أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - السيد إبراهيم أحمد - قراءة في كتاب: -بين الأبنودي والسويس: تجربة وطن-..















المزيد.....


قراءة في كتاب: -بين الأبنودي والسويس: تجربة وطن-..


السيد إبراهيم أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 8343 - 2025 / 5 / 15 - 07:31
المحور: قضايا ثقافية
    


لقد سد كتاب: "الأبنودي ـ السويس: تجربة وطن" للدكتور عبد الحميد كمال ثغرة كبيرة في المكتبة التاريخية المصرية عامة والسويسية بشكل خاص، ذلك أنه رصد أيام إقامة الشاعر الكبير الراحل عبد الرحمن الأبنودي بمدينة السويس، في الوقت الذي يوجز من يتناول تاريخ الرجل عن هذه المرحلة في سطر أو بعض سطور، وهو ما يُحسب للكاتب في حفظ كل ما يتصل بتلك المدينة من أحداث وضمها في كتاب لتبقى إرثًا خالصًا لأجيال سويسية قادمة تعتز بهويتها وتاريخها.

صدر هذا الكتاب عن سلسلة كتاب سواسية رقم (5) الصادر عن دار مؤسسة سواسية، في 2016م، وحقوق طبعه محفوظة للمؤلف.

تضم صفحات الكتاب البالغة (224) صفحة من القطع المتوسط: إهداء ومقدمة وعدد من الفصول تضم موضوعات رئيسة وأخرى فرعية. وجاءت عناوينها متتالية على النحو التالي:

"الأبنودي .. السويس.. لماذا؟!"، "بورتريه المفتون"، "السجن قبل السويس"، "عشق السويس"، ويأتي تحت هذا العنوان موضوعات فرعية: [الشعر، الأوبريت المسرحي، الأغاني العاطفية، سيدات السويس، الإنسانية بين فاطمة وحراجي، الأغاني الوطنية، جغرافيا السويس، المثقفون]، "ذاكرة الكاتب"، "الخلاصة".

يمكن اعتبار الفصل الذي بدأ به الكاتب، وعنوانه: "الأبنودي .. السويس.. لماذا؟!"، مقدمة للكتاب، والتي أعلن من خلالها عن تساؤلاته الحيرى حول دوافع الأبنودي لحب مدينة السويس وعشقه لأبنائها وتاريخها، وقد أتت هذه الأسئلة على التوالي:

ـ هل هناك "مقاربة" وليس مقارنة بين أبنود والسويس في مواقفهما الوطنية؟

ـ هل الطيبة والتدين وعتبات الحج من ميناء السويس إلى أراضي الحجاز كانت تشكل دافعًا له؟

ـ هل هناك مقاربة بين مسجد ومقام عبدالله الغريب بالسويس ومسجد ومقام عبد الرحيم القنائي بمحافظة قنا؟

ـ هل انحياز الأبنودي لليسار ولهموم الوطن والطبقات الشعبية وتجرية سجنه التي صقلته، هي التي جعلته يعيش الواقع بين أبناء السويس من العمال والفلاحين والفقراء وأبطال وفدائي المقاومة من خلال المعارك الوطنية التي آمن بها دفاعًا عن قضايا بلاده، مبتعدًا عن طنطة المثقفين؟

ـ هل كان الدافع لعشق الأبنودي للسويس يقف وراءه علاقته بأبناء بلده أبنود من المقيمين بتلك المدينة سعيًا وراء الرزق؟

يجيب الدكتور عبد الحميد كمال بأن: (كل هذه الأسباب مجتمعة يمكن أن تكون سبيكة قوية وراء أسرار حب الأبنودي للسويس، وأن تكون السويس بالنسبة له "تجربة وطن"). ولهذا كان هذا الكتاب الذي يسعى كاتبه للكشف عن الظروف الموضوعية لتلك التجربة التي نشأت بين الشاعر عبد الرحمن الأبنودي وبين السويس.

حرص الكاتب على أن تكون مراجعه متنوعة بين الكتب، ودواوين الأبنودي، وشهادات صادرة عن معاصرين للشاعر وممن زاروا السويس، ومَحَاضر نقاش أجراها الكاتب مع الكابتن غزالي، والريس كابوريا، والشاعر محمود الخطيب وكلهم من أعضاء فرقة "ولاد الأرض" وممن عاصروا الشاعر الراحل وعايشوه، كما رجع الكاتب إلى الأفلام والبرامج التي تناولت سيرة حياة الأبنودي أو لبعض الحوارات التي أجريت معه، وبعض أعداد من الجرائد والمجلات، وكذلك بعض المناسبات الحية التي حضرها الأبنودي وعاصرها الكاتب، مما أعطت للكتاب موثوقية خاصة قد لا تتاح لكتَّابٍ غيره إلا أولئك الذين أجروا مع الأبنودي حوارات أو مقابلات ثم صدرت في كتب.

حرص الكاتب على أن يأتي القسم الأول من الكتاب بانوراميًا تمهيديًا يتناول عبد الرحمن الأبنودي الشاعر الكبير ومكانته وموقعه على خريطة شعر العامية المصرية، من أجل أن يعرف القارئ حجم وقيمة وقامة المبدع الذي سيتلقى إبداعاته في الفصول القادمة، وأيضا يقدم جانبا حياتيا من سيرته، وقد أحسن دكتور عبد الحميد كمال حين ضم "بورتريه المفتون" للكاتب والروائي الكبير خيري شلبي الذي قال فيه:

(الأبنودي خارج المنافسة بين جميع أبناء جيله سواء من كتبوا بالعامية أو من كتبوا بالفصحى، لأن أكبرهم جميعًا لا يصمد أمام المقارنة لا من حيث غزارة الإنتاج، ولا من حيث النوعية والخامة والقماشة والصنعة والتفصيل ... المنجز الشعري للأبنودي كثير كبير متنوع، لقد نقل لغة التخاطب اليومي إلى الشعر، ونقل الشعر إلى لغة التخاطب اليومي؛ فكتب الرسالة من "بعد التحية والسلام" إلى "جوابات حراجي القط"، وكتب الرواية الشعرية "أحمد سماعين" وكتب الأمسية الدرامية، ناهيك عن دواويته الكثيرة التي تعتبر علامات في تطور القصيد المصري: "الأرض والعيال"، "الزحمة"، "الفصول"، "صمت الجرس"، "المشروع والممنوع"، "ناجي العلي"، ناهيك عن فن البورتريه الشعري في "وجوه على الشط").

أما في فصل "السجن قبل السويس" الذي يضمه نفس القسم، حرص الكاتب على ضم العديد من شهادات الشعراء والأدباء والسياسيين والكتَّاب، منهم: الكاتب الصحفي السويسي محمد بغدادي، والدكتور رفعت السعيد، والكاتب أسامة عرابي.

يمكن القول أن فصل "عشق السويس" ومايليه هو القسم الثاني من الكتاب، غير أن هذا الفصل هو التمهيد الموجز لموضوعات الكتاب التي سيتناولها الكاتب بالتفصيل عبر الفصول التالية، والتي تتمحور حول أشكال متعددة من إنتاج الأبنودى حبًا في السويس والوطن سواء في الشعر أو كتابة الأغانى أو كتابة الأوبريت المسرحى وحتى في كتابة النثر من خلال مذكراته الشخصية، على النحو التالي:

ـ الشعر:

ـ السويس في دواوين الأبنودي:

ـ ديوان: "جوابات حراجي القط إلى زوجته فاطنه أحمد عبد الغفار" (1969 ـ1977 ـ 1985):

وجبلاية الفار قرية صغيرة فى السويس، يقول الأبنودى في مقدمة هذا الديوان: (عشتُ النكسة وحرب الاستنزاف فى السويس بين فلاحين وصعايدة لا يختلفون عن "فاطنة وحراجى"، وفى ضحى يوم شتائى مشمس هتف لى "حراجى" اصطحبت أوراقا وأقلاما وفرشت لى "سيدة ابنة عم إبراهيم أبو العيون" حصيرًا تحت شجرة مشمش خلف بيتهم على شاطئ قناة السويس لتندلع الرسائل متتابعة.. وفى الليل كانوا يشعلون لي لمبة الجاز لأنكفئ على الطبلية حتى اكتمل كتابة الديوان فى أسبوع ودفعته للمطبعة دون مراجعة).

يجمع الدكتور عبد الحميد كمال تعليقات بعض النقاد والأدباء الذين قرأوا الديوان المشار إليه، وهم: الصحفي علي السيد، الروائي والكاتب الصحفي دكتور ناصر عراق، دكتور أحمد درويش، الناقد إبراهيم فتحي، والشاعر والكاتب شعبان يوسف، والناقد وجيه القاضي. وهذا صنيع جيد من الكاتب في حرصه على جمع بعض الأقوال لغيره من المتخصصين في تناولهم أو نقدهم لأعمال الأبنودي، وسنجد تكرار لهذا الصنيع في الأعمال القادمة التي تناولها.

ـ وجوه على الشط: (1975 - 1978) قصيدة طويلة:

يقول دكتور عبد الحميد كمال: (كانت السويس ملهمة للأبنودى الذى أحبها حين كتب ديوانه "وجوه على الشط"، ويكتب الخال عن مواطنين بسطاء ومن أبناء السويس لا يُعرَف عنهم الشهرة أو النجومية، فنجد قصائد تحمل أسماء أبناء الجناين فى السويس تتصدر قصائد الديوان عناوين للشعر الجميل عميق المعنى فنجد شخوصا عادية تحمل أسماء قصائده الشعرية فى ديوان وجوه على الشط منها: إبراهيم أبو العيون، سيد طلب، إبراهيم أبو زعزوع، أب سلمى، أم على، فتحية أب زعزوع، سيدة، البت جمالات، محمد عبد المولى، الحاج على وسيد طه، وجوه وشخوص من دم ولحم).

ـ ديوان "بعد التحية والسلام" وديوان "أنا والناس":

يقول الكاتب: (فى ديوان "بعد التحية والسلام" نجد خطابين من الرسائل الشعرية، الأول "من الراجل اللى مات في فحت الكنال"، وبالعكس نجد الرسالة الثانية ردًا "من الكنال إلى الراجل اللى مات في فحت الكنال"... وهكذا نجد حب السويس عبر دواوين وأشعار الأبنودي، ويستمر الحب نجد أنفسنا أمام ديوان "أنا والناس" لنقرأ قصيدة "كابوريا" عن ابن السويس الذي يحمل نفس الاسم عضو فرقة "ولاد الأرض" التي كانت تغنى للمقاومة وتشير للنصر وترفض الهزيمة، وفى ذات الديوان الحديث عن محمد حسن عضو فرقة "أولاد الأرض" والمعروف باسم "النمس" والكابتن غزالى وباقى أعضاء الفرقة وما بينهم من علاقات إنسانية ومشاغبات أثناء كواليس عمل الفرقة، أما القصيدة الثانية في الديوان فكتبها الأبنودى عن مبارك طايع ابن القطاع الريفى بالمدينة).

ـ "جغرافيا السويس":

تتبع الكاتب الأماكن التي ارتادها الأبنودي أو عاش فيها طويلا أو قليلا، وكتب عنها أو فيها خلال دواوينه، وبذل جهده في جمعها في كتابه تحت عنوان: "جغرافيا السويس"، وقد بدأها بمنزل الأبنودي بمنطقة شندورة بالجناين، وعلاقة زوجته الأولى بالسويس عملا وإبداعا، وزوجته الثانية التي عاشت بعض سنوات من طفولتها فيها، ومسحد سيدي عبدالله الغريب، وبورتوفيق، وحي زرب، والزيتية، والسماد، وجبلاية الفار، وجبلاية أبو عارف، وجبلاية السيد هاشم، وكبريت، ومحطة المياه.

أحسن الكاتب حين سار مع المهجرين من أهل السويس خارج جغرافية مدينتهم بأماكن إعاشتهم في بلاد التهجير، وتحت هذا العنوان يأتي بأبيات الأبنودي التي امتدت مع جغرافية عشقه حيث يسكن السوايسة في بلاد الغربة، وتبقى مفردات ومعاني هذه القصيدة خير وثيقة، والأبنودي خير شاهد، وكمال خير راصد حين ضمنَّها كتابه لتبقى ماثلة أمام الأجيال القادمة؛ فلم أقرأ قصيدة مثلها استبطن الشاعر فيها نفسيات المهجرين ومعاناتهم، وكسرة قلوبهم حين غادروا بيوتهم واستوحشتهم وبكوها وبكوا عليها وعلى أيامهم الجديدة، وحين عادوا في بعض الأوقات إلى أراضيهم وبيوتهم، وفي عيون المقيمين نظرات عتاب لهم، وفي عيون العائدين مؤقتا كسرةً وحسرة. لقد وثَّق الأبنودي جزء من تجربة السويس الوطنية في تدميرها وتهجيرها.

ـ "الأوبريت المسرحي":

لم يكتفِ الأبنودي بقصائد دوواوينه وأغانيه في عشق السويس وتخليد ما عاشه من بطولات أهلها فكتب أوبريت "يوم من عمر الوطن" الذي يشيد فيه بأبطال المقاومة الشعبية والفدائيين الذين شاركوا وكونوا "منظمة سيناء" بالتعاون مع المخابرات المصرية للقيام بأعمال فدائية ضد العدو.


ـ "النثر والمذكرات الخاصة: أيامي الحلوة":

رصد الكاتب مذكرات الأبنودى الخاصة التي أطلق عليها في كتابه النثرى الوحيد "أيامى الحلوة"، وكيف تأثر بالكابتن غزالى، قائد فرقة ولاد الأرض بالسويس، وكتب عن طه غزالى البسطاوى، العم الحقيقى للكابتن غزالى في أبنود، وصديق الطفولة "عطيتو" الذي هاجر من أبنود، وأصبح تاجرًا للفاكهة والخضار بالسويس، ويرى كمال أن أجمل ما كتبه الأبنودي من مذكرات ساخرة فكان عن طفولته في السويس بين الأهل والأقارب من خلال حلقة من تلك المذكرات النثرية كان بعنوان "عيال قرود"، وكلها تتحدث بشكل عميق وبسيط عن حب السويس.

ـ "الأغاني الوطنية والعاطفية":

يذكر الكاتب أن الأبنودي قد خلَّد اسم السويس وكتب أفضل أغانيه "يا بيوت السويس" التى أحبها ... كما غنى لحب الوطن الفنان العزيز الجميل "عربى بوف" قصيدة "الخال":

"والله لبكرة يطلع النهار يا خال.. وتبقى الدنيا عال.. والشمس تيجى من ورا الجبال يا خال.. بحلم يا خال بيوم معدول يفرش ضياه على الفلاحين يملأ صوامعهم غلال ويبيض العجين.

كما ذكر دكتور عبد الحميد كمال بعض الأغانى العاطفية التي كتبها الأبنودى متأثرا بالأجواء الجميلة لمنطقة جناين السويس أو بساتينها والحدائق المميزة وتحت أشجارها المزهرة الجميلة والمثمرة أيضا بالبرتقال والعنب والمشمش السويسى.

ـ "سيدات السويس":

لقد ذكر الأبنودي بعض سيدات السويس في قصائده: فاطمة أحمد عبدالغفار، البت جمالات، فتحية أبو زعزوع، أم علي، وسعاد بلير.

رصد الدكتور عبد الحميد كمال في القسم الثالث من الكتاب تجربة الأبنودي الوطنية على أرض وبين أهل السويس والفدائيين وأولاد الأرض، فأورد تحت عنوان "الخلاصة" شهادة الشاعر عبد الرحمن الأبنودي نفسه عنها، وبدوري سأختار منها بعض قبسات:

يقول الأبنودي: (بعد النكسة، لم يعد في القاهرة غير الحزن وجلد الذات. لذا حملتُ متاعي القليل ـ ملابسي يعني والكتابين ـ ورحلت إلى السويس لأعيش على شاطئ القناة مع الفلاحين من الأقارب والأصدقاء، هناك في جناين السويس عشت مع أسرة عمي إبراهيم أبو العيون، مع أم علي وعلي وجمالات وسواهم من أبطال ديواني "وجوه على الشط". قضيت السنوات الأولى من حرب الاستنزاف هناك في مواجهة مع علم العدو الذي كان يرفرف أمامنا على الضفة الأخرى ومع جنود العدو أراهم وأسمع شتائمهم التي يوجهونها إلينا).

يضيف الأبنودي: (نسج فلاحو السويس ـ ببساطة ومن دون دعاية ولا افتعال ـ واحدة من أعظم ملاحم الصمود حين أصروا على البقاء متمسكين بأرضهم على شاطئ القناة ولم يرحلوا عنها. لم يقبلوا أن يتحولوا إلى «مهاجرين» بل تمسكوا بـ«وطنهم» المحاط بالموت والفزع، المستهدف بالصواريخ والغارات. من هؤلاء الفلاحين استمعت إلى قصص الجنود الذين عادوا من سيناء بثياب مهلهلة وأقدام متورمة من المشي الطويل وكيف كانوا يستقبلونهم بالطعام ـ الذي لم يكن يتجاوز أحيانا كسر خبز هي كل المتاح ـ والشراب كما يستقبلونهم بالماء المالح والبصل المدقوق لتخفيف أورام القدمين والعلاجات البسيطة لتسكين الجروح. كان على هؤلاء الفلاحين ـ وكأنهم أدركوا مهمتهم ـ أن يكونوا أول من "يمتص مرارة" الجنود المصريين الذين اضطروا إلى الانسحاب من سيناء و"امتصاص المرارة" هو التعبير الذي أطلق على مهمة معسكرات استقبال هؤلاء الجنود التي أقيمت في القاهرة والمدن المصرية. كان فلاحو السويس يبثون الطمأنينة في نفوس هؤلاء الجنود الذين كانت تداهمهم نوبات عصبية، تدفعهم إلى الجري عبر الحقول بينما القنابل والصواريخ ما زالت تتساقط من الضفة الأخرى!).

يعبر الأبنودي عن دهشته من فلاحين الجناين بالسويس، فيقول: (مع بداية حرب الاستنزاف طلبت الحكومة من هؤلاء الفلاحين أن يهاجروا. وفرت لهم أرضًا بديلة يزرعونها في مناطق أخرى مثل أبيس وسمالوط. منحتهم المواشي والإعانات والقروض لبدء حياة جديدة. كان سكان مدن القناة هجروها، والحرب التي بدأت "حرب الاستنزاف" تضاعف خطر البقاء فيها لكن الفلاحين على الشط رفضوا التهجير بكل مغرياته وتمسكوا بأرضهم بكل ما فيها من مخاوف ومتاعب. أصروا على البقاء وواصلوا حياتهم كما هي ومعهم رأيت عودة الجنود مرة جديدة وإعادة بناء الجيش وحفر الخنادق في التلال الرملية لمواجهة العدو. رأيت جنود منظمة سيناء الثورية التي تكونت من شباب السويس الذين كانوا يعبرون القناة ليقوموا بعملياتهم الفدائية).

يقرر الأبنودي بعد كل هذا الإقامة الاختيارية بين أهل السويس، فيقول: (كان لا يمكن أن أتخلى عن هذا الكنز العظيم، عن روح الشعب التي رأيتها تصنع الحياة من قلب الدمار وتواصلها في مواجهة الحرب. هناك كانت المعاني بسيطة وحقيقية وتساقط من ذاكرتي كل الزيف).

يعلن الأبنودي ثورته على المثقفين، فيقول: (عرفتُ أن المثقفين في واد والحقيقة في واد آخر. عرفت أنهم يكتبون عن حرب لم يروْها ولا يعرفون عنها شيئا. يتحدثون عن الشهيد الذي يحتضن الوطن ويموت مبتسما، وهو كلام أبله لأن وجه الشهيد يكون مليئا بالألم والفزع لكن البطولة الحقيقية هي في إصراره على خوض المواجهة، في تمسكه بالدفاع عن وطنه وسيره في الطريق الذي يعرف أن الموت يتربص به على طوله وعرضه.

كان المثقفون يأتون لزيارة السويس لا لمعايشتها، للفرجة على الحرب لا للمشاركة فيها. يكتفون ـ حين يأتون إلينا ـ برؤية البيوت التي هدمتها الحرب وترديد الأغاني الحماسية مع فرقة «ولاد الأرض» وهي فرقة كونها الكابتن غزالي لأداء أغانٍ وطنية ذات طابع شعبي بألحان بسيطة على آلة السمسمية وهي آلة وترية شعبية. بعد الفرجة على البيوت المهدومة وترديد الأغاني يعودون إلى بيوتهم شاعرين بأنهم أدوا المهمة).

يختتم الأبنودي شهادته التاريخية عن السويس، فيقول: (أعتبر أن تجربة السويس هي أفضل ما عشتُ في حياتي بعد تجربة أبنود والسد العالي والاعتقال والحرب).

لا يجد كاتب المقال غضاضة في أن يضم إليه مقولات لم يوردها دكتور كمال عبد الحميد في كتابه الذي نحن بصدده، لكنها تؤكد صدق ما جاء فيه، وما جمعه الكاتب من أقوال، وما توصل إليه من تقييم لتجربة الأبنودي في السويس، ويضيف فائدة للقارئ تصل به إلى عين اليقين في أن تجربة السويس كانت إضافة ثرية لإبداع شعر العامية المصرية، وشعر المقاومة، واستنهاض الأمل في النفوس، ورفض اليأس والانهزام، ولقد كنا نظن ونحن في بلاد التهجير أن فرقة "ولاد الأرض" هي التي أمدتنا بالأمل، ومعها أغاني الأبنودي الوطنية، لنكتشف من توثيق الأبنودي لتجربته: وطنية شعب السويس من الفلاحين والبسطاء والنساء والمثقفين ممن رفضوا التهجير، وأنهم هم من أمدوا فرقة ولاد الأرض والأبنودي نفسه ليس بـ "زخات الأمل" بل بالوابل الصيب منها، ومعًا لمزيد من قبسات الأبنودي الصادقة، الكاشفة، المؤكدة لما جاء في الكتاب:

(كان الشاب "عريان البدن.. وبدراعاته المكشوفين" القادم من أبنود محملا بموهبة عارمة تتدفق منه إلى شرايين العاصمة قصائد وغناء فرديا وجماعيا، حتى جاءت تجربة "الاعتقال" لتضع حاجزا قسريا أمام هذا الفيض ثم جاءت النكسة التي جعلت الأبنودي يتخذ قرارا مصيريا، قرارا اتخذه الحفيد عبد الرحمن كأنه يستعيد به ذاكرة الجد "قنديل" الذي راح إلى السويس يعمل فيها حتى وافاه الأجل).

(كان جدي يعيش في مدينة "السويس" على شاطئ القناة، مع الكثير من أبناء الصعيد، الذين يحتفظون، إلى اليوم، بأصولهم وما زالت السويس تنسبهم قائلة إنهم "قنائية"، من محافظة قنا، أو"سوهاجية"، من محافظة سوهاج وتنسبهم أيضًا إلى قراهم التي جاءوا منها، ثم إلى أصولهم القبلية والعائلية. من هؤلاء كان "الحاج قنديل" الذي لم يكن يعود إلى "أبنود" إلا بعد انقضاء موسم الفاكهة. في المشهد التالي مباشرة، أذكر جدتي "ست أبوها" قادمة من السويس في ملابسها السوداء وهي تنوح بعدما دفنت "الحاج قنديل" الذي رحل عن الدنيا وهو في بلاد الغربة!).

يقارن الأبنودي ساخرًا بين مناضلين المظاهرات ومناضلين شعب السويس، فيقول: (قبل أن أخرج من مصر، كانت المظاهرات تملأ ميدان التحرير مُطالِبةً بالحرب، وكنت مع الفلاحين على شاطئ قناة السويس أتابع تجربة معايشة ورصد ملحمة صمودهم وملحمة حرب الاستنزاف التي لم يقترب منها واحد ممن اعتبروا أنفسهم مناضلين لمجرد المشاركة في مظاهرة! كنت أضحك بيني وبين نفسي من المقارنة بين ما يسطره الجنود والفلاحون على شاطئ القناة وما يفعله هؤلاء الذين اكتسبوا ثوريتهم من الدوران الهاتف في الميدان نفسه يوميا!

وكانوا كلما أمعنوا في إظهار عدائهم أمعنت في ممارسة تجاهلهم والاهتمام بالتجربة التي أشارك فيها فلم يكن ممكناً أن أضيِّع فرصة الشهادة على تلك اللحظة التاريخية النادرة على شاطئ القناة، نظير "الزعيق" الذي حفظنا ما كان يردده رغم أننا لم نشارك فيه. زعيق كان بالنسبة إلي معروف البداية والنهاية، بائساً يخلع صفة الزعامة على كل من هتف معلقا فوق الأكتاف، يشارك فيه المشاركون كأنه "وظيفة" يفرغون منها ثم يعودون إلى بيوتهم! بينما تظل تجربتي عن قناة السويس وما جرى فيها وحولها وذلك الديوان الذي كتبته "وجوه على الشط" شهادة فريدة معاشة دفعت ثمنها بالوقوف على حافة الموت، والحياة على قطرة ماء وكسرة خبز، وعرفت عن الحرب ما لا يعرفه إلا المجربون).

يقول الأبنودي في حواره مع الكاتب سمير أبو الحمد: (أثناء وجودي على الجبهة بحرب الاستنزاف لمدة ثلاث سنوات ونصف، استطعت أن أكتب أهم أغنياتي: "موال النهار" و"المسيح" و"بيوت السويس" وملحمتي "وجوه على الشط". فمصر لا تستشعر روحها في المدن المزدحمة، ولا في القرى الساكنة وإنما في بعض البؤر الخاصة. هذه الروح كانت موجودة أيام عبد الناصر، لكن نفتقدها الآن. فمثلاً أثناء بناء السد العالي ذهبت إلى هناك وسط العمال والفلاحين، وكتبت أهم دواويني: "جوابات حراجي القطن". حين أذهب لأي مكان، لا أدون مذكرات كما يفعل البعض، إنما أعيش التجربة وأنساها، وعندما تنضج الفكرة بداخلي يخرج هؤلاء الناس في صورة قصائد).

يجيب الأبنودي على سؤال دكتور إبراهيم أبو طالب في حواره معه عام 2003م عن أخصب مرحله شعرية في تجربته، وهل كتب أجمل ما لديه؟ فقال: (طبعًا مرحلة الستينيات كانت مرحلة ثراء وطني، ونضال عربي، وضَجيج ثقافي، وأنا أعتبر نفسي ابن تلك المرحلة، مرحلة الستينيات بكل ما فيها من إنجازات وإحباطات، ولقد عبَّرت عن ذلك سواء في الشعر أو في الأغنيات، لقد كتبتُ ديوانا كاملا اسمه "جوابات حراجي القط إلى زوجته فاطنه أحمد عبد الغفار"، وهي رسائل شعرية متبادلة عبرَ ديوان كامل لعامل بسيط من عمال السَّدِّ العالي، وهو أهم إنجاز وطني للفترة الناصرية، كذلك ذلك الديوان المسمَّى "وجوه على الشَّط".

وهو عن الفترة التي قضيتها تحت وابل النيران، وأمام جنود الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب الاستنزاف، وعايشت فيها الفلاحين والجنود، وتعرضت فيها للموت أكثر من مرة، لا شكَّ أن تلك الفترة كانت مُلهمة بصورة فريدة، ولقد كتبت أغنيات سكنت الضمير الوطني حتى الآن مثل: "موال النهار"، و"احلف بسماها وبترابها" لعبد الحليم حافظ، و"بيوت السويس" لمحمد حمام وغيرها عشرات).

(بعد خروجي من السجن، اتجهت إلى المدينة التي عشقتها وعشقت روحها وتغزّلت بشجرها العالي، مدينة السويس، وظللت بها فترة، لأجد شِعري مرةً أخرى لا يكف عن السكوت في عقلي، وترد المدينة الباسلة على حبي بحبٍ أكبر اتضح في سيل من الأشعار التي تحولت كالبساتين في مخيلتي، أنتقي منها ما أشاء من زهور ورياحين).

إن ما يؤكد أن تجربة السويس وجغرافيتها أنها عاشت ومازالت تعيش في قلب وعقل ووعي وذاكرة الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي تلك الأبيات التي ضمها كتاب: "مربعات الأبنودي" عام 2014م:

ومن (الزيتية) لـ (زرب) لـ (الهويس)

دماكو سالت تاني زيَ زمان

ولو انه من أيام (بيوت السويس)

الدم لسه بيصبغ الجدران


يخاطب الأبنودي محاورته اعتماد عبد العزيز الصحفية بمجلة أدب ونقد عام 1985، فيقول: (في عام 1967 حبن حدثت النكسة وأصيب المثقفون باليأس والإحباط، خرجت من القاهرة وذهبتُ للحياة في السويس مع الجنود والفلاحين الذين رفضوا الهجرة .. وأظن أن ما كتبته في ذلك الوقت يُعد من أفضل الأشعار التي كتبتها على الإطلاق سواء على مستوى الشعر أو الأغنية، أو على مستوى تجربة الشعب حبث نقلتُ التجربة النبيلة جدًا للشعب المصري في هذه الظروف).

لقد عاش الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي تجربة السويس النبيلة، وكان شاهدًا عليها، بل أمينا عليها حين نقلها توثيقا شعريا ونثريا، ورصدها الدكتور كمال عبد الحميد الذي أحب الأبنودي الشاعر والإنسان، غير أن حبه لمدينته السويس كان هو الحب الأكبر الذي من أجله تتبع شعر الأبنودي وأغنياته ونثره ومذكراته من أجل أن يلملم شتات أبياته وكلماته التي قالها في أرض السويس، وشوارع السويس، ومباني السويس، وأبطال السويس، وسيدات ورجال السويس، ويضمها كأيقونة عشق خالدة في ذاكرة السويس كتاب، تتناقله الأجيال، وخبيئة نبيلة مصنوعة بالدم والكرامة والعزة، تشهد ببسالة المدينة التي قهرت عدوها، وما زال الأحفاد كالأجداد تجري في شرايينهم دماء المقاومة الساخنة النقية.



#السيد_إبراهيم_أحمد (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- “في رحاب الهندسة والشعر والرواية: حوار مع الأديب سعيد يوسف”
- موقع التراث العلمي العربي الإسلامي في الفكر الاستشراقي...
- حين يكون الفكر رسالة... والقلم جسرًا للنور ..
- البنية المكانية في رواية -من أجل ذلك- لِ: خالد الجمال..
- سفراء المعرفة العرب بين المعاصرة والتراث..
- القفلات المدهشة وجمالياتها في القصة القصيرة جدًا:-بدون إبداء ...
- طهطاويون منسيون: -أَنْطُون زِكْرِي- أنموذجًا..
- قراءة في ديوان -فوق ختم العودة- للشاعر عادل نافع..
- استلهام التاريخ وتوظيفه في مسرحية: -يوم الطين- لخالد الجمال. ...
- الأب: بين النفي الجندري.. وإشكالية الرجل/الأم..
- تيار الوعي في رواية -الدخان- ل -أبا ذر آدم الطيب-..
- الروائي السوداني بين التحديات والإنجازات..
- -الإسراء والمعراج- في الفكر الاستشراقي ....
- بعض قصائد السنوسي في ضوء -اللحظة الراهنة الممتدة- ...
- رتوش -هزاع- على وجه الدين والوطن..
- -الذات-: بين الاسترداد والحسرة الوجودية: قراءة في ديوان -درو ...
- انهيار الحركة الإنسانية: بين رؤية -بلوك- وسيولة -باومان-..
- فلسفة المعاني في قصائد وأغاني جلال مصطفى
- نصف وجه -سوزان هيل-: بين النص والعرض
- -ليالي الحلمية-: مسلسل بين الريادة والعمادة..


المزيد.....




- إعلام عبري يكشف هوية دولة تجري فيها محادثات سرية بين سوريا و ...
- من يسعى لإفشال المفاوضات الروسية الأوكرانية؟
- ترامب يلمح إلى قرب إبرام اتفاق مع إيران ويعيد نشر فيديو لشخص ...
- البيت الأبيض: إدارة ترامب -واقعية- فيما يتعلق بتسوية الأزمة ...
- ما فرص إبرام اتفاق نووي جديد بين واشنطن وطهران؟
- محكمة الطفل تقرر إيداع نجل محمد رمضان إحدى دور الرعاية على خ ...
- محللون: ترامب جاد في الاتفاق مع إيران رغم معارضة إسرائيل
- محمد بن زايد: أجريت مباحثات مثمرة مع الرئيس ترامب
- مصر.. تخفيضات على أسعار السيارات.. وتجار يوضحون الأسباب
- -أشارك إسرائيل هدفها-.. لوبان تنتقد موقف ماكرون -المشين- بشأ ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - السيد إبراهيم أحمد - قراءة في كتاب: -بين الأبنودي والسويس: تجربة وطن-..