أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حامد خيري الحيدر - خلف أسوار السنين .. مشاهدات من واقع المجتمع العراقي ... القسم الثاني















المزيد.....


خلف أسوار السنين .. مشاهدات من واقع المجتمع العراقي ... القسم الثاني


حامد خيري الحيدر

الحوار المتمدن-العدد: 7798 - 2023 / 11 / 17 - 15:48
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


طيبة العراقيين

كانت برودة الطقس على أشدّها في هذا الوقت من العام عند أواخر شهر كانون الأول عام 1994، خاصةً مع هُبوب الرياح القادمة من قمم الجبال الشاقات المُحيطة بالمنطقة والمُمتدة حتى الحدود الإيرانية، والتي تجعل أشد وأصلب الأجساد تَرتجف ورُكبها تصطك مهما ما ارتدت من ثقيل الملابس وسَميكها لدَرء البرودة عنها، وقد أشارت الساعة مع هذا القرّ القاسي الى حدود العاشرة صباحاً لدى وصول فريق عملنا المُكون من الكاتب وزميلين آخرين الى مقر إقامة موفدي المؤسسة الآثارية (دائرة الآثار والتراث حينها) الكائن عند قرية "حسين أبن حميّد"، في أعالي المنطقة الجبلية المحيطة بأعالي نهر العظيم، وذلك لغرض أجراء مسح أثري واسع للمواقع والتِلال الأثرية في منطقتي العظيم والضلوعية، كان هذا المقر مُجرد بيتٍ بَسيطٍ مُستأجر من وزارة الري مَبني بالطابوق الاسمنتي الكبير "البلوك" غير مُسيّع من الخارج، مما جعله يؤازر طبيعة المناخ على امتداد العام، حيث يُماثل المدفئة صيفاً، ويُضاهي الثلاجة شتاءً، وهو يقع ضمن مجموعة بيوت معظم قاطنيها من العاملين في سَد العظيم، ويتكون من ثلاث غرف مع عدد من الأسِرة الحديدية وبعض البطاطين المُهترئة، وأثاث متواضع لا تُعرف هوية مادة صنعه، وبعض من لوازم المطبخ البسيطة بضمنها طباخ نفطي صغير، وبرميل معدني يحوي بضعة لترات من النفط الأبيض، بالإضافة الى مدفئة حطب تم ركنها في أحدى الزوايا، لا أحد يعرف من أين أتت أو من الذي صنعها، كانت مُجرد قِدر طعام كبير مصنوع من معدن (الفافون) مُثَقّب الجوانب، يُمكن (والله أعلم) أن يَمنح شيئاً من الدفء بعد اشعال بعض قطع الاخشاب فيه، وطبعاً ليس هناك من وجود للتيار الكهربائي فيه، أي أن إنارته تعتمد بشكل كلي على المصابيح النفطية "الفوانيس" و"اللالات"، أما مصدره الوحيد للمياه فكان عبارة عن خزان كبير من الحديد على السطح، يُملأ ليلاً من مياه النهر بسبب قوة ضخ مياه السَد للاستفادة منه في اليوم التالي، وطبعاً مع هكذا حال يصبح السؤال عن أجهزة الثلاجة أو التلفاز نكتة تستحق القهقهة، وطبعاً لم نكن حينها بحاجة لثلاجة لحفظ طعامنا فبرودة الطبيعية كانت تَفي بالغرض وتزيد.
ومع عودتنا عصراً الى مقرّنا العتيد بعد انتهاء يوم عملنا الأول، سَمعنا مباشرة طرق شديد على بابه الحديدية الصَدئة، كان الطارق رجل ستيني تعلو وجهه ابتسامة عريضة توحي مباشرة لمن يتلقاها بطيبة شعب العراق، قدّم نفسه بلهجة أهل محافظة ديالى الجميلة البطيئة ذات المقاطع المَمدودة، بأنه جارنا في المنزل المقابل ويُكنى "أبو سعد" وهو أحد الفنيين العاملين في سَد العظيم، جاء يدعونا لتناول الطعام في منزله كوننا أغراب وعلى أهل المنطقة واجب الضيافة، ليذكر عندها عبارة جميلة لازالت حَبيسة الذاكرة.. (الخطار ضوة الرَبعة) أي (الضيوف يُنيرون مضافات البيوت)، وطبعاً اعتذرنا عن دعوته بكل مَوّدة كوننا مشغولين بعملنا شاكرين طيب كرمه، لكنه رغم ذلك ومع عدم قناعته باعتذارنا فقد أرسل لنا فيما بعد أثنين من أولاده، أحدهما يحمل بضعة أرغفة خبز طازجة مع صحن عميق مليء باللبن الرائب، والآخر مدفأة نفطية مُمتلئة بالوقود، بعد شعوره بحاجتنا اليها من دون أن نقول شيئاً، وقد ظل هذا الرجل الكريم الطيّب القلب طيلة أيام عملنا وتواجدنا في هذا المقر، يتناوب مع أولاده السؤال فيما أذا كنّا بحاجة لشيء ما يمكن أن يساعدونا بتلبيته، كما ظلوا يواظبون من دون انقطاع على جَلب ارغفة الخبز وأباريق الشاي الساخن وبعض حاجات المؤونة الأخرى، التي كنّا حقاً بحاجة إليها في وقتها.
لا أعرف لماذا ساعدنا هذا الرجل؟ فلم تكن تجمعنا بـ"أبو سعد" معرفة مُسبقة أو صِلة نسَب وقرابة، وكل ما كان يعرفه عنّا أننا مجموعة موظفين، قدمنا الى هذا المكان المُتطرف البعيد لمُدةٍ معيّنة نؤدي خلالها واجب رَسمي مُحدّد تم تكليفنا به نعود بعد أنجازه الى ديارنا، ولسنا من أصحاب القرار أو من ذوي السلطة المُتنفذة كي نساعده في تحقيق مصلحة أو غاية ما هو بحاجة اليها، وهذا فعلاً يدعو المَرء للتساؤل، هل هذا هو قدر شعب العراق صاحب التاريخ والطيبة والكرم، أن يحدث معه كل الذي حدث رغم عاطفته الجياشة التي يَكنّها لجميع الناس حتى الأغراب منهم؟

دُنيا الحويجة

مع هبوب أولى نسائم شهر آذار مُعلنة قدوم طلائع ربيع عام 1995، كلفت مع أحد زملائي منقبي الآثار، بمهمة حفر مَجسّات اختبارية في أحدى الأراضي الزراعية التابعة لقضاء "الحويجة"، للتأكد من هويتها وتحديد جنسها أن كانت أثرية أم لا، مما أقتضى السفر الى هناك أيام عدة لإداء ذلك الواجب.
و"الحويجة" كما هو معروف أحدى أقضية محافظة كركوك، تقع جنوب غرب مركزها بحوالي خمسة وخمسين كيلومتراً، وتضّم ثلاث نواح هي.. "الزاب" و"العباسي" و"الرياض"، بالإضافة الى عشَرات القرى الكبيرة والصغيرة المُنتشرة هنا وهناك بين أراضيها الواسعة، أما أسم "الحويجة" فقد تم إيراده في بعض المعاجم العربية بمعنى "الجزيرة"، وأن صَحّت التسميّة وما نُعتّت به فكان ذلك بسبب أحاطتها بالماء من معظم جهاتها، فمن الغرب كان نهر دجلة ومن الشمال يجري نهر الزاب الأسفل، ومن الشرق والجنوب شبكة واسعة من الأنهر والسواقي الصغيرة المتأتية من سد العظيم، مما جعلها بوفرة من المياه وبالتالي جعل من أرضها خصبة على الدوام، لتغدو أحدى أكبر المناطق الزراعية في العراق، من خلال إنتاجها العديد من المحاصيل الحقلية.
كان مركز قضاء "الحويجة" دائم الحركة مُزدحم بالسيارات والسابلة، يقطعه شارع عريض طويل باتجاهين، زُرعت جَزرته الوسطية بنخيل جوز الهند بطريقة مُشابهة لشارع الصالحية في بغداد، على جانبيه توزعت مَحلات تجارية مُعظمها توفر ما يحتاجه المزارعون من أدوات زراعية وأسمدة وبذور، بالإضافة الى أسواق المواد الغذائية والمنزلية التي اعتاد سكان القرى اقتناء لوازم ومتطلبات حياتهم اليومية منها، تنتشر بينها العديد من المطاعم والمقاهي، وهذا الشارع مُزدحم بشكل لا يوصف بسيارات الحمل الصغيرة "البيكآب"، حتى غدا من العسير العثور على موقف لأي سيارة، لذا لقبت الحويجة طرافة على أنها "مدينة المليون بيكآب".
ولعل أطرف ما يُلاحظ في هذا الشارع ورغم شدّة الازدحام، أنه إذا التقى شخصان من المعارف أو أحد أبناء العمومة بسيارتيهما في وسطه، فأنهما لن يترددا بالتوقف أحدهما الى جانب الآخر لتبادل الحديث بأريحية متناهية لا يمكن تصورها، مُغلقين الشارع بأكمله غير مُكترثين للوقت الذي يبدو أن حساباته ضائعة في هذا القضاء أو بطابور السيارات الطويل الذي يصطف خلفهم، وهي تنتظر أنهاء ذلك الحديث (الهام) كي يواصلوا سَيرهم، والغريب أن أحداً من المتوقفين لم يَصبه الضجر أو التَململ من جراء ذلك، وإذا ما حاول أحدهم حَثّ المُتحادثين على اختصار كلامهم ومواصلة السير لفك الاختناق المروري الحاصل، يجيبوه مباشرة ودون تردد.. (عليش مستعجل، الدنيا مراح تطير)، لذا بدا هذا الشيء مألوف وطبيعي هنا والجميع يتعاطونه دون حَرج.
أما أكثر ما كان يَشّد الانتباه في شوارع الحويجة هو المنظر المؤلم للنسوة والفتيات الصغيرات النَحيلات بوجوههن المُتعبة الشاحبة، وقد حُشرّن في أحواض سيارات الحمل من قبل أرباب الأسّر، لنقلهن الى الحقول الزراعية البعيدة دون أدنى مراعاة لأنوثتهن أو إنسانيتهن، حيث كنّ يعمّلن هناك حتى المساء مع زوادة طعام بسيطة جداً لا تَسد الرَمق، بينما يعود الرجال بعد ايصالهن لقضاء يومهم بين المقاهي لاحتساء الشاي ولعب "الدومينو" أو "طاولة الزهر" مع أقرانهم، أو التجمع في المجالس والمَضافات، وهم مُمتلئين سُمنة تفوح منهم رائحة الكسل، يقتلون الوقت بمُمارسة هوايتهم المُفضّلة بالثرثرة الفارغة التي عُرفوا بها من كثرة جلوسهم هناك لتغدوا عنواناً لحياتهم، بل أن العديد منهم بعد ارسالهم أولئك المَغضوب عليهن حيث يكون شقائهن في الأراضي الزراعية، يتوجهون الى قرى الغَجَر المتواجدة عند أطراف القضاء، كي يُكملوا نهارهم هناك، حيث يعتبرن ذلك مدعاة للتفاخر أمام الناس وأحدى علامات السَطوة والرجولة!!
هذا بالنسبة للعوائل المُتمكنة التي تمتلك أراضٍ للزراعة، أما البُسطاء والمَسحوقين من الناس الذين لا يملكون من دنياهم سوى ما وهَبت الطبيعة إياهم من صَبر وشدة جَسد وقوة ذراعين، فكان الرجال منهم يعملون شتى الأعمال وأقساها، من تحميل أكياس الحبوب والبذور في المحلات التجارية، الى العمل في الحقول منذ الفجر وحتى مَغيب الشمس، مقابل أجور يومية لا تكفي الحاجة، أما أوضاع الفتيات والنسوة منهم فكانت من البؤس أقسى ومن الضيّم أشد، حيث يَعشن الردح الأكبر من أيام السنة غالباً على جمع الحطب المُتبقي من تنظيف الحقول، أما في فترة الربيع القصيرة، فكنّ يَسرّن مسافات بعيدة في المناطق النائية ولساعات طوال من أجل جمع حبّات "الكمأة"، ليبيعوها بمبالغ بّخسة لا تتناسب مع الجهد والتعب الذي يصيبهن جراء ذلك.
خلال العمل وإضافة الى متابعتي الدائمة لما تُسفر عنه الحفريات الاختبارية التي نُجريها، كنت دائماً أنظر لحال لعمال الحفر وما كانوا يُكابدوه، متمعناً بأجسادهم النحيلة التي تشابه أعواد القصب، حيث جعلتني هيئاتهم أن أضعهم بموضع المقارنة مع أصحاب الأراضي ومَلاكي الحقول بأجسامهم المُمتلئة، خاصة عندما كانوا يكيلون إليهم الكلمات الخشنة الحاطة من كرامتهم، من أجل حَثهم على المزيد من الهمّة بالعمل حتى وأن كانت فوق طاقتهم، إضافة الى أسلوب الغطرسة والفوقية التي كانوا يتعاملون بها معهم، ناظرين اليهم بكثير من الاحتقار كأنهم مجموعة حشرات لا أكثر، لأقارن هذا الحال مع نظام الأقطاع البائد أبان حقبة الحكم الملكي في العراق، حيث جُعل من الفلاحين التُعساء بمثابة اقنان جوعى، يَرهنون مَصيرهم ومُقدّرات حياتهم مُرغمين بهؤلاء المُترفين، الذين ظلوا دهوراً طويلة يَمتصون إنسانيتهم ودمائهم من دون أدنى رحمة.
وهذا الحال لابد يجعلنا نتذكر أيضاً نظام الأقطاع الذي تبنته سلطة المعبد أبان عصر دويلات المدن السومرية 3000_2371ق.م، خاصة في دُويلة "لكَش" حيث مارسَ الكهنة آنذاك شتى أنواع القهر والظلم بحق الفلاحين والطبقات الفقيرة البائسة من المجتمع الذين يُسمَوّن بالسومرية "كَوروش"، واقترفت بحقها الكثير من المساوئ ليصلوا بها الى أدنى درجات الفقر، مُستغلين إياهم بالأعمال الشاقة المُضنيّة مُقابل مواد عينية شحيحة لا تكاد تسد الرَمق، تُمنح بشكل جرايات محددة خلال فترات معينة من الموسم الزراعي، لا تتعدى بضعة أكيال من الشعير والحبوب الأخرى، ليُجعل من هؤلاء أقناناً أشبه بالعبيد المسلوبي الحرية والارادة بعد أن تم تجريدهم من قوَتهم الاقتصادية بالكامل رغم صفتهم القانونية كونهم من طبقة الأحرار، حتى أن الواحد منهم اطلق عليه بالسومرية كُنية "أيكَينودو"، وتعني الشخص الذي لا يستطيع رفع رأسه الى الأعلى أي "الذليل".
في أخر يوم عملنا الذي أستغرق قرابة الأسبوع، سَمعنا عن حادثةٍ مُروعة جداً، وقعت خلال فترة عملنا في أحدى المناطق النائية التابعة لناحية الزاب القريبة من مكان تواجدنا، مَفادها أن مجموعة من الفتيات الصغيرات البائسات، ممن أعتدن جمع حبّات "الكمأة" من هذه الأماكن لغرض بيعها، قد هاجمهن خلال عملهن قطيع هائج من الذئاب الجائعة، ليُمزقهن شَرّ تمزيق، وعندما ذهب أهالي القرى المجاورة فيما بعد كي يتفقدوا تأخرهن، لم يُعثروا سوى على شيء بسيط من أشلائهن، كانت الحادثة مأساة انسانية بكل المقاييس، كأنما لم يكفي هؤلاء المُعدمين ما كانوا يُكابدوه من شظف العيش وقسوة الحياة، حتى يُكمل القدر الأدهم مأساتهم ويُجهز على ما تبقى من أحلامهم البسيطة، التي اقصاها أن يناموا ليلهم من دون أن يؤرقهم ألم الجوع.
وقبل توجهنا عائدين الى ديارنا في بغداد بعد أنجاز مهمتنا، توجهنا حيث موقع هذه المأساة، كان المكان يقع شمالاً الى الضفة اليُمنى لنهر الزاب الصغير، بالقرب من تل أثري كبير يدعى "تل الأسوَد"، راعتنا صورة المكان الذي لازالت تفوح منه رائحة الموت، حيث كانت دماء الفتيات قد غدت بشكل بقع سوداء لطخت الأرض الرطبة، حتى بعض أشلائهن مع بقايا ثيابهن المُمزقة المُدماة قد أمكننا تمييزها حتى بعد اختلاطها بالتراب، وطبعاً في هكذا جو يكون الصَمت هو الطاغي على كل شيء، إذ لم يعد مَعنى لأية كلمة تُقال، وخلال وقفتنا المذهولة في محل الفاجعة جاء عدد من الرجال الى المكان، في الغالب كانوا مدفوعين بحب الفضول لا أكثر، كل ما فعلوه نَثر بضعة قبضات من التراب على موقع الدماء، مع ترديدهم بشكل سريع لسورة الفاتحة، معظم كلماتها غدت مُبهمة لمَسامعنا بعد أن ابتلعتها حَناجرهم، وكأنهم يُرددوها على استيحاء ومن دون رغبة حقيقية منهم.

شيوخ الوقت الضائع

كانت الحياة في قرية أسكي موصل مع موسم تنقيباتنا في مدينتها الأثرية "بلد" عند صيف عام 1995، تَسير بشكل روتيني رَتيب مُماثل لعملنا، حيث أنها تعاني كبقية حال قرى العراق من واقع تعس بائس، فقد خلت من المدارس ومعظم سكانها في حالة فقر مُدقع، مُعظمهم يعانون من داء التدرن المُنتشر في هذه المنطقة نتيجة شرب مياه النهر الملوثة والهواء شديد الرطوبة، قسم كبير من سكانها يعملون بالزراعة، لكن قِلة منهم فقط كان يمتلك أرضاً تخصه، حيث الأغلبية كانوا يستأجرون أراضٍ من آخرين وأحياناً يستصلحونها بالمُشاركة، جهداً وناتجاً وربحاً، وهناك من كان يعمل كأجير لدى مَلاّكين كبار في أوقات مُعينة من الموسم الزراعي، عند البذار والشَتل وموسم الحصاد، ومن لم يعتادوا مهنة الأرض، فأنهم كانوا يعملون أشغالاً شاقة في أماكن نائية في البناء ومَقالع الحجارة، أو كمستخدمين يكدّون من الصباح حتي المساء في سد الموصل ضمن مختلف الاعمال، أما الشباب فكانوا شُبه عاطلين عن العمل، بعد أن انقطعوا عن الدراسة بسبب عدم توفر مدراس قريبة، حيث أن أقرب مدرسة كانت تبعد عن القرية بحدود خمسة كيلومترات، لذلك انخرطوا في أعمال التنقيبات التي نُجريها في منطقتهم رغم شحّة مَردودها عليهم لكنها على أية حال أفضل من لا شيء.
وكان اعتماد أهل القرية على مياه النهر في الشرب والاستخدام اليومي، وكانوا يُسمون النهر في ضمن مفردات كلامهم "الفرا"، ومن الراجح أن هذه المفردة مشتقة من كلمة "الفرات"، حيث تم أدغام "التاء" تخفيفاً لنطق الكلمة، علماً أن معظم سكان منطقة الجزيرة العراقية يُطلقون نفس المفردة على النهر، فما أن تبدأ ساعات الصباح الأولى حتى تأخذ النسوة أو الأطفال بسوق حميرهم باتجاه النهر وعلى ظهورها توضع القِرب الجلدية المُسماة محلياً بـ"الجود" التي تُملأ بالماء عن طريق غمرها بالنهر ثم يتم جلبها للبيوت، وكانت هذه المخلوقات الخدومة تعرف طريقها جيداً، فبمجرد سوقها واعطائها أمر التحرك تأخذ درب سَيرها صوب النهر وبالعكس نحو حضائرها من دون موجه أو مُرشد.
ومع مطلع يوم عمل جديد جاءنا أحد شباب القرية ليُبلغنا أن الشيخ "أبو عواشة" يدعونا للفطور معه هذا اليوم، كنا قد سَمعنا عن هذا الرجل دون أن نلتقيه، على أنه كبير شيوخ القرية، وأحد كِبار عشيرة "الجبور"، كما وَرَدنا بعض اللغط والعبارات المُستهجنة بحقه يتداولها عمالنا بصوت خافت فيما بينهم، حيث كانوا يلقبوه بكنية قاسية المَعنى هي "أبو كَرون"، ومن باب عدم التدخل في شؤون أهل القرية تجنباً للمشاكل، فأننا لم نبادر بالسؤال عن هوية هذا الشخص والسبب وراء إلصاق هذه التسمية به، لعدم رغبتنا بالدخول في خصوصيات هذه المجتمع المُنغلق الصغير تجنباً لمشاكل قد تعيق أو تؤخر عملنا.
لبينا الدعوة مع استراحتنا الصباحية القصيرة، حيث أستقبلنا الرجل بكل احترام في مَضافته الكبيرة المُشيّدة باللِبن، معتذراً عن تأخر ضيافته لنا، مخاطباً إيانا.. (مراحب بأهل بغداد). وبعد بضع كلمات المجاملة والترحيب الثقيلة جاء الفطور سريعاً، كان وجبة طعام مَحلية تُسمى "خمَيعة"، يعرفها عُموم سكان الأرياف والعديد من العراقيين، وهي عبارة عن "صينية" كبيرة مَليئة بقطع الخبز يُسكب عليها الحليب المَغلي، وتوضع عليها كتل كبيرة من الزبدة والقيمر بالإضافة الى الدبس، ورغم حرارة الجو اللاهبة وصعوبة هضم أكلة دسمة مثل هذه خلال الصيف، لكننا تناولنا منها قدر ما نستطيع وإلا ستكون مَعيبة كبرى بحقنا.
ما لفت انتباهنا خلال تلك الجلسة صورة كبيرة مُعلقة على جدار المَضافة، تجمع الشيخ وهو يقف الى جانب رئيس الجمهورية والى جانبهم فتاة شابة في حدود الخامسة والعشرين من العمر، ترتدي الزَي الشعبي التقليدي المعروف بـ"الهاشمي"، ولدى سؤالنا عنها أجاب.. (هذي مع بنتي "عواشة" لما زرنا "الرَيّس" الحول المضى "العام السابق")، بداخلنا أستغربنا الموضوع، حيث أنه حسب أعراف المجتمعات القروية المُحافِظة كحال هذه القرية، فأنه من المعيب ومن غير اللائق وضع صور الفتيات داخل المَضافات، التي يدخلها عادة الأغراب من الناس، ثم لتنتهي الزيارة عند هذا الحَد بعد أن شَكرنا الرجل على حسن الضيافة والكرم. وبعد هذه الزيارة دفعنا فضولنا الآثاري ورغم حذرنا الشديد الى طرح السؤال عن هوية "الشيخ أبو عواشة" على بعض أهل ثقتنا من عمالنا، ليحكوا لنا قصته الكاملة بما أنزلت عن هذا الرجل وكيف غدا كبيراً لشيوخ القرية، وعن سبب نعته من قبل الناس بذلك الوصف.
كان مُجرد فلاحاً بسيطاً أسوة بباقي أهل القرية، يَعتاش وعائلته من قطعة أرض مُستأجرة لا تتعدى الدونمين، لتخدمه الصدفة يوماً عندما زار رئيس الجمهورية هذه القرية خلال أحدى جولاته لتفقد واقع حال سد الموصل، وكحال البُسطاء المغلوبين على أمرهم خرج معظم سكان القرية من بيوتهم لاستقباله، ربما من باب الفضول أو طمعاً بمعونة وقتية تُمنح لهم تعينهم على فاقتهم الأزلية التي أبتلوا بها على امتداد الزمن، لتظهر "عواشة" من بين الجموع وهي تَهتف باسمه بأعلى صوتها، مُلقية الأشعار الشعبية من "كَولات" و"هوسات" التي تُمجّد حكمه وتُعظم شخصه، ليرددها خلفها ببلادة وسَذاجة أولئك البائسون المتجمعون بعفوية حولها، وبعد أن بَرد وطيس هذا الزَعيق، طلب منها "الريّس" أن تزوره مع ذويها في العاصمة بغداد. لتَمر الايام بعد تلك الزيارة (الميمونة) ويتحول على إثرها ذلك الرجل البسيط المُعدم الحال، بعد أن مَرّت على رأسه عصا "الرَيّس" السحرية الى أحد أكابر الشيوخ، ويغدو من أصحاب الأملاك والأراضي الواسعة، كيف تم وحصل ذلك؟؟؟ بالطبع لا أحد يعرف، ليبقى العِلم عند صاحب العِلم، وفق القول..
‏مَلك المُلوك إذا وَهب ... لا تَسألن عن السَبب
‏الله يَرزق من يَشاء ... فكن على حَد الأدب
والشيء الوحيد المعروف بين أهل القرية ورغم ما حصل عليه هذا الرجل من مال وجاه، نال بالمقابل لقب "أبو كَرون"، بعد أن أخذ أهل القرية يتحدثون هَمساً عن "عواشة"، بعد أن أخذت الدعوات إليها تتوالى لزيارة "الرَيّس" وبشكل دوري مُستمر، حيث ينقلها الى هناك موكب من عدة سيارات رئاسية لينتهي بها المطاف وتغدو ضيفة دائمة في كنف رئيس الدولة، لتلتصق تلك التسمية بعد ذلك بشخصية أبيها الى ما شاء الله، وأياً كانت الحقيقية في ذلك فأن من يَعرف طبيعة العراقيين ونفسيتهم ورَدّة فعلهم العنيفة تجاه من يبغضوه، يعلم تماماً أن ذلك كان نوعاً من الرفض الشعبي الذي أعتاد العراقيون اعلانه بوجه نظامهم السياسي الحاكم الذي ما فتئ يصيبهم بالظلم يوماً بعد آخر، وكل من يعيش ضمن عالمه ويَسير في فلكه.



#حامد_خيري_الحيدر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خلف أسوار السنين .. مشاهدات من واقع المجتمع العراقي ... القس ...
- طرائف الأخبار في عمل الآثار
- آثار مَنسية في محافظة كربلاء
- أطفال العراق يقهرون الظلام
- لغز مَدافن المَلكات الآشوريات في مدينة النمرود
- كركوك مدينة التاريخ والتآخي والقلعة الشامخة
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الثامن
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم السابع
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم السادس
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الخامس
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الرابع
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الثالث
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الثاني
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الأول
- مدينة الحَضر التاريخية .. متحف وسط الصحراء
- بناية القشلة وصور من ذكريات بغداد
- إلمامة بتاريخ المؤسسة الآثارية العراقية
- إشارة تاريخية إلى الزَلازل في شَمال العراق
- التنقيب الأثري ... مهنة المَتاعب والمَشاق والمَهارات المُتعد ...
- مدخل الى علم الآثار


المزيد.....




- تربية أخطبوط أليف بمنزل عائلة تتحول إلى مفاجأة لم يتوقعها أح ...
- البيت الأبيض: إسرائيل أبلغتنا أنها لن تغزو رفح إلا بعد هذه ا ...
- فاغنر بعد 7 أشهر من مقتل بريغوجين.. 4 مجموعات تحت سيطرة الكر ...
- وزير الخارجية الفرنسي من بيروت: نرفض السيناريو الأسوأ في لبن ...
- شاهد: أشباح الفاشية تعود إلى إيطاليا.. مسيرة في الذكرى الـ 7 ...
- وفد سياحي سعودي وبحريني يصل في أول رحلة سياحية إلى مدينة سوت ...
- -حماس- تنفي ما ورد في تقارير إعلامية حول إمكانية خروج بعض قا ...
- نائب البرهان يبحث مع نائب وزير الخارجية الروسي تعزيز العلاقت ...
- حقائق عن الدماغ يعجز العلم عن تفسيرها
- كيف تتعامل مع كذب المراهقين؟ ومتى تلجأ لأخصائي نفسي؟


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حامد خيري الحيدر - خلف أسوار السنين .. مشاهدات من واقع المجتمع العراقي ... القسم الثاني