أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد فاضل - الثريا















المزيد.....

الثريا


حامد فاضل

الحوار المتمدن-العدد: 1807 - 2007 / 1 / 26 - 05:39
المحور: الادب والفن
    


"قصة قصيرة"
لون الصبح وجه الهور بلون شفيف . ولامست السماء هامات البردي ، وهي تنحني لتطبع قبلة الصباح على جبين الأفق .. شرقا جلست الشمس في محفتها محمولة على أكتاف الموج ، وبدت لعيني المرأة الساعية إلى حافة الهور ، رغيف خبز محمــــص : ( الثريا) كلمة تنسل من بين شفتيها بصمت لا يسمعه غير قلبها الراكض قبل قدميها نحو بؤرة الرؤيا في أقصى الهور الطافح على أديم لا نهائي ، مترع بالسماء ، والظل ، والضياء . يمتد في مخيلة المرأة المسرعة على جادة الرؤيا ، لسانا خرافيا يلطع جلد الأرض مزدردا الحي والجامد في مخاض مستمر . يولد النقيض من النقيض ، منهيا الحياة بالموت ، وباعثا الحياة من الموت .. والثريا امرأة يصعب تحديد ملامحها المتناسلة في صندوق الطفولة الموصد على حكايات الجدات ، حيث تتلفع ( السعلاة) شعرها الأسود الكثيف ، قابعة في قعر الصندوق الموشوم بأقـــــــدام ( عبد الشط ) ، الضاج بصراخ ( فريج الأقرع) النحيف الطويل الذي لا ينبت الشعر على يقطينة رأسه .. أفزعت المرأة التي اقتربت من الجرف ، سرب إوز وحشي مختبيء في أجمة القصب ، فأفزعها وهو يتخلى عن مخبئه خابطا الماء بقوادمه فارا إلى أعماق الهور .. تزنرت بذيل عباءتها ، وتفقدت عصابة رأسها وشيلتها ، ثم قفزت إلى بطن المشحوف . أشرعت ( المردي) وطعنت برأسه صدر الجرف ، فانساب المشحوف على قارعة الهور ، ممزقا صفحة الماء الصقيل ، راسما خلفه موجتين سرعان ما تلاشتا قبل وصولهما إلى الجرف الذي لم تعد المرأة ترى لعين الناظر منه بعد أن غيبتها قامات البردي .. جلست المرأة في مؤخرة المشحوف والمجداف يتحرك بين يديها – دون أن تشعر به – يمينا ويسارا ، نازحا الماء باتجاه معاكس لمسير المشحوف الذي يشق طريقه بتلقائية في دروب الهور المؤطرة بالبردي والقصب . وهي إذ تقتحم بعينيها المدى الواسع باحثة عن بؤرة الرؤيا حيث أبصرت جسد زوجها منفوخا مزرقا مبقور البطن ، يطفو على ظهره ، مفتوح الفم على صرخة استغاثة كتمتها كف الماء . موشوم الوجه بلحظات الخوف التي حفرتها أصابع الثريا وقد تخلت عيناه عن محجريهما وسكنتا بطن سلحفاة كبيرة ، مخلفتين ثقبين معتمين أسفل جبهته فإنها تستعيذ بالله كلما عاودتها رؤية الجثة الطافية وهي تحتك بسيقان أشباح البردي النابت في عتمة الهور ، وقد تجمعت عليها السلاحف الكبيرة ناهشة لحمها المتهريء .. لعنت الثريا وضرة الثريا تلك الغادرة الخائنة التي غدرت بالثريا في زمن قحط غابر بعد ما اتفقتا على ذبح أولادهما وأكلهم كي تعيشا حتى عودة زوجهما من سفره . وكان لكل منهما سبعة أولاد . فبادرت الثريا إلى ذبح أول أولادها وأعطت نصفه إلى ضرتها التي خبأت اللحم الغض ثم أعادته مدعية أنها ذبحت واحدا من أولادها , . وذبحت الثريا ولدها الثاني ، واستلمت ضرتها حصتها من لحمه وخبأتها ثم أعادتها إلى الثريا . وكذلك فعلت عندما ذبحت الثريا بقية أولادها تباعا حتى الولد السابع الذي استلمت نصفه الثاني وقلبها يتقطع حزنا على أولادها . إلا أن عزاءها لنفسها كان إحساسها بأنها ليست الوحيدة التي فعلت ذلك . حتى إذا عاد زوجهما من سفره . أخرجت ضرتها أولادها من مخبئهم ، وكستهم بأحسن الثياب ، وطيبتهم بأطيب الطيب وهرعوا لاستقبال أبيهم أمام عيني الثريا المصدومتين المدهوشتين التي أصابها الخبال ، فكسرت قيود الصبر التي قيدت أحزانها ، وصاحت صيحة عظيمة ، سمعتها ملائكة السماء ، وشياطين الأرض ، لطمت خديها ، وأدمت وجهها ، نثرت شعرها واقتلعته من جذوره . شقت زيقها ، واعتصرت قلبها وطحنته بين كفيها ، وصعدت روحها إلى السماء شاكية باكية ، ندمانة مثقلة بالويل ، والحزن ، والثبور .فصار الرعد من صراخها ، والمطر من دموعها ، والبرق من نارها ، والعواصف من لهاثها .. غسق الأمس وبينما كانت المرأة تساعد زوجها في حمل الشباك إلى البلم ، صرخت :
- يمه فطيمه !
- ما بك .؟
- خدي يحكني .
- يا ساتر استر.
أمسكت بيده :
- لا تذهب الليلة .
سحب يده :
- دعي المقادير لصاحب المقادير.
ذكرته :
-إنها الثريا
دفع الرجل البلم وقفز إلى داخله .
توسلت إليه :
- إنها الثريا . !
ضحك وهو يبتعد عنها . وجاءها صوته صافيا عذبا يصب في قلبها قبل أذنيها ، ويتغلغل في مساماتها بأبوذيته المعهودة التي يغنيها كلما ضمه الهور في أحضانه .
( آ يا ويلي .. آ يا ويلي
يصير أتعب وأذب تعباي بالماي
أنا واحد ولي عدوان بالماي
من دون البلامة غرك بالماي
يسيرني الحبيب اشلون بيه . )
وكانت تشيعه واقفة على حافة الجرف حتى غيبه آخر أفق يمكن لعينيها أن تبصره . فاستدارت عائدة إلى كوخها وهي تحدث نفسها : ( إنها الثريا) لم تنم ليلتها تلك . فما أن تلفعت قرية الصيادين بردة الليل ، وانطفأت ذبالة آخر فانوس في كوخ السمار حتى تمترست داخل كلتها الرابضة على سرير من جريد النخل متحصنة من البق الحائم في فضاءات القرية .. لامست فراشها البارد وأغمضت عينيها فأبصرت الهور ينبسط أمامها باسطا يديه نحو الآفاق ، غامرا تلك الآماد اللامحدودة بذلك السائل المقدس الذي خلق منه كل شيء . مبتدأ من نقطة تلاشي النظر ، ومنتهيا بنقطة تلاشي النظر ، جالبا الخوف والطمع للناس والطيور ، والأسماك ، والسلاحف ، والخنازير ، والسعالى .. خالعا ثيابه الشفافة والداكنة على أجساد الجروف والجزر ، والأجمات ، متغلغلا في المسامات دافقا ماء الحياة في رحم الأرض ، نافثا الروح في الجذور والأنساغ ، واشما جلده اللامع الصقيل بالقمر والنجوم والسماء ، مرتديا غلالة من أزاهير البط ، والسعد والشمبلان ، عاكسا النور السماوي ، راسما فنارات للصيادين المنتشرين في دروبه وأجماته .. رأت المرأة زوجها وقد انتهى من نصب شباكه . يفرش الطين الحري على ( ركمة) البلم ، ويشعل النار ثم يرفع بين يديه سمكة شبوط تلبط محاولة التخلص من قبضته .. ثبتها الرجل بين قدميه وشق بطنها ( بباذورته) ورأت المرأة اللحم الوردي يرف بآخر نبض من حياة الهور . رش زوجها الملح والبهارات على السمكة وتركها لتجف قليلا. ثم شجها بقصبتين وعلقها قريبا من النار ، ودس ( القوري) في الجمر الملتهب ، وابتعد ليجلس في مؤخرة البلم . يدخن لفافة ويتفرج على القمر السابح في الماء بين ثلة من النجوم .. وترأت لها سماء الهور صافية يساقط نخيلها الأمان والسكينة ، وخيول الهواء صافنة ، وكف الأفق تمسد رؤوس البردي ، والهور غطى جسده بغلالة مطرزة بمصابيح السماء واسترخى يتنفس بهدوء ، والسمك حتى السمك كان يفترش قاع الرؤيا وسنانا يحرك زعانفه بإيقاع بطيء .. لكنها الثريا تلك الجريحة الحزينة النادبة الثكلى التي خبأ الأسلاف صورتها في صندوق الطفولة الثريا التي تثأر لأولادها كل عام .. وبرغم أن هذه الليلة ، ليلة هادئة فقد أوجس منها قلب المرأة . إنها ليلة من ليالي الثريا ، وهل لغضب الثريا ميقات معلوم . وتحقق ظن المرأة إذ ظهرت في الأفق الشرقي غمامة سوداء – ثوب الثريا – وبدأت ترتفع من قوس الأفق معلقة بين الماء والسماء مستعيرة أجنحة الرياح منتشرة في الفضاء العالي غامة القمر والنجوم . ثم ساقطة بكل ثقلها لتحط على الهور .. بدأت الثريا تحثو التراب على رأسها ناثرة الغبار الأحمر ونفخت غمها حسرات مستفزة الأمواج مطلقة صراخ الثبور ، شاقة زيقها ناثرة شعرها لاطمة خديها ، باكية بحرقة جاعلة دموعها تخب على سطح الهور ، واخزة وجه الماء وصار نواحها يسمع في الجزر والجروف والأجمات .. البردي الذي كان يتمايل وسنانا صار يرتعش بشدة صارخا بجذوره لا تخذليني . وثنت الأزهار الحكيمة سيقانها الرفيعة ، وأحنت رؤوسها أمام جبروت العاصفة . بينما تكسرت رماح القصب التي أشرعها الهور بوجه الثريا .. فزعت الطيور والحيوانات اللابدة في الأجمات والحفر . وتناثرت النوارس كالقطن المندوف وتدحرج الإوز البني السمين فوق الموج مطلقا صرخات الفزع . تقطعت شباك الصيادين وتمزقت أشرعتهم وتكسرت الصواري ، وأطلقت المشاحيف والأبلام إيقاعات مختلفة وهي تتلقى قصف الحالوب وطفت الطيور الجريحة والحيوانات النافقة فوق الماء الفائر المزبد .. ورأت المرأة زوجها يصارع الثريا واقفا وسط البلم مدخلا دشداشته في حزامه كاشفا عن ساقيه عاري الرأس . صامدا بوجه الريح والمطر ملوحا بمجدافه ضاربا الأمواج الرعناء . ورأت البلم يرتفع عن سطح الهور إلى أعلا من سطح الكوخ ثم يهبط إلى الماء ليعاود الارتفاع والهبوط وكأنه خشبة صغيرة قذفت في خضم الهور الكبير الواسع .. وكلما لطمت الثريا على وجهها وناحت على أولادها ، سمع الرعد ، وشوهد البرق ، وصب المطر .. وكلما نفخت الثريا ، اشتدت الريح وارتفعت الأمواج ، وأسرع الهور في عدوه هربا من لطمات الرياح .. وكان زوجها يتشبث بالبلم يعانقه صاعدا هابطا وإياه ، وقد التصقت دشداشته المبلولة بجلده ، وغطى شعره الناضح بالماء عينيه .. ثم سمعت صرخة الثريا الأخيرة تأتي على متن موجة عالية ، مرعدة مزبدة سريعة تنقض على البلم وترفعه كقشة تبن وتلقي به نحو إحدى الأجمات ورأت المرأة زوجها يطير في الفضاء المكفهر ، ويسقط في أعماق الموج وهو يكافح بيديه ورجليه ملاويا أذرع الثريا . ثم رأته يعب الماء غصبا وهو يلهث وقد خارت قواه ، وتباطأت حركته ُثم غاص نحو القاع المعتم غارقا أمام عيني الثريا التي شفت غليلها من أبن أدم ، وانسحبت تاركة الهور المقهور يلعق جراحه .. سحرا قفزت المرأة مرعوبة من الرؤيا ، وأسرعت نحو الحب ، أطفأت لهيب قلبها بطاسة ماء بارد . وها هي تضرب المياه بمجدافها مقتحمة دروب الهور بمشحوفها باحثة عن زوجها في الهور الواسع الذي امتص غضب الثريا ، وعاد يواصل حياته وعطاءه .. ظللت المرأة عينيها بكفها وهي تقتحم آفاق الهور ببصرها . فرأت بلما يشبه بلم الرؤيا ، غارقا قرب أجمة من القصب نابتا على مؤخرته في الطين ، مخرجا رأسه من الماء .. قفز قلبها بين يديها ،و على وجل قادت المشحوف باتجاه البلم ، ولم تر أحدا ، اقتربت من الأجمة ، فأبصرت دوامات الماء وهي تنبثق وتتلاشى والفقاعات تنفجر صاعدة من الأعماق ، ورأت السلاحف الكبيرة متجمعة وهي تسبح بدأب غاطسة إلى الأعماق صاعدة إلى السطح : ( تلك السلاحف ، وهذه الأجمة ، وذلك البلم . . كل شيء يشي بصدق الرؤيا . الثريا كانت هنا وهذه آثارها) .. انبجست الدموع من عينيها ، لكن صوتا عذبا رقيقا ألغى صرخة الثبور التي كادت تطلقها .. ظلت تستمع إليه وهو يقترب مترنما بأبوذيته المعهودة . ورأت بلما يطلع من خلف أجمة القصب ماسحا آثار الثريا ، مشتتا شمل السلاحف .



#حامد_فاضل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجذع عاصمة الضب
- العفايف مملكة تاذئاب
- العفايف مملكة الذئاب
- مرائي الصحراء المسفوحة
- القناع
- الرواة
- النافذة
- الرائحة
- الحكمة
- قصة الصمت
- قصة....القرد
- قصة المفعاة
- الكبش
- العلبة


المزيد.....




- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد فاضل - الثريا