابر، بل تحوّل إلى لحظة انكسار معرفي أعادت تشكيل مفاهيم النص والمعنى والذات. غير أن هذا التأثير، الذي بدا في ظاهره تحديثًا، كشف في عمقه عن اختلال بنيوي في علاقة التابع بالمركز، وعن فراغ نقدي داخلي لم تُملأ هوّته إلا عبر استيراد أدوات جاهزة لم تُنتج في السياق العربي، بل فُرضت عليه كمقولات معيارية غير قابلة للمساءلة.
إن الحاجة اليوم لم تعد إلى "نقد عربي يستفيد من الغرب" فقط، فهذا الطرح، رغم وجاهته الظاهرية، يعيد إنتاج المركزية من موقع القبول. ما نحتاجه حقًا هو نقد عربي متعدّد الجذور، يُدرك تشظي المرجعيات، ويعمل على تفكيك بنى التلقي، لا على إعادة ترميمها. نقدٌ لا يكتفي باجترار المصطلح أو إعادة تدوير النظرية، بل يُعيد اختراع لغته ومفاهيمه من صلب الواقع العربي، بشروطه التاريخية، وجرحه السياسي، وإرثه المعرفي المقموع.
النقد، في جوهره، ليس مجرد أداة تحليلية، بل شكل من أشكال الوعي المضاد. هو انحياز فكري، وموقف تاريخي، واشتباك دائم مع أنظمة المعنى ومراكز السلطة. ومن هذا المنظور، فإن أي مشروع نقدي عربي حقيقي لا يمكن أن يُبنى على محاكاة أو تقليد، بل على مساءلة مزدوجة: مساءلة الغرب من موقع غير استعماري، ومساءلة الذات من موقع غير تبريري. فقط حين يتحقق هذا التوتر الخلّاق بين الداخل والخارج، بين الجذر والتقاطع، يمكن الحديث عن نقد عربي يمتلك شرعية إنتاج المعرفة، لا استهلاكها.



#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من يكتب التاريخ؟ في أنماط السرد، ومحو الآخر، ومقاومة النسيان
- زهرة الخشخاش لخيري شلبي/ حكاية البحث عن الوجود والاغتراب الا ...
- موت إلهٍ من بابل
- مجرد ذكرى
- محو الآخر هوامش غير مكتملة
- المركزية البغدادية وهامش المحافظات
- شقشقة عراقية 4 غضب العراقي وحزنه
- شقشقة عراقية 3
- شقشقة عراقية ( 2)
- شقشقة عراقية
- ظهيرة سوق البصرة القديم
- شذرة 15 الدين والتحريم
- شذرة 14 الدين والأخلاق
- حسين منه وهو من حسين
- شذرة 13 الارادة الانسانية
- شذرة 12 العقيدة والانسان
- غدير الاتمام لدين أكتمل/ رؤية شخصية
- ليس شعرا بل واقعة حدثت
- شذرة 10. الفرق الإسلامية/ التوافق والاختلاف
- شذرة 11 الدين والحرب


المزيد.....




- -عيدين بعيد- نانسي عجرم في صورة مع ابنتها ميلا احتفالا بعيد ...
- تقرير يكشف -المفارقة الصادمة- في هجوم واشنطن ومقتل موظفَي سف ...
- مؤتمر صحفي لنتنياهو.. ماذا قال فيه عن غزة؟
- إطلاق نار يقتل موظفيْن في سفارة إسرائيل بواشنطن ونتنياهو يق ...
- ماذا نعرف عن مطلق النار على موظفي السفارة الإسرائيلية في واش ...
- تحت تهديد السلاح... احتجاز محافظ السويداء السورية مقابل الإف ...
- ماذا نعرف عن قصف إسرائيل لمدرسة موسى بن نصير في غزة؟ | بي بي ...
- ماذا نعرف عن محمد السنوار الذي -رجّح نتنياهو مقتله-؟
- فيرنانديز: لا أنوي الرحيل عن يونايتد ولكن النادي قد يضطر لبي ...
- بعد تعرض سفيرها لإطلاق النار.. مصر تطلب توضيحا من إسرائيل


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - رياض قاسم حسن العلي - تأثير النقد الغربي في الأدب العربي: من الترجمة إلى التمثّل