أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد خيري الحيدر - أطفال العراق يقهرون الظلام














المزيد.....

أطفال العراق يقهرون الظلام


حامد خيري الحيدر

الحوار المتمدن-العدد: 7735 - 2023 / 9 / 15 - 00:37
المحور: الادب والفن
    


تبقى الطفولة وبَراءتها وجمال رقتها رغم أحلك الظروف وأصعب أوقات الحياة التي تَمّر عنواناً لهبوب نسائم الأمل، وصورة زاهية تُعبّر بعَفويتها وتلقائيتها عن بزوغ ضياء فجر جديد. تعود بي هذه الكلمات الى إحدى الذكريات الأثيرة على القلب، المُمتدة لسنوات بعيدة مضت خلال تواجدي بحكم عملي الآثاري في محافظة نينوى الباسلة عند أواسط التسعينات من القرن العشرين.
كنت حينها مع بعض الأصدقاء عند أحد أيام شهر أيلول في زيارة لأحد زملائنا الآثاريين المُتقاعدين في بيته الكائن عند أطراف حي الحدباء في مدينة الموصل، حيث أعدّت لنا عائلته الطيّبة جلسة بَسيطة في حديقة منزلهم، المُزدانة رغم صُغرها بورود جميلة تنوعت أصنافها وتعددت ألوانها، تمّ غَرسها وفق أسلوب مُنسّق ينّم عن ذوق كبير، لتغدو لمُضيّفنا وأسرته الصغيرة جنّة لجَمعِهم ومُتنفساً لراحتهم المسائية، خاصة حين تَحّل تلك المشكلة الازلية التي كان ولا يزال يُعاني منها أهل العراق في جميع مُدنه المُتعبة، ألا وهي انقطاع التيار الكهربائي، الذي يَمتد لساعات طوال أصبحت للأسف رَهناً بحسابات المَصالح والأهواء.
لم تتجاوز الساعة التاسعة مساءً بقليل ونحن مُستمتعين بأمسيتنا تلك، مع أحاديث صديقنا المُشوّقة وكرَم ضيافة عائلته الأصيل حين أطبق الظلام علينا فجأة، كأنه وحش فتّاك همَّ بابتلاع الحياة، حتى القمر حينها بدا كأنه هَرب من مساحة الكون ليَحجب نوره عن شعب الرافدين المُبتلى منذ الأزل بمَلحمة الصبر، ثم لم يَمض وقت طويل حتى اعتادت العيون العُتمة واستوعبت الأنفس بتلقائيتها الحدث، لتوقد الأيادي على إثرها بضعة شُموع خفّف وَهَجها الخافت شيئاً من وَحشة الدَهماء، لتَستعيد بعدها الجلسة أريحيتها ومُتعتها.
ثم بعد بُرهة من الوقت أخذت آذاننا تتلقف من بين أشواك الحُلكة صوت عَزف رَشيق على العود قادم من البيت المُجاور، يَهفو تارة ويعلو تارة أخرى ثم يُبطئ بين هذه النغمة وتلك، وفق لحن صافٍ مُتناسق، ليرافقه بعد لحظات غناء عَذب كبرودة الصباح تجود به بضعة حَناجر صغيرة ناعمة لمجوعة أطفال لا يتعدى أكبرهم السادسة من العمر، أجبرتنا تلك الأصوات البريئة المُرهفة الإحساس التي تُماثل تَغاريد البَلابل على التزام الصَمت والانصّات إليها بملأ السَمع، تاركين ما كنّا نتحدث به يذهب الى عالم النسيان، عندها قال صاحبنا مباشرة وبشكل لا إرادي.. (بدأ الحَفل)، بالطبع لم نفهم بداية ماذا كان يقصد بقوله، ثم ما لبث أن أوضّح ما ذكره بعبارات مُقتضبة وبهَمسات خافتة كي لا يخدش جمالية سماع هذا الغناء... (هم ثلاثة أطفال، بنتان وولد، يعمل والدهم مُعلماً للنشيد في إحدى المدارس، اعتادوا كلما انقطع التيار الكهربائي أن يأخذ الأب بالعزف على العود، ليُرددوا هم الغناء مع موسيقاه مُتحدّين وحشة الظلام بهذه الطريقة، ويَستمروا بذلك حتى يعود الضوء).
لنَنسى بعدها مع ديمومة العزف الخَبير وتواصل الغناء العذب الذي تؤديه تلك الحناجر الصغيرة بأوتارها المهفهفة الرقيقة، وهو ينتقل من أغنية لأخرى، كل ما يَمّت بصلةٍ لمواضيع السياسة والتاريخ ونظريات الفن والمَنطق والأدب، حيث تَجردّنا ساعتها من كل ما يُرهق وظائف المُخ ويٌتعب ديناميكية العقل، مانحين حَواسنا بالكامل لذلك الهَديل الساحر يُدغدغ آذاننا ويُطرب أسماعنا ويُريح أعصابنا من شوائب الدنيا وضجيجها، والذي أنتهى فجأة بصيحة طفولية طويلة عالية... (هييييييييييه) مُعلنة انتصار البراءة على شياطين الظلام، لنَعرف حينها أن التيار الكهربائي قد عاد، وأن الظلمة التي كنا قد نَسينا وَحشتها قد بدّدتها ألسن الطفولة الجميلة بأصواتها العذبة الرَخيمة، لنعلم حينها فقط أن الساعة قد قاربت الثانية عشر ليلاً بعد أن مَرَّ كل ذلك الوقت دون أن نشعر أو نَمّل، ويتطلب منّا الأمر المغادرة فأمامنا عمل طويل وشاق يوم غد.
لأول مرة في حياتي أحببت الظلام وتَمنيت لو أنه يبقى فترة أطول، كي أبقى مُسترخياً حالماً ناسياً كل هُموم الدنيا مع هذا الغناء الجميل، مُستذكراً كلمات "السَيّاب" وهو يُردّدها من غربته على الخليج...
الشَمس أجمل في بلادي من سِواها، والظلام
حتى الظلام هناك أجمل، فهو يَحتضن العراق



#حامد_خيري_الحيدر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لغز مَدافن المَلكات الآشوريات في مدينة النمرود
- كركوك مدينة التاريخ والتآخي والقلعة الشامخة
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الثامن
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم السابع
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم السادس
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الخامس
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الرابع
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الثالث
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الثاني
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الأول
- مدينة الحَضر التاريخية .. متحف وسط الصحراء
- بناية القشلة وصور من ذكريات بغداد
- إلمامة بتاريخ المؤسسة الآثارية العراقية
- إشارة تاريخية إلى الزَلازل في شَمال العراق
- التنقيب الأثري ... مهنة المَتاعب والمَشاق والمَهارات المُتعد ...
- مدخل الى علم الآثار
- مناضلٌ من ذاك الزمان ... سيرة حياة المناضل الشيوعي الراحل خي ...
- البيت العراقي القديم ... القسم الثاني
- البيت العراقي القديم ... القسم الأول
- أهم المدن التاريخية والمواقع الأثرية في وادي الرافدين ... ال ...


المزيد.....




- الإِلهُ الأخلاقيّ وقداسة الحياة.. دراسة مقارنة بين القرآن ال ...
- بنظامي 3- 5 سنوات .. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 الد ...
- مبعوث روسي: مجلس السيادة هو الممثل الشرعي للشعب السوداني
- إيران تحظر بث أشهر مسلسل رمضاني مصري
- -قناع بلون السماء-.. سؤال الهويّات والوجود في رواية الأسير ا ...
- وفاة الفنانة السورية القديرة خديجة العبد ونجلها الفنان قيس ا ...
- مطالبات متزايدة بانقاذ مغني الراب الإيراني توماج صالحي من ال ...
- -قناع بلون السماء- للأسير الفلسطيني باسم خندقجي تفوز بالجائز ...
- اشتُهر بدوره في -أبو الطيب المتنبي-.. رحيل الفنان العراقي عا ...
- عبد الرحمن بن معمر يرحل عن تاريخ غني بالصحافة والثقافة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد خيري الحيدر - أطفال العراق يقهرون الظلام