أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مالك ابوعليا - تاريخ الري الزراعي في جنوب تركمانستان















المزيد.....


تاريخ الري الزراعي في جنوب تركمانستان


مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)


الحوار المتمدن-العدد: 7987 - 2024 / 5 / 24 - 13:53
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


تأليف: جـ. ن. ليسيتسينا*

ترجمة مالك أبوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

أتاحت الدراسة الأركيولوجية لمواقع العصر الحجري الحديث الى العصر الحديدي الباكر في جنوب تركمانستان، الى جانب دراسة التاريخ الجغرافي القديم، إمكانية اعادة بناء تاريخ هذه المنطقة بشكلٍ أكثر اكتمالاً من مناطق الزراعة القديمة في بلادنا. عندما نأخذ في الاعتبار أن مناخ هذه المنطقة جاف شبه استوائي، يُصبح تاريخ الزراعة مُثيراً للاهتمام بشكلٍ خاص، لأن الزراعة تطلَّبَت في هذه المنطقة منذ مراحلها الأُولى، أي منذ الألف السادس ق.م، ضرورة ابتكار أساليب مُعينة من الري. تؤكد سلسلةٌ من دراسات التاريخ الجغرافي، موضوعة الاستقرار النسبي لمناخ المناطق شبه الاستوائية على مدار الثمانية الى عشرة آلاف عامٍ الماضية، وتؤكّد كذلك التشابه في الظروف الطبيعية خلال فترات العصور الحجري الحديث، والحديث المُتأخر والبرونزي والحديدي الباكر. وتؤكد هذه الدراسات أن قبائل جنوب تركمانستان طَوّرَت اقتصادها وفقاً للظروف القاحلة السائدة في آسيا الوسطى والشرق الأدنى.
في زمنٍ مُبكرٍ من العصر الحجري الحديث، كان طابع الظروف الطبيعية الذي يُميّز جنوب تركمانيا مُحدداً لشكل الاقتصاد، مما حدا بالزراعة أن تتخذ دوراً قيادياً، ودَفَعَ بالرعي الى الخلفية. يُمكننا اليوم، على أساس مجموعة من المواد الأركيولوجية والباليوغرافية المُطبقة على تاريخ الزراعة في تلك المنطقة، تحديد ثلاث مراحل مُتتالية في تطور طُرُق الري، والتي انعكَسَت فيها ديناميكية العملية الزراعية على قاعدة تطور القُوى الانتاجية وعلاقات الانتاج: تميّزَت أقدم فترة انتقالية، بمزيجٍ من أشكال الزراعة البعلية والمروية، وفترة إقامة أنظمة الري البسيطة، وفترة نشوء أنظمة الري المُعقدة التي كانت قادرةً على ريّ حقولٍ واسعة.
أدناه، سوف ننظر في هذه المراحل الثلاث المُتعاقبة، ليس فقط باعتبار التغيرات الحاصلة في طُرُق الري، ولكن أيضاً بالنظر الى مجموعة البيانات التي تُشخّص حالة الزراعة.
1- تعود المرحلة الأولى الى العصر الحجري الحديث والعصر الحجري الحديث المُتأخر (ثقافة جيتون jeitun، وفترة نامازغا 1، التي تمتد من الألف السادس الى منتصف الألف الرابع ق.م). تركَّزَت المُستوطنات الزراعية العائدة الى العصر الحجري الحديث بدايةً في السفوح الشمالية لكوبيت داغ Kopet Dagh، وحتى الآن، لم يُعثَر على مثيلٍ لها في أي مكانٍ آخر بعيداً عن الجبال. لقد ارتبطَت هذه المواقع في الماضي، بالمراوح الغرينية للجداول الجبلية الصغيرة، والتي يُمكن تتبع مواقعها الجافة اليوم بواسطة تقنيات المُراقبة الجوية. تقع هذه المواقع اليوم عادةً في مناطق صحراوية تنعدمُ فيها المياه، وهو مايرجع الى التغير في الشبكة المائية خلال الـ8000 سنةٍ الماضية.
حدثَ التحوّل الى الزراعة المُستقرة في جنوب تركمانستان في ظل ظروف مُحددة للغاية، في منطقة ما يُسمى بالزراعة البعلية. هُنا، تُنتِج المزروعات التي تعتمد على هُطول الأمطار محاصيل قليلة للغاية. ولكن كان يُمكن تطوير الزراعة المروية في هذه المناطق بالتحديد على السهول التي تندفعُ منها مياه جداول الجبل. وعلى عكس حقول الزراعة البعلية، أنتَجَت هذه الزراعة المروية من جداول مياه الجبل، محاصيل غنية بكمية عملٍ قليلة نسبياً، كانت ضامناً لحصول السُكّان على قدرٍ من البروتين. كان هذا المزيج من المزروعات البعلية والمروية، والذي أمَّنَ حداً ثابتاً من الغذاء للناس، هو الذي حفَّزَ الانتقال الى وُجودٍ مُستقر في هذه المنطقة عند أقرب فُرصةٍ مُمكنة. ويُمكن الافتراض أن الزراعة البعلية حَدَثَت على سفوح التلال، حيث كان هُطول الأمطار أعلى، في حين كانت الزراعة المروية تتم في الأجزاء السُفلية من التلال، على السهول المُجاورة.
في البداية كانت طريقة الريّ الوحيدة المُستخدَمة هي غمر الحُقول المزروعة أثناء ارتفاع منسوب المياه عن طريق توجيه المياه بأدواتٍ بسيطة، وتطويق الأرض المُراد سقايتها، بما يُفتَرَض أنها ألواحٌ من الخشب. لسوء الحظ، ثَبُتَ أنه يستحيل العثور على بُنى الري الباكرة هذه، بسبب مُعدّل تراكم الرواسب الغرينية على سفح الجبل. ولكن، يُمكن تتبع أدلّة أُخرى على الزراعة القديمة، والتي يجب على المرء أن يُصنفها. أولاً، بقايا البذور المتفحمة، وأيضاً آثار الحبوب على الطلاء الطيني لأرضيات وُجدران منازل مُستوطنة جيتون. وتم التعرّف، من بين تلك البذور، على القمح الناعم والقمح القزم، والشعير ثُنائي الصفوف. يُشير العثور على أنواع حبوبٍ هجينة، مثل القمح الناعم، الى أن الزراعة كانت عملية بدائية بدأت قبل العصر الحجري الحديث.
وعلى امتدادات الأرض الترابية بالقُرب من مُستوطنات جيتون، تقع تحت طبقات التربة الصحراوية طبقات طينية ذات سماكات مُختلفة، مُحتفظةً بعلاماتٍ واضحة على أنها كانت تُستَخدَم في الزراعة القديمة. فمثلاً، هُناك الطبقة الطينية المروية القديمة، والتي تتميّز بلونٍ أغمق بسبب احتوائها على نسب مُرتفعة من المواد العضوية، وكثافتها الكبيرة وبُنيتها الحُبيبية وقلّة تملُّحها.
عُثِرَ كذلك على أدوات زراعية في مُستوطنات جيتون: مناجل وسكاكين حصيدة، والتي صُنِعَت مقابضها من العظام، وربما من الخشب وأحياناً كانت ذات نُصول صوانية. عُثِرَ كذلك على أدوات مُختلفة مُصممة لمُعالجة المنتجات الزراعية: المدقّات وأحجار الطحن. لم يُعثَر على أدوات لحراثة التربة، على الرغم من الحفريات الكبيرة التي قامت بها بعثات كثيرة. ولعل سبب غياب مثل تلك الأدوات يكمُن في طبيعة التُربة، وخفّة تكوينها المادي. كان يُمكن التعامل مع تلك التربة باستخدام المعاول الخشبية، وخاصةً أخشاب شجرة الأثِل tamarisk، حيث أكَّدَت الأبحاث الأركيولوجية للحياة النباتية القديمة عن تواجد غاباتٍ من هذه الأشجار وأشجارٍ أُخرى، عن طريق فحص الفحم الموجود في مواقع جنوب تركمانستان.
تُشير الحسابات التقريبية لعدد السكان في المنطقة الواقعة عند سفوح الجبال خلال العصر الحجري الحديث، وكذلك تقديرات غلّة الزراعة البعلية والمروية، الى أن نصيب الفرد من السكان كان حوالي 270 غراماً من الحبوب، اضافةً الى حصة كُلٍ منهم من مُنتجات الصيد الحيوانية. وهذا يُشير الى أن هذه الكمية كانت كافيةً لتلبية الاحتياجات الأكثر الحاحاً للانسان، ولكن من الواضح أنها لم تكن كافية لإنتاج أي فائض. فقط التوسّع في الحقول المروية والتطوير المُكثّف للري يُمكن أي يضمن زيادةً ثابتةً ومُنتظمةً في فائض الانتاج.
شَهِدَت الفترة التالية، نهاية العصر الحجري الحديث، شيئاً من توسّع المنطقة الجغرافية التي كانت المُجتمعات الزراعية المُستقرة تقطُنها. هُناك حالات معروفة لانتقالِ عددٍ من القبائل من المنطقة الواقعة على سفح الجبل نحو سهل الدلتا الغريني لنهر تيجين. وهذا الانتقال، هو عامل هام لأنه يشهدة على نشوء الزراعة المروية باعتبارها العصب الأساسي للاقتصاد. في حين كانت الزراعة البعلية في منطقة سفوح التلال تخدم كمصدرٍ جانبي للحبوب، فإن زراعة الحقول في دلتا تيجين لا يُمكن أن تتم سوى بالري الاصطناعي. إن حقيقة أن مواقع المُستوطنات التي انتقلَت من الجبال الى الدلتا، كانت تقطُن الدلتا السُفلي، أي المنطقة التي تؤثر عليها أمواج المياه وليس تدفقها، تسمح لنا بافتراض أن الناس كانوا، في المراحل الأُولى للاستيطان، يتبعون الطريقة التقليدية القديمة في الريّ، باستخدام الغَمر الناتج عن الفيضان.
لم يُعثَر حتى الآن على أي مُنشئات للري تعود الى ذلك الوقت، ولم تُلاحظ أي تغييرات هامة في مجموعة البذور المزروعة. على الرغم من ظهور المعدن، استمرت أدوات العمل كما كانت من قبل، مثل سكاكين الحصاد والمناجل الصوانية والمدقّات وأحجار الطحن. عُثِرَ على معزقتين حجريتين مشابهتين لما وُجِدَ في مُستوطنة حسونة، في موقع تشاكماكلي ديب Chakmakly-depe. ولكن هذا الاكتشاف في حد ذاته ليس أساساً للاعتقاد بأن المعازق الحجرية كانت تُستَخدَمُ على نطاقٍ واسعٍ في الزراعة. يبدو أن الأدوات الزراعية الرئيسية كانت مصنوعةً من الخشب. عُثِرَ في تلك المستوطنات أيضاً على وزنات حَلَقية للضرب على عُصيّ الحفر، والتي يُمكن استخدامها الى جانب المعازق الخشبية، لزراعة التربة الطينية الخفيفة.

2- المرحلة الثانية في تاريخ الزراعة، تتوافق مع فترة العصر الحجري الحديث المُتأخر والعصر البرونزي الباكر (نامازغا 2-4، من منتصف الألف الرابع الى بداية الألف الثانية قبل الميلاد)، وهي تتميز بظهور أبسط أنظمة الري، والتي أنشِئَت عبر جهود المُستوطنات الفردية. . لسوء الحظ، للأسباب التي ذكرناها أعلاه (التراكم السريع للترسبات الطينية في المنطقة الواقعة عند سفح الجبال)، فلا يُعرَف عن وجود أي مُنشئات للري في هذه الفترة. إن الافتراض بوجود الزراعة البعلية والمروية في هذه المناطق، مع سيطرة الزراعة المروية، لا يزال فرضية صحيحة.
يُمكن تتبع المبادئ العامة لتصميم أبسط أنظمة الري من خلال النظر الى الأبحاث التي أُجرِيَت على مُستوطنات العصر الحجري الحديث المُتأخر في واحة جيوسكيور Geoksyur في القسم الشرقي من الدلتا السُفلي لنهر تيجين. وثَبُتَ، بمُساعدة المسح الفوتوغرافي الجوي الخاص الذي غطّى مساحة 400 كيلومتر مُربع، ثَبُتَ أنه يُمكن رؤية نمط شبكة الري المائية القديمة، وتتبع بقايا مُنشئات الري التي تعود الي فترات العصر الحجري الحديث المُتأخر في مُستوطنة جيوسكيور 1. بالنسبة لفترة نامازغا 2، اكتُشِفَ قسم صغير فقط من مصارف الري irrigation ditches والتي صارت الآن مطمورةً بالطمي ومدفونة تحت طبقة لاحقة. ولسوء الحظ، لم تستطع هذه المصارف أن تُعطينا فكرة عن منظومة الري ككل. كان نظام الري في فترة نامازغا 4 هي الأكثر وضوحاً. وتتكون من ثلاث قنوات مُتوازية تنبُع من فرع رئيسي من الدلتا. وتتفرّع من هذه التُرَع أو القنوات شبكة من المصارف الصغيرة، تُوصِل المياه مُباشرةً الى الحقول، والتي تمتد على حزامٍ ضيق على طول نظام الري. تم الري، في المواقع الواقعة مُباشرةً على فروع الدلتا الرئيسية، خلال موسم الفيضان من خلال نظام توجيهٍ للمياه يعتمد على سدّ القنوات (خابوز ديب Khapuz-depe). تم تأكيد ظهور خزانات المياه الأُولى في جنوب تركمانيا في نفس الفترة الزمنية (مولالي ديب Mulali-depe).
يُمكن العثور على آثار الزراعة القديمة في مقاطع التُربة، في المنطقة الواقعة عند قاعدة الجبال وعلى سهول الدلتا الغرينية. بالاضافة الى ذلك، أدَّت الزراعة المُتواصلة، في الأراضي المُنخفضة في قاعدة الجبال، على مدار قرونٍ عديدة، الى تشكيلِ طبقةٍ زراعية أثرية بِسُمكٍ كبير يصل الى 4 أمتار وأكثر. ومما يُؤسَفُ له أن التحقيب الزمني للطبقات المدفونة يستحيل عملياً حتى الآن(أ). هذه الطبقلات تمتاز بالخصائص المذكورة أعلاه: مُحتوى المواد العضوية مُرتفع، وما الى ذلك. فقط درجة ملحية التربة هي التي تختلف بشكلٍ كبير، والتي قد تكون أسبابها كثيرة، منها سمات التضاريس ونظام الري بالغمر. إن نطاق اللُقى الأركيولوجية القديمة المُتعلقة بالري القديم في واحة جيوسكيور، على عكس بيدمونت، ليس واسعاً وسميكاً، وهو ما يُمكن أن يُفسَّر بحقيقة أن هذه الأراضي استُخدِمَت لفترةٍ وجيزةٍ في الزراعة المروية، وكانت شديدة المُلوحة.
لم تُلاحَظ أي تغيراتٍ كبيرة في خليط البذور المزروعة وفي الأدوات المُرتبطة بعملية الزراعة. على الرغم من انتشار المعدن على نطاقٍ واسع، الا أنه لم يُعثَر على أدوات زراعية سليمة من المعدن حتى الآن. تسمح الأدلة بفرضية مُحتملة تقول باستخدام المناجل المُستقيمة والمُنحنية في الزراعة. إن العثور على عجلات فخارية مُصغَّرة لنماذج عرباتٍ صغيرة clay wagon في طبقاتٍ من أواخر العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي الباكر يُقدم دليلاً غير مُباشرٍ على استخدام قوة الجرّ في الاقتصاد. لم يُعثَر حتى الآن سوى على نموذج مُصغّر لعربةٍ طينيةٍ واحدة كاملة. ومع ذلك، لا يُوجد دليلٌ مباشر على استخدام القوة الحيوانية للجرّ في حراثة التربة. وجميع الحُجج المؤيّدة للانتقال الى الزراعة الحرثية في هذا الزمن، هي مُجرد افتراضات تحتاج الى مزيدٍ من البحث.
أدى ازدياد مساحة الأراضي المروية وتحسّن أنظمة الري وحراثة التربة الى ازدياد غلّة المحصول. وصارَ من المُمكن في عددٍ من المناطق، حيث يُوجد ريٌّ جيد، حصد محصولين في السنة. على العموم، نظراً لتوسّع المناطق المروية، قد تكون كمية الحبوب للفرد الواحد من السكان قد ازدادت خلال هذه الفترة، في المتوسط الى 370 غراماً.

3- الفترة الثالثة في تاريخ الزراعة المروية، عندما أنشِئَت أنظمة الري المُعقدة، وهي تتوافق مع فترة العصر البرونزي المتأخر والعصر الحديد الباكر (من نامازغا 5-6 وثقافة داخستان Dakhistan القديمة، من الألف الثاني وبداية الألف الأول قبل الميلاد). وتتميز هذه الفترة بتغيرات كبيرة في الثقافة المادية واقتصاد المُزارعين المُستقرين في جنوب تركمانستان. خلال هذه الفترة، كان هناك توسّع كبير في المنطقة الجغرافية التي احتضنت المُستوطنات الزراعية المٌستقرة، وزُرِعَت منطقة دلتا نهر المرغاب والمجرى السُفلي لنهر أتريك Atrek. يرتبط انشاء أنظمة الري الكثيفة على سهول الدلتا الغرينية في مرغاب وأتريك بسحب المياه من القنوات الرئيسية للأنهار، وهو ما تم عن طريق تقنيات رفع المياه. وتتكون هذه الأنظمة من قنواتٍ رئيسية كبيرة تُغذي شبكة مُتفرعة من القنوات الفرعية، في حين تم ري الحقول بشكلٍ مُباشر من نهر الأتريك. وما يُميّز هذا النظام هو أنه بُنيَت هياكل مدخلية خاصة لتنظيم تدفق المياه عند النقاط التي تسمح للقنوات الفرعية بالدخول الى القنوات الرئيسية. تطلَّبَ استغلال مثل هذه الأنظمة قوةَ عملٍ كبيرة.
أظهَرَت سنوات عديدة من الكشوفات على طول المجرى السُفلي لنهر أتريك، عند سهل الدلتا القديم الذي يُسمى الآن سهل ميشيد ميسريان Meshed-Misrian أن المزارعين استغلّوا، عند بناءهم أنظمة الري، ميزات تضاريس الدلتا، حيث أنشأوا قنواتهم الرئيسية على طول قمم السدود الطبيعية( التلال). ساعدَ موقع مصادر الري الرئيسية على ارتفاعاتٍ كبيرة، في تنظيم الري باستخدام الجاذبية، مما جَعَلَ بالامكان استغلال مساحات كبيرة من الأراضي للزراعة، وتم التخلص من مياه الري الزائدة، في المناطق المُنخفضة، هُناك حيث تشكَّلَت المُستنقعات الملحية. إن دراسة مُستويات الري القديمة، تسمح لنا باستنتاج أن الري كان يُنفَّذ بطريقة دقيقة للغاية، لأنه لا توجد آثار للتملّح الثانوي في المنطقة التي توجد عليها مواقع ثقافة داخستان القديمة. أدى عدم كفاية المياه التي تُجمَع من نهر أتريك الى الاستخدام المُتزامن للمياه الجارية سطحياً من سلسلة جبال كوبيت داغ الغربية لأغراض الري والاحتياجات المنزلية.
ظَهَرَت الحرف اليديوية في حزام بيدمونت كفرعٍ انتاجيٍ مُستقل. وأدّى تحسّن أنظمة الري، وتكثيف الزراعة المروية، الى ظهور مستوطناتٍ شبه مدينية protourban. ونظراً لأن كمية جريان المياه السطحية كانت محدودة، الى حدٍّ ما، بسبب توسّع الأراضي المروية، فقد تم البحث عن مصادر جديدة للمياه، وهذا ما أدى الى انشاء الكيارِز kiariz، وهي الأنفاق والآبار تحت الأرضية underground tunnels لجلب المياه الجوفية الى السطح، والتي يُمكن أن يعود تاريخ أول ظهورٍ لها في المنطقة الواقعة عند قاعدة الجبل، الى الألف الأول قبل الميلاد (أولوغ ديب Ulug-depe). اتسَعَ نطاق المحاصيل المزروعة، زُرَعَ القمح الناعم والقَزَم، والشعير العاري والمُقشَّر ذو الصفين والستة صفوف، والجاودر والحمص. تطوَّرَت زراعة العنب. ظَهَرَت أعداد كبيرة من الأدوات المعدنية، وخاصةً المناجل. تُظهِر العديد من نماذج العربات الصغيرة برؤوس الجِمال والثيران المسكوبة في مقدماتها دلائل أكثر دقة على استخدام قوة الجر في الزراعة.
ويُظهِر الحساب التقريبي لإنتاجية المحاصيل خلال هذه الفترة أن نصيب الفرد من السكان تراوح بين 450-650 غراماً من الحبوب. ومن المُثير للاهتمام أن الأركيولوجي الأمريكي والتر فيرسيرفيس W-alter-Fairservis توصَّلَ الى رقمٍ مُماثل (447 غرام للفرد الواحد) عند ثقافة الهارابا Harappa في وادي السند. ومن الواضح، أنه عند هذا المستوى، حدث تراكم مُكثّف لفائض الانتاج، مما أدى الى تغيراتٍ في بُنية المُجتمع. كان الرعي، على مدار الثلاث فترات المذكورة أعلاه، عُنصراً هاماً في الاقتصاد القديم، الى جانب تطور الزراعة. إن سمات الظروف الطبيعية في جنوب تركمانستان، أي تكوين ونوعية المراعي، أعطَت زخماً لتربية الأغنام والماعز في المقام الأول.
وهكذا، كان من الواضح أن هناك نُمواً سكانياً مُتواصلاً في جنوب تركمانستان من الألف السادس الى النصف الأول من الألف الأولى قبل الميلاد، وازدادت الكثافة السكانية، واتسعت المساحة التي تسكنها القبائل الزراعية القديمة المُستقرة، وكذلك مساحة الأراضي المروية. يختلف تاريخ الزراعة في المنطقة الواقعة عند سفح جبال كوبيت داغ وتاريخ أودية الدلتا الغربية لنهر مورغاب وأتريك وتيجين الى حدٍّ ما عن بعضها، بحكم الظروف المناخية والعوامل الطبيعية الأُخرى. ثبُتَ أنه يُمكن،، في حزام بيدمونت، زراعة المحاصيل مُنخفضة الانتاجية، والتي يبدو أن مساحتها لم تتغير بشكلٍ كبير خلال الفترة المعنية، لأنها كانت محدودةً في منطقةٍ مُعينة بصرامة. وكانت الزيادة في الكثافة السكانية وارتفاع عدد المُستوطنات نتيجةً للتطور المُكثَّف للحِرَف والزراعة المروية، والتي كانت بدورها، محدودةً بكمية جريان المياه السطحية من الجبال. وخلافاً لمنطقة بيدمونت، لم يكن من المُمكن سوى زراعة المحاصيل التي تتطلَّب رياً في سهول الدلتا الغرينية، في حين كان من المُحتَّم أن يؤدي تحسّن التقنيات الى انتاج محصولين سنوياً، مما سهَّلَ التراكم السريع لفائض الانتاج.
كانت الزراعة، في كِلا المنطقتين، نوعاً من الواحات. في الفترتين الأولتين، أُنشِئَت الواحات على أساس المبدأ الجغرافي، أي أُنها كانت نتاجاً لتركّز السكان في المناطق الأكثر مُلائمةً للزراعة، بينما في الفترة الثالثة، كان التجمع في الواحات يحمل طابعاً اقتصادياً اجتماعياً ويتحدد بالمُستوى المرتفع عموماً للقاعدة المادية الزراعية.
تُظهِر الحسابات الديمغرافية التقريبية التي أجريناها لبعض المناطق، أن الكثافة السكانية في الواحات كانت مُرتفعةً جداً، وكانت تتزايد بشكلٍ مطرد مع تحسّن تقنيات الري. وهكذا، فبينما كانت الكثافة في الفترة الأُولى تصل الى 10 أشخاص لكل كيلومتر مربع، كانت في الثانية تصل الى 25، وفي الثالثة الى 80 أو 90. ولكن، لم يكن ارتفاع الكثافة السكانية يعني توسيعاً مُقابلاً لها في الأراضي المروية. سارت هذه العملية بشكلٍ أبطأ بكثير. كانت الزيادة في المحصول نتيجةً لتطور تقنيات زراعة التربة وانتاج المحاصيل واستخدام الغمر وتحسّن البذور مما يعكس عملية اصطفاء أثناء زراعة بعض الأنواع، أكثر منها توسيعاً للحقول الزراعية. على العموم، كان هُناك نمط واحد من الاقتصاد، والذي يُمكن تسميته الزراعة-الرعي، مع التركيز على الزراعة المروية، التي تواجدت في تركمانستان منذ أكثر من 5000 عام.

* جـ. ن. ليسيتسينا، من المؤسف أنني لم أستطع أن أعرف الاسم الكامل لهذه الباحثة أو أي معلوماتٍ عنها.

أ- القياس أو التأريخ التلألئي Luminescence، هو تقنية قياس اشعاعي جديدة نسبياً، لم تكن موجودةً في الفترة التي كُتِبَت فيها المقالة. وبامكان العُلماء، من خلال هذه التقنية، تحديد تاريخ آخر تعرُّض لطبقات الطين والتُربة لأشعة الشمس. يُمكن لهذه التقنية أن تؤرّخ طبقات التربة الى ما يقرب من 100 ألف عام أو أكثر، بنسبة خطأ تحليلية مُنخفضة تصل الى 5%

ترجمة لمقالة:
G. N. Usitsina (1981) The History of Irrigation Agriculture in Southern Turkmenia, Soviet Anthropology and Archeology, 19:3-4, 350-358



#مالك_ابوعليا (هاشتاغ)       Malik_Abu_Alia#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشروط الايكولوجية لنشوء الزراعة في جنوب تركمانستان
- سوسيولوجيا الدين الانجلو أمريكية المُعاصرة: مُشكلاتها واتجاه ...
- الرد الثاني لسيرجي توكاريف على ستيفن دَن
- بعض الأفكار في طُرُق دراسة الدين البدائي- رد على سيرجي توكار ...
- الرد الأول لسيرجي توكاريف الأول على مُراجعة ستيفن دن لكتابيه ...
- مراجعة ستيفن بورتر دن لكُتب سيرجي توكاريف
- مبادئ تصنيف الأديان 2
- مسألة أصل ثقافة العصر البرونزي الباكر في جنوب تركمانستان
- مبادئ تصنيف الأديان 1
- تاريخ انتاج المعادن عند القبائل الزراعية في جنوب تركمانستان
- ردّاً على نُقادي فيما يخص مقالة -حول الدين كظاهرةٍ اجتماعية ...
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين
- بصدد الفهم الماركسي للدين
- حول جوهر الدين
- حول مفهوم -الشرق القديم-
- حول الدين كظاهرةٍ اجتماعية (أفكار عالِم إثنوغرافيا)
- في ذكرى سيرجي الكساندروفيتش توكاريف
- فريدريك انجلز حول نشأة المسيحية
- اليسار الجديد: الأفكار المواقف
- تاريخ البشرية القديم


المزيد.....




- -إنهم على الأبواب!؟-.. كيليان مبابي يطلق صرخة رعب ويوجه تحذي ...
- تقرير عبري: كارثة المدرعات الإسرائيلية منذ بداية الحرب في غز ...
- نقطة حوار - عيد الأضحى: كيف يستقبل أهل غزة والسودان العيد هذ ...
- وفاة 19 شخصا من الأردن وإيران خلال أداء مناسك الحج
- -كوميميوت- تعود إلى إسرائيل (صورة)
- وثائق تأسيس الولايات المتحدة تعرض للبيع في مزاد بـ 8 ملايين ...
- -إنهم على الأبواب!؟-.. كيليان مبابي يطلق صرخة رعب ويوجه تحذي ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل جنديين آخرين لترتفع حصيلة قتلاه إ ...
- برلماني ألماني يقترح طريقة غريبة لدعم نظام كييف في التعبئة! ...
- مسلسل -هاوس أوف ذو دراغن- : متى تعلن الحرب بين الملكتين تارغ ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مالك ابوعليا - تاريخ الري الزراعي في جنوب تركمانستان