محفوظ بجاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8314 - 2025 / 4 / 16 - 21:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ أن دخل هواري بومدين إلى قصر الحكم على ظهر دبابة، أدرك جيدًا أن الشرعية لا تُنتزع بالقوة وحدها، بل تُصنع في المخيال الشعبي وتُغذى بالرموز والأساطير. لم يكن بومدين يملك تاريخًا نضاليًا يُضاهي به كبار قادة الثورة الجزائرية الذين حملوا البندقية وخاضوا المعارك، أمثال كريم بلقاسم، حسين آيت أحمد، محمد بوضياف، ومحمد خيضر. لذلك لجأ إلى حيلة سياسية ذكية وخطيرة في آن: صناعة رموز بديلة، تراثية، آمنة، تُمجّد ولا تُعارض.
اختار عبد الحميد بن باديس ليكون "نبيّ الإصلاح"، وخصّص له "يوم العلم"، وصوّره كصاحب مشروع وطني شامل. رغم أن الرجل لم يدعُ يومًا إلى الكفاح المسلح، ولم يكن له إسهام عملي مباشر في إسقاط الاستعمار، إلا أن بومدين قدّمه كقائد رمزي للأمة، لأنه كان ميتًا أولًا، ولأنه لا يشكّل خطرًا على سلطته ثانيًا. ثم جاء دور الأمير عبد القادر، فتم تأطيره كـ"مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة"، رغم أن مسيرته التاريخية معقّدة ومليئة بالمحطات القابلة للنقاش، بل وحتى للانتقاد.
لم يكن ذلك تقديسًا نزيهًا للتاريخ، بل إعادة ترتيب متعمّدة للذاكرة الجماعية، بطريقة تخدم النظام وتمنحه امتدادًا رمزيًا وطنيًا، دون أن تُهدّد سلطته الفعلية. حتى ابن البشير الإبراهيمي نفسه، وهو شاهد من أهل المشروع الإصلاحي، صرّح لاحقًا أن جمعية العلماء تم تضخيمها أكثر مما تستحق، وهو تصريح يكشف نوايا تلك المرحلة بدقة.
لقد أُقصيت رموز الثورة الحقيقيون، وتم تلميع من لا يمكنهم الدفاع عن أنفسهم أو المطالبة بدور سياسي. تحول التاريخ إلى مادة إعلامية تُستثمر كلما دعت الحاجة، وانقلب من سجل نضال إلى أداة دعاية. هكذا تم تحويل "يوم العلم" إلى شعيرة سياسية، لا تمجد العلم بقدر ما تكرّس النظام وتمنح رمزية مفبركة لمسيرته.
واليوم، بعد عقود من هذا التلاعب المنهجي، نحن أمام أجيال لا تعرف من تاريخها سوى الشعارات، تحفظ الأناشيد ولا تقرأ الكتب، تردد أسماء دون أن تفهم السياقات. الجزائري صار أسير ذاكرة مصنوعة، لا يعيش صراعًا بين النسيان والتذكر، بل بين ما حدث فعلًا وما قيل له أنه حدث.
فمتى نكفّ عن عبادة الصور؟ متى نعيد فتح الذاكرة دون رقابة، ونعيد تقييم رموزنا دون قداسة؟
وحده شعب يملك الشجاعة لمواجهة تاريخه بصدق، هو من يصنع مستقبله بحرية.
#محفوظ_بجاوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟