آدم الحسن
الحوار المتمدن-العدد: 8347 - 2025 / 5 / 19 - 20:26
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ انتصار الثورة الشيوعية في الصين في اكتوبر سنة 1949 بقيادة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ و لغاية اليوم دخلت الصين في تجربة غنية بنتائجها و مساهماتها في كتابة التاريخ البشري بأسلوبها الخاص .
كي نفهم حاضر دولة ما علينا دراسة ماضيها , و لكي نتوقع مستقبلها بطريقة اكثر واقعية علينا دراسة حاضرها و ماضيها , ينطبق هذا الأمر على دولة الصين الشعبية بشكل اكثر وضوحا مقارنة بباقي المجتمعات البشرية لكون الصين حالة مميزة , ففي حاضرها يوجد ماضيها القديم جدا من لغة و كتابة و فلسفة و حكمة و دين و عادات اجتماعية بالإضافة الى وجود اسس العلوم الصينية القديمة في الطب و الكيمياء و الفلك و غيرها من العلوم كجذور حية للعلوم الحديثة المعتمدة حاليا في الصين .
من المؤكد إن الحضارة الصينية القديمة هي الحضارة الوحيدة من بين كافة الحضارات الإنسانية التي لازال لها وجود قوي في الصين الحديثة , حيث اعتمدت الصين في نهضتها العلمية و التكنولوجية في عصرنا الحالي على مبدأ التحديث و ابتعدت بقدر كبير عن الحداثة التي اساسها استيراد ما هو حديث كبديل عن ماضي المجتمع .
لقد مرت التجربة الصينية بعد سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على السلطة في الصين بثلاثة مراحل هي :
المرحلة الاولى : مرحلة ديكتاتورية البروليتارية .
بدأت هذه المرحلة منذ انتصار الثورة الشيوعية سنة 1949 لغاية الانتقال الى مرحلة الإصلاح الاقتصادي و السياسي التي قادها الزعيم الإصلاحي الصيني دينغ شياو بنغ .
امتازت هذه المرحلة بكونها نسخة صينية لتجربة البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي حيث اصبحت جميع وسائل الانتاج ملكا للدولة و اختفى تماما القطاع الخاص في الدولة الفتية التي اسس اركانها الحزب الشيوعي الصيني , فقد سيطرت الدولة الصينية على كل مفاصل العملية الانتاجية و التسويق في الصين .
اصبح تنشيط القطاع الزراعي في المرحلة الأولى من بناء التجربة الصينية الحديثة هي المهمة الأساسية الأولى لإنقاذ قطاع واسع من الشعب الصيني من المجاعة بحكم كون الصين في تلك الفترة كانت بلدا زراعيا متخلفا بالإضافة الى التخلف الكبير في قطاعها الصناعي , إن هذا التخلف الكبير في الصين كان بسبب ما يسمى عند الصينين بقرن الذل الذي مرت به الصين , امتد من منتصف القرن التاسع عشر لغاية منتصف القرن العشرين , حيث شُنتْ خلال هذا القرن حروب استعمارية عديدة ضد الصين منها الحرب القذرة التي شنتها بريطانيا ضد الصين في ما يسمى ب " حرب الأفيون الأولى و حرب الأفيون الثانية التي تمكنت بريطانيا من خلالهما من إذلال الصين و ذلك في فرض تجارة الافيون عليها كي يصبح شعبها مخدرا غير منتج , ثم تلت هذه الحروب حروب استعمارية شنتها دول اخرى ضد الصين منها الاحتلال الياباني للصين .
كان تطبيق نظام ديكتاتورية البروليتارية في المرحلة الأولى من من بناء الصين الحديثة أمرا ضروريا و مهما جدا لتوفير متطلبات نهوضها من قعر التخلف و الحرمان و الفقر المدقع .
من المؤكد أن نظام ديكتاتورية البروليتارية الذي طبق في الصين تسبب ايضا في حدوث أخطاء و سلبيات تم تدارك الكثير منها في العملية الإصلاحية التي نفذها الإصلاحي دينغ شياو بنغ , تلك العملية الإصلاحية التي مهدت الطريق لدخول تجربة البناء الاشتراكي في الصين مرحلة جديدة اطلق عليها " مرحلة الثراء اولا ,
المرحلة الثانية : مرحلة الثراء اولا .
طرح القيادي و المفكر الصيني دينغ شياو بنغ فكرة أن المهمة الأولى في هذه المرحلة هي ليس تطبيق المساوات في توزيع الناتج المحلي الكلي للصين بين أفراد الشعب الصيني بل هي زيادة حجم هذا الناتج , و شبه ذلك بقالب الكيك , فاذا كان حجمه كبير و تم تقسيمه الى قطع غير متساوية الحجم فقد تكون اصغر قطعة منه أكبر من قطع قالب الكيك الصغير المقسم الى قطع متساوية الحجم , من هنا جاءت تسمية هذه المرحلة بالثراء اولا , أي إن مهمة هذه المرحلة هي زيادة اجمالي الناتج المحلي للصين .
في عصرنا الحالي هنالك نموذجان بارزان في النظام الاقتصادي العالمي هما النموذج الأمريكي و النموذج الصيني .
النظام الاقتصادي في أمريكا صنعته و حددت قوانينه شركات القطاع الخاص الأمريكي , أما النظام الاقتصادي في الصين فإن الدولة الصينية هي التي كونت شركات القطاع الخاص و هي التي تتحكم و تحدد القوانين التي تعمل بها هذه الشركات .
الكثير من المؤشرات منها الدين العام الأمريكي و العجز في الميزان التجاري لأمريكا مع الدول الأخرى تؤكد أن المجتمع الأمريكي يتحول بشكل تدريجي الى مجتمع مدمن على الاستهلاك و أخذ يستهلك اكثر من ما ينتج , يستهلك من مدخراته أو من بيع قوة عمل العاملين فيه مسبقا لتغطية استهلاكه , دون معالجة هذا الخلل الكبير فأن مشاكل الاقتصاد الأمريكي ستبقى في تصاعد مستمر , لذا فأن ما يقوم به الرئيس الأمريكي الحالي ترامب من إجراءات هي لإنقاذ الاقتصاد الامريكي من أزماته التي قد تؤدي الى الأغلاق الحكومي في أمريكا حين تعجز الحكومة الفدرالية من دفع رواتب موظفيها و كذلك الى العجز في سداد الديون الخارجية و الداخلية المتراكمة عليها و التي تجاوزت عتبة ال 36 ترليون دولار .
المرحلة الثالثة : مرحلة الرخاء المشترك .
هنالك جانبان في هذا الرخاء , الجانب الاول هو رخاء مشترك ضمن الحدود الوطنية للدولة الصينية و الجانب الثاني رخاء مشترك بين الصين و الدول الاخرى .
إن الداعمين لنظام اقتصاد السوق الحر المطلق يعتبرون التنافس هو العنصر المحرك الوحيد للتطور و بدونه تتوقف عجلة التطور , أي أن الشركات في ظل نظام التنافس الحر تعمل على إنتاج افضل ما يمكن انتاجه للفوز في المنافسة في السوق , أما التجربة الصينية فهي لا تعتبر أن المنافسة هي العامل الوحيد للتطور و إنما هي أحد العوامل الأساسية للتطور , فتدخل الدولة يمكن أن يكون هو العامل الحاسم في تحقيق التطور الممنهج و المخطط له و السريع , و في الأسواق الخارجية فأن الفرص المتاحة للاستثمار و تلبية الطلب المتزايد في هذه الأسواق هي أوسع بكثير من قدرة جميع المنتجين في العالم و بالتالي ليس هنالك ضرورة للتنافس و إن الشراكة ممكن أن تحل محل التنافس باعتبارها الخيار الأفضل لجميع الشعوب .
لقد سقطت نظرية نهاية التاريخ للكاتب فرانسيس فوكوياما و كذلك سقطت اطروحة صِدام الحضارات للكاتب صامويل هنتنجتون , فقد طرحت الصين مبادرة مهمة يمكن من خلالها بناء المرحلة الأخيرة لتاريخ البشرية , و هي نهاية واقعية لهذا التاريخ , تعتمد هذه المبادرة على الأمور التالية :
أولا : تعزيز بناء عالم متعدد الأقطاب لا تستطيع فيه أي دولة فرض هيمنتها على دول اخرى , يتم ذلك بشكل اساسي من خلال تعزيز استقلال و تحرر القرار الوطني لكافة بلدان العالم لتمكينها من اتباع سياسة وطنية تخدم بلدانها , فكما تعمل إدارة الرئيس الأمريكي ترامب من أجل أمريكا أولا ستشجع المبادرة الصين كافة الدول لإتباع سياسة " وطني أولا " .
ثانيا : العمل على نشوء حضارة انسانية مشتركة جامعة لكل شعوب العالم من خلال اندماج الإرث الإيجابي للحضارات الإنسانية كافة , لتشكيل حضارة انسانية جديدة شاملة .
ثالثا : عدم تدخل الدول بالشؤون الداخلية للدول الأخرى و احترام تجارب كافة الشعوب و خصوصيتها .
رابعا : العمل على تحقيق الامن العالمي المشترك الذي يؤسس حتما لمصير مشترك للبشرية .
خامسا : جعل الخصوصية و الفردية اساس تعتمد عليه ثقافة المستقبل دون أن يكون هناك تعارض بين الثقافة الفردية و متطلبات الثقافة الجمعية للمجتمع .
سادسا : تطوير الأخلاق الإنسانية , إذ إن التقدم التقني و العلمي دون تقدم اخلاقي هو أمر في غاية الخطورة و هو الذي انتج الحروب بين الشعوب , لذا لا بد أن يكون التعايش السلمي بين الشعوب كافة هو العمود الفقري للحضارة الإنسانية الشاملة التي سترسم نهاية مشرقة للتاريخ البشري .
إن نهج الحزب الشيوعي الصيني في بناء الاشتراكية في الصين ذات الخصائص الوطنية التي تعتمد على اركان اساسية ثلاثة هي الديمقراطية الشعبية و اللامركزية الإدارية و الدمج الواقعي بين متطلبات اقتصاد السوق و الاقتصاد الموجه هو نهج أكثر واقعية و امتداد حقيقي لفكر كارل ماركس و تصوره لمسار التاريخ البشري .
#آدم_الحسن (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟