أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد فاضل - الرائحة















المزيد.....

الرائحة


حامد فاضل

الحوار المتمدن-العدد: 1728 - 2006 / 11 / 8 - 11:09
المحور: الادب والفن
    


رائحة غريبة ، تلك الرائحة التي لم ينتبه أليها ذوو الأنوف الحساسة في بلدتنا . بل أكتشفها رهط من الذين يتمتعون بحب الاستطلاع ، وروجت لها ثلة من محترفي ألحكي . فتلقفتها آذان أهل الفضول ، لتفشي في هواء البلدة ، وتذوب في مائها ، وتندس في غذائها . وتشيع في أحاديث خاصة ألناس وعامتهم . مذيقة طعمها لكل كائن حي يتنفس أو يشرب أو يطعم ..أحتار في معرفتها أكبر ألطاعنين في تشخيص الروائح ، شيخ النبوءات الواردة من آفاق الغيب .العالم الذي أفتى فأشفى . حاصرناه بكنانات الدهشة . فاستسلم لرشق الأسئلة ، وحلق بأجنحة الإلهام ، ليلج سماوات المخيالية ، قاطفا" نجيمات السكينة ، ناثرا" سلال الضوء على دجنة القلق السائد في رؤوسنا . داعيا" حمامات الطمأنينة إلى أعشاش صدورنا ، مهدهدا"أسماعنا الملهوفة بتعريف مبتسر : ( الرائحة هي نتاج رائحة . ) فابتدأنا سفر البحث على قبس التعريف غائرين في بؤر الروائح المكنونة في صدورنا منذ المصافحة الأولى بين رئاتنا وهواء بلدتنا الجنوبية المتلفعة بشال النخيل ، الهازة مهد النهر ، المحناة بالغرين .. فروائح بلدتنا هي خليط من شهيق النهر وزفير الطين وعطر البساتين . وقد تطغي رائحة على أخرى بتحريض من الأوقات والفصول .. فرائحة الصباح الفضي المحلقة على أجنحة الندى ، هي وريثة رائحة الليل المقمر التي تنقش وشمها على وجه النهر ، وهي التي تنجب رائحة الظهيرة التي تردينا في ميادين القيلولة .. ورائحة الغروب الذي يجس قلوبنا بأنامل الأسى . تستهل برائحة العصر التي تغوينا بأغراء النزهة . أما رائحة صيفنا المصهورة في بوتقة الشمس ، فهي خلاصة الصهد والغبار وعرق الأجساد وملحها . وهي بالتأكيد لا تشبه رائحة شتائنا المسفوح على مرايا المطر ، التي هي ائتلاف بين روائح الصوف والجلد والدخان والمستنقعات الكامنة في الدروب .. ولا علاقة لرائحة الربيع المتأنق الذي يتمرآى في أعيننا مختالا" فخورا" عارضا" أزياءه الخضر السندسية التي أبدعها المصمم الأوحد . برائحة الخريف العبثي الذي يتعرى غير عابيء بملابسه التي تكنسها الريح على أرصفة البلدة . وبديهي أن رائحة سوق العطارين في بلدتنا كما في بلدان الدنيا كافة ، لا تشبه رائحة سوق السمك . ولا تشذ حواء بلدتنا عن أخواتها في بلاد الله . فرائحة الحضريات المتبرجات المتعطرات أللاتي يتمخطرن كالحمائم سافرات أمام أعين جوارح الرجال . لا يمكن أن تقارن برائحة المعديات الكالحات المتلفعات بالعباءات السود ، القابعات في سوق البلدة يبعن اللبن .. وهل تستوي رائحة الذين يغتسلون يوميا" ورائحة الذين لا يغتسلون إلا لماما .. هذه الروائح برغم اختلاف منشئها وأوقاتها ومواسمها هي رائحة بلدتنا التي ميزتها عن روائح البلدان الأخرى . وهي روائح طبيعية لا قرابة تربطها بتلك الرائحة الغريبة التي داهمت بخيلها قلاع البلدة .. رائحة تزكم الآذان قبل الأنوف ، وتنساب في العقول قبل الصدور ، وتتغلغل في مسامات الدواوين والمضايف والمقاهي والأسواق . يروج لها الحكاؤن ، متسيدة بضاعة الكلام بطعمها الذي احتار في تحديد كنهه الأذكياء ، فتسولوه على أبواب الأغبياء . وتاه في تتبع أثرها القوافون فخلوا الزمام بأيدي العميان . وتعب منها العقلاء فسلموا اللواء للمجانين .. ونحن العباد المستضعفون ، تتناسل الأسئلة في رؤوسنا . ثم تجهض أو تلد خدج الأجوبة - تختلف الأفكار - تتعارض المصالح - تتعدد الأسباب - تحتدم النقاشات - تتراشق الأ لسن باللعنات - تبهرنا الشعارات - تأملنا - تصدمنا - نغلي - نثور - نخمد - تتمخض استنتاجاتنا ، وسرعان ما تأد نتائجها في تراب تلك الرائحة التي ادعى أعيان بلدتنا انها من ابتداع مخيلة الرعاع وهو ادعاء اثبت بطلانه افتقار السواد الأعظم منا للمسببات ، بينما تبرأ منها رؤساء عشائرنا لأنهم لم يجدوا لها جذرا" في أرومة العشائر ، لكنهم رضخوا لعصف أصواتنا فاعلنواعن قيام جبهة بين رائحة الريف ورائحة المدينة .. مختار بلدتنا البدين بادر وهو يسترق السمع إلى وقع حوافر الفقاعات وهي تقرع جدران معدته الممتلئة إلى تخفيض أجور ختم طلبات مكافحة الرائحة التي نرفعها إلى ذوي ألأمر .. عرافنا العليم الذي يتكيء إلى نبوءات الأسلاف اجبره اعتصامنا أمام صومعته على إنهاء اعتكافه ، فخرج علينا ممتطيا" سحابة من البخور ليثملنا برائحة الحرمل الذي يحترق في أجفان صغيرة حطت في اكف اتباعه ، ويطلق طيور تعاويذه فوق رؤوسنا ليعشي بضباب سحره أعيننا المترعة بالتساؤل ، ويطالبنا بالا لتزام المطلق بتعاويذ الأسلاف إذا كنا حقا" نروم التخلص من الرائحة التي تكاد تنز من لعابه الذي يستخدمه في ترطيب سبابته وإبهامه وهو يقلب أوراق كتابه الصفر باحثا" عن نبوءات جديدة ينثر بردها على نيران الغضب المتأججة في صدورنا ..إمام الجامع المستنير بهالة القداسة . ارعد وأزبد ماطرا" الكلمات المنقوعة بماء الورد ليحثنا على إيفاء النذور وغسل روائح خطايانا بالدموع . وبعد فذ لكة تاريخية نبش فيها أول رائحة للخطيئة فاحت قبل خلق الأرض ، عرج على محاولة مجرم البشرية الأول التخلص من رائحة أول جريمة برائحة التراب . وقبل أن يقيم الصلاة ، أنهى خطبة أول جمعة مرت على محاصرة الرائحة لأسوار الجامع بالتأكيد ثلاثا" وباعلا مدى" لحنجرته أن لا رائحةاقوى من رائحة الأيمان .. حكيم بلدتنا المسن الذي دشن عقده الثامن بزوجة ثامنة سقى عشب لحيته بالمسك ، وخاطب المحتفين بزواجه : ( ابحثوا عن بؤرة الرائحة واردموها بروائحكم . ) مديرية زراعة البلدة حصلت على دعم أصحاب المشاتل الذين خرجوا بمظاهرة فواحة بالعطر تأييدا" لمشروع المليون زهرة الذي أعلنته ، إضافة إلى تخصيصها جوائز قيمة لأصحاب الحدائق الذين تثبت أجهزة شم الروائح المستوردة حديثا" أن حدائقهم تفوح بالروائح الزكية وبشهادة خبراء الروائح المرافقين للأجهزة والذين سيغادرون بعد تدريب المتطوعين منا على كيفية استخدام تلك الأجهزة المتطورة .. كما أعلنت مديرية بلدية البلدة وعلى لسان مديرها الجديد عن فتح باب التطوع لكل مخلص يود المشاركة في حملات تنظيف البلدة ، ونصبت أراجيح اللافتات بين أعمدة مصابيح الإنارة المفقأة ، وهي تجهر بالشعارات التي تحث على مكافحة الرائحة مثل ( أكتم فقاعتك حرصا" على نقاء هواء البلدة ) بينما استحدثت مديرية الشرطة قسما" للكلاب الأجنبية المتخصصة بشم الروائح وأحاطت دائرة مكافحة الرائحة التي أسست لأول مرة في البلدة عملها بالسرية التامة محافظة على استقلاليتها وعدم تبعيتها إلى مديرية البيئة ..العشابون والعطارون وبائعو العطور ، دعوا إلى دعم جمعيتهم التي أسسوها باسم جمعية مناهضة الرائحة ، واحرقوا في مؤتمرهم التأسيسي آلافا" من عيدان البخور المستورد .. السياسيون المخضرمون الذين يبدلون جلودهم باستمرار ، غلفوا حنظل الحاضر بعسل المستقبل وقدموا لنا أطباق الخطب الشهية على سماط الوعود . فصار منظر اللافتات و الاتهامات المكتوبة على الحيطان مألوفا" في بلدتنا المبتلاة بالرائحة .. المجانين الذين يشكلون نسبة لا يستهان بها في البلدة . أولئك الذين فقدوا رائحة عقولهم في زمن مندحر ، استقبلوا الرائحة باللامبالاة .. وبينما انشغل الدراويش المحلقين بأجنحة الأبخرة بتنافس الأسعار في سوق التعاويذ ، انتفخت أوداج فرسان الأكاذيب ، وبرزوا للرائحة ، برائحة صدأ السيوف وهم ينفثون رائحة أهازيج بليت عظام مر تجزيها منذ قرون خلت .. وحدهم مدمنو أكل الثوم والبصل وشاربو الخمرة الرديئة ، هللوا لأسراب رخاخ الرائحة المحلقة في سماء بلدتنا ، وسعدوا بانشغالنا بذروقها الذي يغذي طفيليات اليأس المتناسلة في رؤوس بعضنا .حتى جاء ذلك اليوم الذي صدمنا فيه بمظاهرة أطفالنا الذين نسيناهم في دوامة الخوض في مستنقع الرائحة .. فوجئنا بهم يملأون أفق البلدة برائحة الطفولة ، ورأيناهم كالأزهار يترعون الدروب تفوح منهم رائحة البراءة التي غادرتنا في سن الثامنة عشر ..كانوا يتقدمون باتجاهنا وهم يطلقون فراشات البسمات الشفافة الملونة .. خذلتنا تكشيرة وجوهنا ، فانسحبنا أمامهم مخذولين ، صعدنا إلى الأرصفة وتركنا لهم قارعة الطريق بعدما صلبت عجيزاتنا على تخوت المقاهي ، ها نحن نستمع إلى زقزقة هتافاتهم المدعومة بزغاريد ألأمهات المدليات رؤوسهن من شرفات السطوح .. كانت أصواتهم الرفيعة سقيلة كقواصل السيوف ، قطعت أعناق الأبواق ، ومزقت وجوه الطبول .. غمرتنا مياه المسرة ، ونحن نرى أطفالنا ، وهم يقودون مسيرة التطهير ، حاملين مشاعلهم الصغيرة مبشرين ومنذرين بإضرام النار .. ولأن حافة اليأس هي عتبة الخلاص فقد سجرت التنانير في ألأكواخ والصرائف والبيوت المتهالكة وأوقدنا الكوانين في المضايف والدواوين ، وأججنا النار في مواقد القصور الفارهة ، فأختنق هواء البلدة برائحة شواء الملابس الرثة والأثاث العتيق والأشجار اليابسة والحيوانات النافقة والمتردية والنطيحة ، وظلت نافورات النار تغسل وجه البلدة حتى شاب شعر الليل . ولم يسلم أي مشكوك برائحته من لحس ألسنة ألهب . . وما أن بان الخيطان ، حتى أكتمل نمو جبل الرماد الذي ولد في ليل الحرائق ذاك .. عندها سمعنا نحن ثلة الناجين المتجردين من متاع الدنيا نداء الخلاص يدعونا من أعلا المنارات : ( أصعدوا فوق جبل الرماد ، تساموا وانتظروا بشارة السماء ) فصعدنا وتسامينا ، وها نحن ننتظر فوق رمادنا أن تفتح أبواب السماء بماء منهمر ، ليطهرنا من الروائح كافة ، ألا من رائحة السماء .



#حامد_فاضل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحكمة
- قصة الصمت
- قصة....القرد
- قصة المفعاة
- الكبش
- العلبة


المزيد.....




- رئيس الحكومة المغربية يفتتح المعرض الدولي للنشر والكتاب بالر ...
- تقرير يبرز هيمنة -الورقي-و-العربية-وتراجع -الفرنسية- في المغ ...
- مصر.. الفنانة إسعاد يونس تعيد -الزعيم- عادل إمام للشاشات من ...
- فيلم -بين الرمال- يفوز بالنخلة الذهبية لمهرجان أفلام السعودي ...
- “ثبتها للأولاد” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد لمشاهدة أفلام ...
- محامية ترامب تستجوب الممثلة الإباحية وتتهمها بالتربح من قصة ...
- الممثلة الإباحية ستورمي دانييلز تتحدث عن حصولها عن الأموال ف ...
- “نزلها خلي العيال تتبسط” .. تردد قناة ميكي الجديد 1445 وكيفي ...
- بدر بن عبد المحسن.. الأمير الشاعر
- “مين هي شيكا” تردد قناة وناسة الجديد 2024 عبر القمر الصناعي ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد فاضل - الرائحة