أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم سبتي - نخلة في نهر















المزيد.....


نخلة في نهر


ابراهيم سبتي

الحوار المتمدن-العدد: 1780 - 2006 / 12 / 30 - 12:26
المحور: الادب والفن
    


عندما كان النهر يسير في حوضه قانعاً هادئاً وديعاً.. كانت النخلة الكبيرة تقف قرب ضفته، تقابل بيوت الأزقة المحاذية للنهر.. لا يعرف لها تاريخاً، كبار السن من سكان الأزقة، يقولون بأنها قديمة جداً، قديمة حد أن آباءهم قد أدركوها وهم صغار.. النخلة الباسقة تقف الآن في عرض النهر.. بعد أن زحف عليها الماء وكأن النهر سأم وقفتها بعيدة عنه، فضمها إليه بحركة سريعة وبفيضان صغيرة قبل ثلاث سنوات، أسفر عن ابتلاع الأرض اليابسة الواسعة التي كانت تتوسطها النخلة.. حيث كانت تلك فسحة مفضلة لأولاد الأزقة في لعبهم وهرجهم.. تقف النخلة اليوم وسط الماء وأصبحت من ممتلكات النهر الذي يبدو أنه يأبى الانحسار والعودة إلى جرفيه السابقين.. منذ عشرين عاماً تغير وضع النخلة تلك.. تغير تماماً في نظر أهل الأزقة والبيوت الأخرى القريبة.. حتى باتوا ينظرون إليها وكأنها تقف حامية وحارسة لحفرة صغيرة بجوارها تضم رفات أحد الغرباء حين أدركه الموت في تلك البقعة من الأرض وما كان من صاحبه إلا أن يدفنه فيها.. تحت النخلة تماماً.. يتذكر الأهالي من كبار السن وحتى بعض الرجال الذين فطنوا على الحادثة، بأنه في تلك السنة قدم اثنان من الغرباء مارين بهذا المكان قاصدين مكاناً أبعد ـ والله أعلم ـ أدرك أحدهما الموت فدفنه الآخر بعد أن أنجده أحد الأشخاص بمجرفة، يومها تجمع الناس حوله وهو يدفن صبياً كان برفقته، وبعد الدفن اختفى الرجل ومن حينها لم يره أحد مطلقاً.. ولم يعد أحد يذكر الحادثة فصارت نسياً منسياً..
تقف النخلة اليوم باسقة وسط النهر أو قريبة منه، فلم يعد أحد من أولاد الحي يقترب منها بعد أن فقدوا ساحتهم المفضلة المغمورة بالماء الذي لا يبدو أنه سينسحب منها طائعاً.. وحتى قبل أن تختفي الساحة كانت خشية الاقتراب من النخلة تزداد يوماً بعد آخر، فحكاية الصبي المدفون عادت تطفو على السطح ثانية، فقبل أن يفيض النهر فيضانه الصغير هذا.. كان الأولاد يحكون لأهلهم ما يرونه صباح كل يوم جمعة.. من آثار شمعة محترقة وأعقاب عيدان البخور نابتة في جسد النخلة.. الجميع كان يندهش من تلك الأخبار.. كان رجلٌ مجنون يقترب من النخلة مع الأولاد كل يوم جمعة ليرى ما يرونه.. ذلك الرجل الذي رماه قدره في هذه البقعة من البلدة صار سخرية الأولاد والأطفال، حتى وصل بعضهم إلى رميه بالحجارة والركض خلفه، وعندما يحاول المسكين الخلاص يلجأ إلى أقرب حائط يلوذ خلفه، أو رجل قريب يدفع عنه مشاكسات الصبية.. أطلق عليه الصغار المجنون ولم يره أحد بأنه تصرف بجنون أو أنه كان يشبه المجانين في شيء.. لكن هيئته جعلتهم يطلقون هذا الحكم عليه.. كان رجلاً في الستين أو يقترب منها.. شعر أبيض منفوش اختلط مع سواد قليل مغبر ولحية بيضاء كثة.. يتخذ من ركن صغير تحت الجسر ملاذاً له.. ولم يعثر عليه أحد متلبساً بتناول الطعام، وهذا ما حير الناس الذين اقتنعوا أخيراً بأنه يقتات على ما تلفظه مطاعم المدينة ليلاً قرب النهر.. لم تطفُ حكاية النخلة على الأحداث دونما سبب، فحكايات الأولاد حول الشمعة والبخور قد جعلت من ساكني الأزقة ينظرون بحذر إلى تلك النخلة، بل راحوا يحيكون القصص حولها، فبعضهم يقول بأن الشمعة والبخور تشعلهما سعلاة تخرج من النهر ليلاً كل خميس وتظل جالسة قرب النخلة ثم تختفي قبل حلول الصباح.. وبعضهم يدعي بأن شخصاً قريباً من هذا المكان يقوم بذلك العمل.. ولكن قصة السعلاة كانت الأقوى، فانتشرت بسرعة بين الناس، حتى أن الصبية لم يحاولوا الاقتراب أبداً من النخلة حتى في النهار، وعندما تغرب الشمس فهذا معناه الابتعاد تماماً عن المكان ومغادرته بسرعة. وقد سرت شائعات تقول بأن تلك السعلاة تختطف الصبيان وتأخذهم إلى قاع النهر فمنعت الأمهات أبناءهن من الذهاب إلى هناك، وظل حال النخلة سراً من الأسرار التي لم يفكها أحد من ساكني الأزقة المجاورة للنهر.. وظلت عيدان البخور وبقايا الشمعة المحترقة تدور في رؤوسهم كصور لم يستطع أحد نسيانها رغم أن أغلبهم لم يرها قط.. بعد أن غمر النهر بمائه النخلة، لم يعد هناك من يرى في صباح كل جمعة تلك العيدان وبقايا الشمع، فاختراق حاجز الماء احتمال لا يقدر عليه أحد والاقتراب من المكان صار من المحاذير.. وفجأة اصطف الناس عند جرف النهر قبالة النخلة في عصر أحد الأيام. كان المنظر قد أذهلهم وهم يحملقون صغاراً وكباراً في النخلة.. الرجل المجنون دخل الماء وسار بقامته الفارعة وأمسك بالنخلة وراح يجهش في بكاء شديد.. لم تدر بخلدهم فكرة إخراجه فظلوا يحدقون بثبات وكأن نظراتهم التصقت به لا تريد المغادرة.. الرجل المجنون غطس جسده كله إلا رأسه وذراعيه اللتين حضنتا النخلة وكأنه يتشبث بها من غرق محتمل.. ظل يطلق نشيجاً حاداً والنظرات لا تفارقه.. بدأت الحيرة والذهول والترقب لما سيحدث.. الأسئلة ظلت تدور في الرؤوس.. لماذا يفعل ذلك؟ هل أفصح عن جنونه الآن؟ مرت ساعة وهو يتشبث بجذع النخلة بينما تزايد الواقفون وامتلأ المكان برمته حتى بدا أن المدينة لفظت كل ناسها قرب النهر.. أطفالاً ونساءً ورجالاً، الكل ينظر إلى الرجل الممسك بالجذع.. ذلك الجسد الهزيل من يصدق أنه يمتلك هذه القوة؟ يقف منذ ساعة يتمسك بكل قوته ولا تبدو عليه علامات الإرهاق أبداً.. صاح رجل بأعلى صوته..
ـ عد.. فالماء سيأخذ قوتك!
صاح آخر ـ أحذر السعلاة!
لم تبدر منه أية استجابة.. بل ظل بكاؤه متواصلاً ولم يلتفت قط إلى الناس المتجمعين..
قال آخر ـ يخيل لي أنه يهزأ منا..
دار كلام سريع بين الواقفين. سيصيبه الوهن ويسقط في النهر، لكن نظراتهم المذهولة دفعتهم إلى ترقب لحظة كهذه.. وكأنهم راهنوا على ضعف قوته وانهيارها.. الجسد الملتصق بالجذع ظل واقفاً برأس مرفوع نحو السماء وذراعين تحضنان الجذع والماء يتلاعب بدشداشته السوداء الفاقعة. رماه بعض الصبية بالحجارة، وكأنهم يصوبون على هدف نصب أمامهم.. صاح بهم الرجال فيما استمر أحد الصبية يرميه ضاحكاً.. لم يدم الحال طويلاً، فقد نزل إلى الماء ثلاثة من الفتيان.. تحت وابل من التحذيرات.. لا تقتربوا منه.. فقد تكون السعلاة بانتظاركم! لم يعودوا بل واصلوا واقتربوا من الرجل المجنون الذي لم تبد عليه إنه سيترك المكان طائعاً.. نزعوا ذراعيه من النخلة واقتادوه عنوة فيما ظلت عيناه لا تفارقان النخلة حتى وهو يخرج من الماء كلية، تفرق الحشد وغادر الرجل المجنون يحيط به الصبية من كل جانب..
دارت الحكاية على الألسن.. حكاية جاهزة نزلت عليهم من السماء.. البعض يهول ما رآه يضيف أشياء لم تكن موجودة.. يقولون.. إن الرجل المجنون يبكي كي يكسب العطف من الناس، بل إنه يبكي في هذا المكان ليسمع السعلاة التي لم تحضر لتأخذه فزاد من بكائه حرقة وأسى، بل إن رجلاً صرح بأن المجنون أراد الانتحار ولكنه خاف وارتد وتمسك بالنخلة باكياً.. رد أحد الرجال بغضب.
ـ هراء.. هذا هراء لا معنى له...
وعلق آخر
ـ عجباً لقد فعل ذلك بقلبه الشجاع لا بجسده الضامر هذا! يبدو أن هذا الرجل يمتلك قلباً مرهفاً لا يتناسب مع ما يبديه من تصرفات!
ظلت حكاية النخلة تثير فهم الفضول وتأليف الحكايات عنها ولم يذكر أحد قط حادثة النخلة.
بعد تلك الحادثة.. ظل ينظر إليه على أه شخص مجنون حقاً.. لا يخلو عقله من لوثة.. فإنسان عاقل لا يفعل الذي فعله.. والغريب أن جميع الناس لم يعرفوا سر بكائه على النخلة مع أنهم ابتكروا تبريرات يقنعون بها أنفسهم... مضت الأيام والرجل المجنون يدور في الأزقة بملابسه الرثة الممزقة وقد غيب الغبار لون شعره ولحيته، يدور لاهثاً لا يعرف لـه قرار، لم يقل إنه يبحث عن شيء.. بل لم ينبس بكلمة.. أية كلمة.. ثم ينهي طوافه في الجلوس قبالة النخلة.. رغم أن أولاد الأزقة يكيلون لـه ما شاء لهم من أقذع الكلمات، حتى أن بعضهم لا يهدأ لـه بال إلا برميه بالحجارة فيظل يئن من أوجاع يكتمها في صدره لا يبوح بها لأحد.
يظل سارحاً بخياله حتى تغيب النخلة من الظلمة الحالكة، ينهض متثاقلاً يبحث عن طعامه المعتاد في هذه الساعة من الليل.. أهل الأزقة الذين دارت أحاديثهم حول النخلة لم يدر ببالهم يوماً ما حدث قبل عشرين عاماً.. لم يتذكروا ما جرى ظهيرة يوم قائض تحت النخلة، بل حتى الذين شاهدوا الرجل يدفن صبيه نسوا ذلك وكأن الأرض التي كانت تحيط بالشجرة لم تحو في أحشائها صبياً مات في الطريق.. فظل الحديث يدور حول ما رآه الأولاد في إحدى الجمع من عيدان بخور مطفأة وبقايا شمعة محترقة، وبعد أن غمر الماء تلك الأرض صار من المعجزة أن يتذكر أحد شيئاً من الماضي.. فصار كل شيء ماضياً، ذهب مع ما ذهب من كلام وطواه النسيان إلى الأبد.. الرجل المجنون كما يسميه أولاد الزقاق. وحده الذي يحوم حول المكان، حتى أن البعض ساورته الشكوك، ماذا يفعل هذا الرجل في ذلك المكان؟
لكن الألسن تنشغل بأحاديث أخرى فيكون المجنون قد كسب وقتاً إضافياً لبقائه حراً يجوب الأزقة لا أحد يهتم لأمره.. أولاد الحي الذين فقدوا ساحة لعبهم قرب النخلة منذ ثلاث سنوات وجدوا لهم أرضاً بديلة بعيدة عن النهر، خلف البيوت.. جرداء مقفرة كانت مملوكة لرجل يسير بعكاز وتنتشر كلابه الشرسة عليها.. إلا أن موت الرجل واختفاء كلابه جعلهم يفكرون بجدية بتحويلها إلى ملعب في تلك الفترة على الأقل، لا سيما أن الأرض قد آلت إلى زوجته العاقر.. الرجل المجنون كان أول المسرورين بذلك.. فابتعاد الأولاد عنه يعني لـه الكثير.. فراح يطيل وقت مكوثه قبالة النخلة رغم ما يظهره الناس من امتعاض فهو لم يؤذ بشراً قط.. لم يخرق حرمة دار أو يعتدي على طفل أو امرأة، كان مسالماً وأكثرهم وداعة رغم أن مظهره لم يوح بذلك.. لم يقترب من حياتهم، لم يشاركهم بشيء.. فاختار طريقته في العيش وحيداً لم يتكلم مع أحد منذ وطئ هذا المكان من المدينة.. فالناس لم يهتموا يوماً لوجوده، فكان تاريخ حضوره منسياً، حتى ظهوره لم يكن مفاجئاً، فقد تعودوا رؤية أمثاله.. فالمدينة مزدحمة وشخص مثله لا يلفت الأنظار لاسيما أن تصرفه لا يوحي بالجنون أصلاً، فظل تاريخ قدومه إلى المدينة مجهولاً ولم يتعب أحد نفسه في البحث والتقصي لأمر لا طائل منه. وحده يعرف متى جاء.. هو فقط يعلم ذلك.. ولكنه ظل حبيس وحدته وغربته في تلك الزاوية البعيدة تحت الجسر.. ولا يعلم لماذا حبس هذا الرجل نفسه هناك ولم يغادر كل هذه السنين؟ ما الذي أعجبه في حياته هذه؟ أسئلة ظلت تراود البعض وحين لم تجد جواباً سكتت واختفت من رؤوسهم، في المقهى المطل على النهر دار الحديث حول الساحة الجديدة للأولاد، تلك الأرض التي مات صاحبها وهجرتها الكلاب الشرسة وورثتها امرأته العاقر، أحد الجالسين حذر من احتمال ظهور وريث آخر غير المرأة فتكون صدمة الأولاد كبيرة رغم أن الأرض جرداء مقفرة، لكن صاحبها كان يعتبرها كضيعة غناء لا يسمح باقتراب أحد منها، فضلت منيعة على الأولاد طيلة السنوات الثلاث التي غرقت ساحتهم فيها.. رد أحد الجالسين.. وماذا يستطيع الوريث فعله في تلك الصحراء القاحلة؟ التي لا تصلح غير مدافن للموتى. كان كلامه قد وقع كالصاعقة على رأس رجل انتفض من مكانه كأنه اكتوى بنار حامية.. وقال متخابثاً..
ـ كل الأرض تصلح لأن تكون مدفناً! حتى تلك الأرض التي غمرها النهر صارت يوماً مدفناً حينها لم يعترض أحد منكم.. علت الدهشة على الوجوه المبهورة، واصل الرجل .. أتذكرون إن الغريب الذي دفن ابنه فيها لم يمنعه أحد، لم يقل لـه أحد إن هذا المكان ليس مقبرة فلا نريد أن يتكرر ذلك، لا نريد موتى يدفنون في ساحة لعب أبنائنا.. لقد حدثت مرة ولم تتكرر..
وفي غيظ رد عليه صاحبه:
ـ وما أدراك بأن المرأة لن تفعل شيئاً للأرض؟
ـ هذا احتمال بعيد.. فلا أحد منا يتكهن بذلك.. الأرملة الآن مشغولة بحياتها.. بوحدتها في ذلك البيت الكبير المطل على النهر.. لا أعتقد بأنها ستفكر جدياً في الأمر..
ـ سنترك ذلك للزمن.
في ظهيرة ساخنة.. كان المجنون يجلس على إحدى الدكات الحجرية المثبتة قبالة النهر حيث كانت مجموعة الصبية تسبح، بعد لحظات نهض كالمذعور.. إلى حيث النهر.. تقدم تحت وابل صرخات أحد الأولاد.. الفزع اكتسح وجوه الآخرين.. الولد يصرخ.. نزل إلى الماء.. ظل يسير مسرعاً متوجهاً إلى حيث الولد الصارخ أسرع المجنون فيما أطلت بعض الرؤوس من البيوت القريبة تنظر إلى النهر وتعالت همهمات.. السعلاة.. السعلاة تجاوز المجنون النخلة نظر إليها نظرة خاطفة فصياح الولد بدأ يخفت.. الأولاد الآخرون لم يفعلوا شيئاً.. لم يعرفوا ما الذي يجري.. الرجل المجنون يغطس تحت الماء ويمسك بذارع الغريق سحبه وأخرج رأسه من الماء حيث لا زالت بقية من أنفاس تصعد بصعوبة، سحبه إلى خارج النهر فيما كان الأولاد ينظرون بدهشة لما يفعله المجنون.. عندما انتشر الخبر في بيوت الأزقة المواجهة للنهر، هب الناس المدفوعون بفضول لمعرفة ما حدث وكيف عالج المجنون الأمر.. أسئلة يتقاذفونها وهم مسرعون إلى حيث سيجدون أجوبتها بالانتظار.. الرجل المجنون ظل جالساً على الدكة الحجرية قبالة النهر، الأولاد غادروا المكان حاملين صاحبهم الذي لم يفق من صدمته بعد.. تجمع الناس حول المجنون لكنه تجاهل ما حدث.. صرخ أحد الرجال مستغرباً..
ـ أخبرنا بالتحديد.. كيف أنقذت الولد؟
تساءل آخر بريبة:
ـ أين تعلمت السباحة؟
فيما قذفه آخرون بسيل من الأسئلة التي لم يجب عنها، فظل صامتاً يهز رأسه علامة الأسى وهو يحدق بالوجوه المبهورة..
ـ لماذا لا تجيب.. هل أنت أخرس؟
ـ صحيح والله.. لم نسمع منه كلمة واحدة حتى الآن.. إنه يعيش بيننا ولم نسمعه يوماً يتكلم.. لم نسمعه إلا باكياً وهو يحضن النخلة منذ أيام... الرجل المجنون ما زال هائماً في دوامته التي صنعوها له، لم يجب بأية كلمة لكنه نهض وقد انتصب متماسكاً وحاول شق طريق لـه وسط الحشد، لكنه لم يستطيع فظل يدور حول الواقفين الذين لم يسمحوا لـه بالمرور من بينهم.. أطلت من بين الواقفين الأرملة صاحبة الأرض التي حاولت أن تجد لـه مخرجاً لكنهم لم يسمحوا فحاولت ثانية واستطاعت بعد جهد إقناع الواقفين قربها.. خرج المجنون تطارده النظرات المصدومة.. غادرت الأرملة خلفه وعندما شعرت بأنها قد ابتعدت قليلاً عن الحشد الذي تفكك عقده سألته فيما إذا كان يريد أن يأكل.. نظر إليها مشيراً إلى معنى خفي في عينيه وهو يحدق في ذلك الوجه الأربعيني.. ولكنها فوجئت بأنه يومئ برأسه في تجاوب.. تقدمت المرأة أمامه.. سارت مسرعة تحت لهيب الشمس وهي تتفلع بعباءة سوداء لامعة.. لم يستطع اللحاق بها فعثرت قدمه ووقع أرضاً.. لكنها سمعت اصطدام جسد رجل هزيل بالأرض فعادت ورفعته، كلمته بابتسامة.. أنت كومة عظام.. لم يبق منك شيء.. نهض ولم يجبها بكلمة..
دخلا البيت المقابل للنهر.. بيتاً كبيراً تتقدمه حديقة تبدأ من الباب الأمامي وتنتهي بالباب الخشبي الكبير الرابض وسط الدار يخترقها ممر صغير صفت أرضيته بالطابوق الملون، فيما تعالى نباح كلب من فوق السطح.. جلس متكئاً على الباب من الخارج. دخلت إلى صالة البيت الكبيرة.. بعد برهة أحضرت معها صينية فيها صحنان من الطعام ثم أوصدت الباب واختفت في الداخل.. كان المجنون قد قضى كلياً على الصحنين وتركهما جانباً.. مرت ساعة خرجت بعدها الأرملة وبيدها دشداشة نظيفة رفض المجنون ارتداءها رغم توسلات المرأة ولكنها اقترحت أن يلبسها لوحده.. ارتدى الدشداشة في ركن بعيد عن الحديقة وقد أدارت وجهها عنه.
دنا منها لكنه فجأة أعطاها ظهره وخرج مسرعاً من باب الحديقة إلى الشارع.. الأرملة التي كانت ترتدي ثياباً سوداء حداداً على زوجها، ارتعش قلبها رعشة لم تكن تعرفها من قبل واختفت الكلمات في حلقها ولم تنطق بأية كلمة خلفه. في ظهيرة اليوم التالي جاءت إلى حجرته الصغيرة تحت الجسر.
دخلت.. شعرت بالخوف وارتبكت عندما رأت الغضب يتجمع في عينيه لكنها تقدمت نحو.. اقتادته من يده وخرجا معاً..
جلس مسنداً ظهره على الباب الخشبي صاحت به.. ادخل، سحبته من يده وأدخلته عنوة وأوصدت الباب.
لكن خاطراً جنونياً بدا يستبد به فظل يستغيث ويرفض. اجتاز المجاز إلى الباب الخشبي الكبير، اندفعت خلفه كالمجنونة.. فهوى بكفه على خدها فلطمها بقوة ثم خرج مسرعاً إلى الشارع.. أحس بقشعريرة ما تسري في جسده وهو ينظر إلى النخلة في تلك الساعة القائضة من النهار، بينما اكتوت قدماه الحافيتان من تراب الطريق الساخن.. كان ماء النهر يندفع ضارباً الجرف وبدت الأرض في رأسه المتعب عائمة تدور به فسقط مغشياً عليه.. أرض الأرملة ظلت ملعباً للأولاد دون أية متاعب.. فساحتهم المفضلة قد غمرها الماء ولم تعد تنفع، النخلة تبدو كأنها غريبة وحيدة وسط النهر لا أحد يقترب منها،
الرجل المجنون أخذت ملاحمه تبرق وهو يدنو من الماء، لا أحد في هذه الظهيرة يستطيع أن يراه، الشوارع خالية وقد آوى الناس إلى بيوتهم. استند إلى جذع النخلة أمسكها بذراعيه وسها وأغلق عينيه، فترامت إلى سمعه نثار كلمات متباعدة.
ـ عد من حيث أتيت!
ـ أتبكي أنت أيضاً؟
ـ أبكي وحدتي وغربتي.. ارحل إلى بيتك ودعني من عذاباتك!
ـ لا أتركك!
ـ وما تستطيع فعله، ارحل:
لا أستطيع شيئاً لكني لا أقدر على الرحيل!
ـ لا أستطيع نسيانك لقد واريتك بيدي.
ـ واريت وحيدي التراب بكفي هاتين.. لا أستطيع.. لا أستطيع..
ـ أنا مرتاح في رقدتي، أنت الذي تتعذب كل يوم. بل في كل لحظة..
كانت الريح تهب عنيفة فتدفع بأمواج النهر إلى الشاطئ بقوة.. اتجه صوب الشاطئ لم يستطع التغلب على تيار الماء الجاري بقوة فسقط على وجهه ونهض مواصلاً سيره بصعوبة، منذ ثلاث سنوات وهو يعبر إلى النخلة ماشياً، فالماء ليس عميقاً هنا والفيضان الذي غمر الأرض لم يكن هادراً فبدا كمد أصاب النهر دون جزر..
الأيام التي مضت كان المجنون يدور لاهثاً في الشوارع ليس كعادته، هذه المرة كان مثار استغراب الناس الذين لم يتعودوا رؤيته هكذا.. كان يدور ويدور كخفاش ويمر من أمام بيت الأرملة فيتعالى نباح كلبها فيطل رأسها من فتحة الباب
ـ ماذا دهاك أيها المسكين؟
ولكن لا جواب.. يواصل دورانه حول الأزقة، بنظرات تندفع ذاهلة متسائلة.
ـ ماذا يفعل هذا الرجل بحق السماء؟
يتجاوز كل بيوت الأزقة مخترقاً ثرثرة النسوة وأسئلة الرجال..
ـ رجل غريب ألا يتعب؟
فتلوك الألسن حكاية الرجل ثانية.. أسرع يلهث حائراً إلى حجرته تحت الجسر.. نهض الناس صباح أحد الأيام على دوي صرخات مفزوعة لأحد المارة بالأزقة، وهو يصيح
هرب النهر! النخلة رجعت إلى أرضها!
لم يعرف أحد السامعين ما الذي قصده الرجل، ولكن شعاع شمس الصباح قد سقط على أرض خلت من الماء تقف النخلة في وسطها.. انحسر الماء عنها فكشف عن بركة من وحل، تجمع المارة قبالة النخلة وقد علت الدهشة الوجوه.
ـ الله أكبر!
ـ ترى متى جمع الماء أشلاءه وانسحب طائعاً؟
ـ بالأمس كانت الأمواج تتلاطم على الشاطئ.
ـ النخلة عادت إلى مكانها ثانية!
الرجل المجنون يقف مع الجموع.. تهللت أساريره وهو يرى بأن الأرض تمتد يابسة حتى جرف النهر لا ماء يغمر النخلة بعد.. فجأة شقت دوائر الدهشة صوت الرجل المجنون وكان صوته ينسل هادئاً إلى الواقفين..
ـ بإمكاني الآن الذهاب إلى النخلة دون عناء! وأشعل الشمعة وعود البخور!
ـ يا إلهي ما الذي يقوله هذا الرجل!
ـ أراهن إنه ليس بمجنون.. إنه أعقل منا!
ـ كأنها صحوة موت إذن!
ـ لا أصدق إن هذا الجسد الذي يشبه جثة تمشي في الشوارع.. يقول هذا الكلام!
ـ سبحان الله! لا شيء غريب وعجيب بعد الآن.
ـ نستطيع أن نساعدك في أي أمر تحتاج فيه مساعدة.
توسد الرجل المجنون مكاناً قرب النخلة رغم الأوحال التي كانت تملأ الأرض التي هرب منها الماء تواً نزل الرجال في إثره..
ـ أية حماقة ترتكبها يا هذا!
ـ لقد حيرتنا في أمرك.
نهض الرجل المجنون وانتصب واقفاً صلباً كعود وقال بنبرة قوية.
ـ لقد أخطأتم في حقي!
ظلت الأنفاس المبهورة ترقب ما يحدث
ـ لست مجنوناً.. لم أكن يوماً كذلك!
بهت وجهه ثم ضحك في بلاهة..
ـ أنا مثلكم ألا ترون ذلك؟ لا شيء ينقصني..
اقتربت الأرملة منه وكأنها تريد الإمساك بطير فارق قفصه.. اقتربت وسط حشد الرجال الملطخة أقدامهم بالوحل.. تمنت لو أنها أخذته معها في تلك اللحظة بعيداً عن العيون، تمنت لو أن ذلك لم يحصل هنا في هذا المكان الصاخب.. أتذكرون قبل عشرون عاماً.. أخمن أن الرجل الذي أعارني مجرفة موجود الآن بينكم، لقد حفرت هنا ودفنت ولدي المريض.. كلكم تذكرون ذلك.. أنا الذي دفن ولده في هذه التربة.. لكني لم أشأ أن أترك المكان وأنسى ذكرى ابني الوحيد.. تحملت كل شيء لأجل أن أبقى قريباً منه.. أنا لست مجنوناً أبداً.. كانت الأرملة هي الوحيدة التي تستطيع أن تخمن مدى الحزن في قلبه هذه اللحظة..
انطلق صوت من الواقفين
ـ ماذا يقول هذا الرجل؟
ـ لقد أثبت جنونه الآن أكثر من أي وقت مضى!
ردت الأرملة بقوة..
ـ أنت واهم فهذا الرجل يتكلم بصدق.. إنه صادق في كل كلمة..
ـ تخيلات.. كلها تخيلات.. وهذا الرجل واهم.
جثا الرجل المجنون قرب النخلة وأخرج شمعة وعود بخور.. بعد ساعة انحسر الجمع عنه فيما كانت الأرملة تقوده إلى دارها تحت دهشة واستغراب أهل الأزقة..

مقطع من رواية
ناصرية 2001
****



#ابراهيم_سبتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- درس في السومريات
- لقاء خاص وصريح مع الأديب احمد ألباقري
- طيور العتمة
- الحوار المتمدن ، حزمة ضوء في عتمة
- !! صدّق .. صدّق .. حتى تُكذب نَفسَك
- الابداع وهموم اخرى
- فصل في هذيان القاص خارج المتن
- عصف الظنون
- قباب الماء / قصة قصيرة
- الناصرية تكرم مبدعيها
- الادب العراقي القديم : أوجه النص ودلالات المعنى
- استشعار ضفة القصة في الناصرية
- سواقي القلوب رواية الذاكرة الطرية
- نعيم عبد مهلهل .. حلم المبدع المرصع بالحنين
- صراع الاقواس .. من يغلقها اولا ؟
- كم من المدن تنام فوق السطوح ؟
- بقايا معطلة / قصة قصيرة
- الشاهد والمطر / قصة قصيرة
- متاهة / قصة قصيرة
- اوجاع بلا هوادة


المزيد.....




- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم سبتي - نخلة في نهر