ابرام لويس حنا
الحوار المتمدن-العدد: 7906 - 2024 / 3 / 4 - 02:22
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كما وضحت في المقالة السابقة وجود إختلاف حول أصالة قوله (فان الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة الاب و الكلمة و الروح القدس و هؤلاء الثلاثة هم واحد) (1 يو 5: 7)، ولكن كيف يُمكن تفسير المقطع إن كان بالفعل غير أصيلا؟ وهل بحذفه يتماشى السرد؟ (وهو جزء من التحليل الداخلي) الذي قمت به سابقاً إلا إن التحليل الداخلي الذي سأقوم به الآن في تلك المقالة، يُرجح لحذفه، وعلى هذا فإن المقطع إن حُذف منه نص 1 يو 5: 7 (الفاصلة اليوحناوية) يكن كالتالي:
(لان كل من ولد من الله يغلب العالم و هذه هي الغلبة التي تغلب العالم ايماننا من هو الذي يغلب العالم الا الذي يؤمن ان يسوع هو ابن الله؛ هذا هو الذي اتى بماء و دم يسوع المسيح لا بالماء فقط بل بالماء و الدم و الروح هو الذي يشهد لان الروح هو الحق، الذين يشهدون هم ثلاثة الروح و الماء و الدم و الثلاثة هم في الواحد، ان كنا نقبل شهادة الناس فشهادة الله أعظم لان هذه هي شهادة الله التي قد شهد بها عن ابنه، من يؤمن بابن الله فعنده الشهادة في نفسه من لا يصدق الله فقد جعله كاذبا لانه لم يؤمن بالشهادة التي قد شهد بها الله عن ابنه، و هذه هي الشهادة ان الله اعطانا حياة ابدية و هذه الحياة هي في ابنه، من له الابن فله الحياة و من ليس له ابن الله فليست له الحياة،كتبت هذا اليكم انتم المؤمنين باسم ابن الله لكي تعلموا ان لكم حياة ابدية و لكي تؤمنوا باسم ابن الله... و نعلم ان ابن الله قد جاء و اعطانا بصيرة لنعرف الحق و نحن في الحق في ابنه يسوع المسيح هذا هو الاله الحق و الحياة الابدية) (1 يو 5: 4- 20)
أريد التركيز هنا بالأخص على جملة (من هو الذي يغلب العالم الا الذي يؤمن ان يسوع هو ابن الله)، فيوحنا في سياق (تشجيعي) للمؤمنين، مُذكراً المؤمنين بأن المسيح (اتى بماء و دم لا بالماء فقط بل بالماء و الدم و الروح هو الذي يشهد لان الروح هو الحق)، وهنا يجب علينا أن نتسأل كيف يُمكن للمسيح أن يأتي بالماء؟ و بالدم؟! وما علاقة المسيح بالماء والدم بتشجيع المؤمنين والتغلب على العالم؟!
والأجابة على تلك التساؤلات، هو أن يوحنا يُشجع المؤمنين، ونصحهم بأن يتشبهوا بالمسيح.
أ) تفسير قوله (هذا هو الذي اتى بماء)
----------------------------------------
يُقصد به هنا (هذا هو الذي أتي بالمعمودية) أو (الخروج من الظلمة) أي المعمودية؛ فالمسيح عاصر الخروج من الظُلمة، كشروق الشمس من الظًلمة (وهو ما تَرمز إليه المعمودية)، هكذا الإنسان المؤمن المُنير، يجب عليه أن يتشجع وأن يخرج نوره من الظلمة فلا يكتفي بكونه نورا مثلما قال المسيح (أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ، لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل، وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجًا وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ) (متى 5: 14- 15)، (وَلَيْسَ أَحَدٌ يُوقِدُ سِرَاجًا وَيُغَطِّيهِ بِإِنَاءٍ أَوْ يَضَعُهُ تَحْتَ سَرِيرٍ، بَلْ يَضَعُهُ عَلَى مَنَارَةٍ، لِيَنْظُرَ الدَّاخِلُونَ النُّورَ) (لوقا 8: 16).
ب) تفسير قوله (اتى بدم لا بالماء فقط بل بالماء و الدم)
-----------------------------------------------------
يٌقصد بقوله (اتى بدم لا بالماء فقط بل بالماء و الدم) ببذل النفس والذات والإستشهاد، مثلما قال المسيح بنفسه (أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ، وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ) (يو 6: 51)، فالمسيح كالشمس، فبعدما تَشرق الشمس من (المعمودية) لتنزل بنورها على الظُلمة، تموت وتبذل ذاتها (جسدها ودمائها) فتمتلىء السماء من دماءها (السوداء)، لهذا عندما يقوم المرء بسر الأفخارستيا (العشاء الرباني) والارتباط بجسد المسيح ودمه، فهو يَرتبط ببذله بذاته، لهذا نُلاحظ أن يوحنا هو الوحيد الذي أستخدم تلك الصورة فهو الوحيد الذي ذكر طعن المسيح وخروج دم وماء مِن أجدى جوانبه، في قوله (لكِنَّ وَاحِدًا مِنَ الْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ) (يو 19: 34)، فكأن يد الظُلمة وحربتها إمتدت على نور المسيح، ليَغرب نوره ويخرج منه الدم الذي يُغطي السماء به، فالشمس بعدما تموت وتغرب تمتلىء ظلاما كأنما لو كان هذا الظلام هو دم الشمس، أم الماء فهو ماء السموات، الذي يخرج منه كذلك منه النور، نلاحظ كذلك إن الشمس تَشرق من (الظُلمة) التي هي (كالدم المُراق) كأنما يَنبع (نوراً) بالرغم من الظلمة والاضطهاد والقتل وبذل النفس والإستشهاد في سبيل الحق والنور، فالنجوم وهي (الأنوار) تَخرج من (الماء والدم) وكذلك الشمس (كلمة الآب الوحيدة) تَشرق من (الماء والظلمة) حتى ما تموت.
لهذا يُشجعهم يوحنا بأن الذي يؤمن (بإبن الله) هو يجب عليه أن يؤمن كذلك (بالخروج من الظُلمة ونشر إيمانه ومُحاربة الشر) حتى بذل الذات والدم والشهادة كما يقول القديس بولس (لَمْ تُقَاوِمُوا بَعْدُ حَتَّى الدَّمِ مُجَاهِدِينَ ضِدَّ الْخَطِيَّةِ) (عبرانين 12: 4).
فالمسيح لم ياتي حقاً بالمعمودية والخروج من الظُلمة فقط ولكن كذلك ببذل النفس والذات كقوله (لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي، لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا، هذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي) (يوحنا 10: 18)، (أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ) (متى 20: 28)، (لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ) (يوحنا 3: 16)، (أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ) (يوحنا 10: 11)، (اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟) (رومية 8: 32)، (الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَيُطَهِّرَ لِنَفْسِهِ شَعْبًا خَاصًّا غَيُورًا فِي أَعْمَال حَسَنَةٍ) (تيطس 2: 14).
لهذا يؤكد يوحنا على أن يؤمن بالمسيح يجب أن يتقبل كذلك أن يعترف بإيمانه وبذل نفسه، ليس فقط الإيمان، فإيمان بدون أعمال هو إيمان ميت، قائلاً (لاَ بِالْمَاءِ فَقَطْ، بَلْ بِالْمَاءِ وَالدَّمِ).
ما بعد الشهادة والموت (شهادة الروح)
--------------------------------------
يكمل يوحنا قائلاً (وَالرُّوحُ هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ، لأَنَّ الرُّوحَ هُوَ الْحَقُّ) (1 يو 5: 6)، لكن ما الذي يَعنيه بالروح هنا؟ وكيف يَشهد الروح؟ وما إرتباطه بقوله (وَالَّذِينَ يَشْهَدُونَ هُمْ ثَلاَثَةٌ: الرُّوحُ، وَالْمَاءُ، وَالدَّمُ. وَالثَّلاَثَةُ هُمْ فِي الْوَاحِدِ) (1يو 5: 8) وعلاقته (بشهادة الناس) في قوله (إِنْ كُنَّا نَقْبَلُ شَهَادَةَ النَّاسِ، فَشَهَادَةُ اللهِ أَعْظَمُ) (1 يو 5: 9).
يُدلل يوحنا على أن النور (بصفة عامة) الذي عُبر عنه هنا (بالروح) يُبرهن على إرتباطه (بالخروج من الماء) و مُعاصرة (بذل الذات) وتشتت (نوره أو دماءه)، فالشمس تشرق من (ماء السماء) كما هو مَعروف (عند الناس)، لحين بذلها لذاتها وتشتت دماءها وتلطخ السماء بلون دماءها، هذه هي شهادة الناس (فالشمس تشرق من الماء حتى تبذل ذاتها وفيضان دماءها في السماء) وهذه هي شهادة السماء (لهذا فَمن المَفترض أن عبارة : في الأرض) مُضافة وهذا هو بالفعل ما نجده في أقدم المخطوطات.
لهذا يُكمل يوحنا ويقول (مَنْ يُؤْمِنُ بِابْنِ اللهِ فَعِنْدَهُ الشَّهَادَةُ فِي نَفْسِهِ) (1 يو 5: 10) أي من يؤمن بنور المسيح والكلمة، فعليه أن يقبل كذلك الشهادة الكونية وشهادة الناس من خروج النور من الظلمة وبذله لذاته.
كما نرى أن الروح القدوس قد شُبه بأنوار النجوم، كقوله (لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ: إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ) (يو 16: 7).
فبعد ذهاب شمس المسيح تظهر النجوم بأنوراها، ويصف أعمال الرسل صعود وإرتفاع المسيح عنهم يقوله ( وَلَمَّا قَالَ هذَا ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ، وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ، إِذَا رَجُلاَنِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ، وَقَالاَ: «أَيُّهَا الرِّجَالُ الْجَلِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى السَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقًا إِلَى السَّمَاءِ) (أعمال 1: 9- 11)، وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ، وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا) (أعمال 2: 1- 4) فالروح القدوس نزل عليهم كألسنة النار (كنور النجوم).
وعلى هذا فإننا نفهم قوله (الرُّوحُ، وَالْمَاءُ، وَالدَّمُ. وَالثَّلاَثَةُ هُمْ فِي الْوَاحِدِ) كمثل (نور النجوم المُرتفع عن الماء وقتل نوره المٌتمثل في الدم) كسماء الليل (النور وماء السماء وظلامها) وهذه (ذات واحدة) فالنجوم مُتشتته في الماء والظلمة (شهادة كونية).
ولذا بالرغم من كوني قد تكلمت في المَقالة السابقة عن (اصالة الفاصلة) ولكني (أرجح) لعدم أصالتها، ولكنه لا يمنع أن يكن (الأب والإبن والروح القدس واحد) كذلك (فالآب نور ومن نوره يلد الإبن ومن نور الإبن يلد نور الروح القدس) فهي كذلك وحدة.
#ابرام_لويس_حنا (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟