في مقالته ( المثقفون العراقيون والعرب) المنشورة في جريد القدس العربي بتاريخ 30 /6 / 2003 تناول السيد عبد الباري عطوان موضوعة مهمة جداً، اعتمد فيها اسلوب المماطلة تارة والهجوم والتشكك تارة أخرى، ومنذ بداية المقالة ركز على قضية اعتبرها مشكلة معقدة تواجه المثقفين العراقيين ، وهي مشكلة الإحتلال، فهو كعادته منذ ان عرفناه وقرأنا له يحوّل أي موضعة تدين النظام العرقي السابق إلى قضية أخرى ليتخلص من إعلان موقفه المؤيد والتبعي لهذا النظام، فنجده يكتب " فالنظام الذي (بنوا) على معارضته، وابراز جرائمه ودكتاتوريته طوال الثلاثين عاما انتهى " أي أنه حوّل مقولة الجرائم والدكتاتورية على المثقفين العراقيين وأعلن بشكل واضح أنه والبعض من المثقفين العرب ابرياء من هذه الإتهامات، مثلما فعل البعض مع المقابر الجماعية..
أن كلمة (بنوا) هي عبارة عن التشكك في هذا البناء الذي قام به مئات المثقفين العراقيين الوطنيين المعارضين أو الذين هربوا من تحت خيمته خلال حكمه البشع بعد ذلك.
وبينما يطالب السيد عبد الباري عطوان المثقفيين العراقيين بالوقوف ضد الإحتلال ومعارضته لا ينبس البتة بحرف واحد عن الأسباب التي أدت لهذه النتائج ولهذا الإحتلال كي نصدق أنه يقف بجانب المثقفين العراقيين والشعب العراقي الذي عانى من الإضطهاد عقود عديدة، أما الإحتلال فهذه قضية معروفة ولا يمكن لأي وطني غيور يوافق عليه مهما حاول السيد عبد الباري وغيره التشكك بأصالته.
ان المثقفين العراقيين الذين لا يمكن التجاوز على وطنيتهم واخلاصهم يعتقدون ان السيد عبد الباري عطوان (وبعض المثقفين والفنانين ) العرب وليس جميعهم كانوا ومازالوا يقفون في خندق النظام العراقي ويدافعون عن بقائه لأسباب معروفة، وليس مع الشعب العراقي ومظلوميته ومأساته، ولهذا لا يمكن المزايدة على وطنية أكثرية المثقفين العراقيين لا من قبل السيد عبد الباري ولا من أي مثقف عربي كانت له علاقات مشبوهة مع النظام العراقي.
لقد أخطأ السيد عبد الباري في تصور الأمر بهذا الشكل الساذج معتقداً أنه يستطيع بواسطة حشو الجمل عن الوطنية والقومية والخنادق وقضايا الإحتلال خداع الوعي العراقي المثقف، واتهامه المردود أساساً الموجه، بأن المثقفين العراقيين يؤيدون إحتلال أراضيهم ويطالبون بالإنسلاخ من قضايا مصيرية تجمعهم مع الشعوب العربية الشقيقة، وهي تهم بائسة وباطلة من الأباطيل التي روجت وتروج من قبل البعض الذين وجدوا أنفسهم عارين حتى من ورق التوت كما يقولون.. لأن المثقفين العراقيين كانوا ومازالوا لا يقفون مع القضايا المصيرية للأمة العربية فحسب إنما مع جميع الشعوب المضطهدة والمحتلة في العالم.
وعلى ما يبدو أن السيد عبد الباري بنى كل آماله على بقاء النظام العراقي وبعدما أفلس من هذا، وَجَه حقده على المثقفين العراقيين جميعهم واتهامهم وكأنهم عملاء يرقصون ويطبلون للإحتلال الأمريكي البريطاني للعراق كما كان البعض يرقص ويطبل في أعراس الدم التي اقيمت للشعب العراقي خلال 35 عاماً..
ان الاعتماد على بعض المواقف المتشنجة أو المؤيدة للإحتلال لا تعطي الحق في خلط جميع القضايا في قضية واحدة، وموقف هنا أو هناك لا يعني البتة أن يجعل السيد عبد الباري أو غيره من المثقفين العرب الذين كانو ا أبواقاً للنظام العراقي بتوجيه حقدهم ضد وطنية المثقفين العراقيين. وهو العارف أن مثل هؤلاء موجودين في كل مكان حتى بين الفلسطينين وتعاون البعض منهم مع القوات الإسرائيلة بطرق عديدة..
لو تحدث السيد عبد الباري عطوان عن رأيه مرةً واحدة بالدكتاتورية وسياستها الرعناء التي مارستها طوال العقود المنصرمة على المستوى الداخلي وعلى المستوى العربي والعالمي، لكنا على الأقل اعتبرناه مخلصاً فعلاً فيما يطرحه ليس في القضية الفلسطينية وإنما قي القضايا المهمة، وهو يعرف أن التضامن العربي الهش والذي دَمّرَ بقاياه النظام العراقي أدى لهذا الوضع المأساوي الفريد من نوعه ليس في العراق وإنما في المنطقة.
أتمنى لو انتصح السيد عبد الباقي عطوان من مقالة سابقة نشرها السيد عثمان العمير بخصوص 100 ألف دولار وغيرهالأن بعض الذين كانوا يقدمون إلى العراق يتلهفون لملأ جيوبهم من الكابونات النفطية للسوق السوداء والهدايا وجميعها من قوت الشعب الجائع المحاصر.
ويخطئ السيد عبد الباقي مرة أخرى عندما يشبه قضية الإحتلال النازي لفرنسا، وثورة العشرين وتركيا، وقضايا فردية حصلت من بعض الأكراد، أو الموقف من اكراد تركيا، هذا الأسلوب المحرض ليس إلا دق أسفين بين ابناء الشعب العراقي وتحريض بعضهم ضد البعض في هذه الظروف الحرجة.. فمن يريد أن يخدع ؟ لأن هذه القضايا كان لها وضعها وظروفها الخاصة والعامة.. لكن هذا لا يعني أن المثقفين العراقيين الوطنين يؤيدون الإحتلال الراهن ويعتبرونه تحرير كما جاء على ألسنة القلة القلية وهو ليس رأي الأكثرية.. فقرار مجلس الأمن 1438 واضح تمام الوضوح ولا يمكن التغافل عنه.. لكننا كيف يمكن أن نتعامل مع هذه الظروف التي استجدت وهي ليست بالتأكيد متشابهة لا مع فرنسا ولا مع أي بلد آخر احتل عسكرياًً.
السيد عطوان يعرف جيداً المخاطر الحقيقية التي تواجه الشعب العراقي ، فلول النظام المسلحة والمدربة أكثر من اي تنظيم آخر، عدم وجود المؤسسات الأمنية، السلاح الذي تم توزيعه بدون حساب، وقوات الإحتلال المدججة بالسلاح وقرار دولي يسمح لها في البقاء.. إليس من واجب السيد عبد الباري ومن يؤيده أن يقوم بتقديم رؤيا وطنية أو قومية خالصة لدفع القوى الوطنية العراقية للوحدة لكي تشكل حكومتها الإنتقالية كي تباشر في أعادة بناء مؤسسات الدولة وبناء ما خربته الحرب والنظام ، لكي نطالب برحيل القوات المحتلة عن البلاد، بدلاً من هذه العنجهية، أم يعتقد أن المطالية بالرحيل فوراً لا تؤدي إلى الحرب الأهلية وخطر التقسيم كما كان في لبنان لولا سوريا، وخطورة تقسيم العراق ألم يحسب لها حساب؟ وهل تتشابهة حالة فيتنام بعد تحرير سايغون وهرب الجيش الأمريكي مع العراق؟
عندئذ كيف يمكن أن يفكر السيد عبد الباقي عطوان، ومن هو المأهل الذي يستطيع وقف التدهور الذي سيحصل بالتأكيد.. إلا يعتقد أن هذا المخطط سوف لا يضر وحدة العراق فحسب وإنما جميع البلدان العربية وقضايا الأمة المصيرية؟
لماذا لا يقول السيد عبد الباري عطوان من هو الذي ضرب حلبجة بالأسلحة الكيمياوية وأنشاء الله يقول لنا أنها إيران!! وابادة 180 ألف كردي إنشاء الله يقول الأتراك.. أليس من المخجل قوله وانكاره أن البعض من المقابر "من صنع أعداء النظام أيضاً " هل وصل بالضمير هنا إلى نقطة النوزع إلى اللاضمير في هذه الإدعاء.. وكيف يفسر لنا أربع ملايين عراقي تقريباً هارب ومهجر عن العراق، أنشاء الله يقول انه رقم مبالغ فيه أو أنهم ليسوا عراقيين ، لنقل ثلاث ملايين عسى أن لا يزعل السيد عطوان .. وهذه السجون والمعتقلات اليس لها الحق على السيد عبد الباري عطوان الوطني والقومي والرافض لخندق الإحتلال والذي هو في خندق الحق والعدالة والقومية ومصلحة الأمة وضد خندق الإرهاب والإحتلال كلمة ضميرية ، وليس جملاً عابرة تمويهية .
نعم أن المثقفين العراقيين لا ينتظرون من السيد عبد الباري عطوان وغيره أن يبدلوا قناعاتهم السابقة " فمن شب على شيء شاب عليه" وهم يعرفون جيداً أن الصيد في المياه العكرة هدف جليل للبعض، وهم أيضاً يدركون أن العراق محتل وهم ضد الإحتلال كما كانوا ضد الإرهاب والتعسف والظلم، ولكن ليس على طريقة التدمير أكثر من التدمير الحاصل، فقصف الكهرباء والماء والحرائق والسرقة ونهب المؤسسات الحكومية التي اصبحت ملك الشعب العراقي ليست بالطريقة التي يعتقد السيد عبد الباري عطوان أنها موجهة ضد الإحتلال ورحيله، والحقيقة أنه المخطط الذي يساعد على بقاء الإحتلال مدة طويلة لكي ينجو المجرمين من العقاب ، ولكي لا تعود المؤسسات والقوانين التي من خلالها ممكن تقديم الذين أضروا الشعب العراقي إلى المحاكمات العادلة لكشف الكثير من الحقائق المخبأة، أنه المخطط نفسه الذي سلم بموجبه العراق وشعبه على طبق من تنك للأمريكان والأنكليز وغيرهم.. والسيد عبد الباري عطوان يدرك ذلك حق الإدراك ولكنه يغمض ضميره قبل عينيه. وبدلاً من ان يعاتب المثقفين العرقيين من أجل تغير قناعتهم 180 درجة ويتفقون معه أن النظام العراقي لم يكن نظاماً دكتاتورياً أن يوجه هذا النقد إلى ضميره ويعتبر النظام هو اساس البلاء في العراق اما مسألة الإحتلال فإنهم يدركون وبقناعة تامة أنه أحتلال وعليهم النضال ضده ولكن ليس عن طريق أستمرار بقائه أطول مدة..