أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عمرو إمام عمر - الحقيقة وراء الركود الاقتصادى !















المزيد.....


الحقيقة وراء الركود الاقتصادى !


عمرو إمام عمر

الحوار المتمدن-العدد: 7742 - 2023 / 9 / 22 - 14:02
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


”أجلس أمام الحقيقة كطفل صغير ، و كن مستعداً للتخلى عما يجول برأسك من أفكار مسبقة ، تابع باهتمام أى شىء مهما كان ، و مهما كانت طبيعته ، و إلا فلن تتعلم أى شىء “
توماس هنرى هكسلى
عالم أحياء و مفكر بريطانى





دائما ما نقرأ العناوين الضخمة على صفحات الجرائد و مواقع الإنترنيت عن ”الركود الاقتصادى“ ، و التى تتبعها الكثير من التحذيرات أن القادم سيكون سئ ، فالمؤشرات تحذرنا من ارتفاع فى الأسعار و بالتالى زيادة فى تكاليف المعيشة ، و علينا أن نتحمل التقشف القادم فى موازنات الدولة و تخفيضات مخصصات الموازنة فى التعليم و الصحة و الرعاية الاجتماعية ، ففى النظام الرأسمالى لا أحد يعرف متى يحدث الركود المحتمل ، أو حتى إذا كان موجودا بالفعل أم لا ، الحقيقة إن الركود أو التضخم هما جزء من النظام نفسه فهو قادم و موجود لا محالة …

أى باحث أقتصادى متخصص أو حتى قارئ و متابع بسيط مثلى فى عالم الاقتصاد يمكن أن يتعرف بسهولة على مدى الارتباك و الانهيارات الذى وصلت إليها الأسواق فى العالم مع بدأ عملية تحرير التجارة و إلغاء القيود الحكومية على الأسواق ، و يستطيع أن يعرف أيضا مدى التفكك الذى أصاب بنية المجتمعات الإنسانية ، و ماهية الويلات التى تعرضت لها فئات إنسانية كثيرة ، و التباين الكبير الذى وصلنا إليه فى توزيع الدخول و الثروات ، و كيف زادت نسب معدلات الفقر فى العالم بشكل غير مسبوق ، فالرأسمالية المنتصرة منذ العقد الأخير للقرن الماضى ، فشلت تماماً فى تحقيق ما كانت دائما تصدره لنا ، إنها ستحقق للمجتمعات الرخاء و الرفاه ، بل على العكس ، لم نرى سوى أزمات و انهيارات اقتصادية ، تضخم مستمر ، ركود ، حروب تنفجر بشكل عبثى ، أرتفاع فى معدلات الجرائم ، جماعات إرهابية تروع المسالمين و تدمر دولا بأكملها لأسباب واهية ، هذا ما نعيشه جميعاً اليوم …

من المستفيد من الركود المستمر !
منذ الانهيار المالى الذى حدث فى 2008 و الاقتصاد العالمى تقريبا فى حالة ركود مستمر ، فنسب النمو انخفضت بشكل كبير على مستوى العالم ، و فى نفس الوقت يخرج علينا الخبراء على شاشات التلفزيون يحذرونا من الركود القادم ، مما جعلنى أتسائل ”أى ركود قادم ألسنا حاليا فى حالة ركود ؟ !“ ، ألا تشير الأرقام التى تنشرها الدوريات الاقتصادية المتخصصة و حتى المواقع الإخبارية العادية لنسب النمو المنخفضة إلى الركود الذى نعيش فيه ، ألا تخبرنا الارتفاعات المستمرة فى الأسعار بأن التضخم يأكل فى المجتمعات و يدمرها ، من الواضح أن لا أحد يعرف إذا كان الركود موجوداً بالفعل أم لا ، يبدوا أنه من الأفضل لهم أن يتركونا فى حالة من الارتباك و عدم المعرفة من خلال تصريحاتهم المتناقضة و الغامضة …

كلنا نعرف إن الركود هو جزء من المنظومة الرأسمالية ، لكننا لا نعرف أبداً متى و كيف يحدث ، على الرغم من إنها بديهية بالنسبة للرأسماليين إلا أنهم لا يصرحون بذلك ، و لفهم ما يحدث و من المستفيد ، يجب علينا أولا أن نتعرف على ماهية الركود ، و التضخم المصاحب له ، لأننا فى الحقيقة نستطيع إيقاف تلك المأساة المستمرة بسهولة و يسر …

فى البداية لابد أن نتعرف على مصطلح مهم ، و هو الناتج المحلى - Gross Domestic Product – و هو عبارة عن مقياس للقيمة الإجمالية لحجم تبادل جميع السلع و الخدمات فى البلاد لعام واحد ، ولا يهم إذا كان هذا الناتج يجنيه شخص واحد أو إذا بتنا كلنا فقراء ، فالناتج المحلى يحسب فقط جميع الأشياء التى يتم تبادلها مقابل المال ، ربما المتخصصون قد يشعرون بالانزعاج من هذا التبسيط لكنه فى الحقيقة لا يخرج عن ذلك ، و كلما زادت كمية السلع و الخدمات المتبادلة زاد ارتفاع الناتج المحلى ، و لكن عندما ينخفض هذا الناتج ، هنا تحدث الأزمة التى تسمى ”الركود أو الكساد“ ، و حينها ... يفقد ملايين الناس وظائفهم و ترتفع معدلات البطالة ، و بالتالى لا يستطيع الكثير من الناس الوفاء بمديوناتهم من أقساط السيارة أو المنزل أو أى سلعة تم شراءها بالدين ، و سأضرب لكم مثالا صغيرا ، خلال أزمة 2008 ، فقد 9 مليون أمريكى منازلهم لعدم قدرتهم على تسديد الأقساط بعد خسارتهم وظائفهم ، هذا فضلا عن خسارتهم لتأميناتهم الاجتماعية و الصحية ، كذلك عدم قدرتهم على متابعة تعليم أبناءهم ، كارثة بكل المقاييس ، كل هذا يحدث بدون أى خطأ ارتكبه أى من هؤلاء البائسين فى حياتهم ، الغريب أن الاقتصاديين يخرجون علينا بتصريحاتهم أن ”ما يحدث هو شىء عادى“ ، و المحزن فعلا أن ما يقولونه حقيقة ، فالركود جزء من المنظومة و هى التى تعطيها قوة الدفع الجديدة فى كل مرة ، و لكن كيف ذلك ؟ ! …

كما ذكرت من قبل إن الركود أو الكساد يحدث بانتظام فى النظام الاقتصادى الرأسمالى ، و لكن ليس بدون سبب ، و كل مدرسة أقتصادية لديها تفسيراتها و نظريتها حول أسباب و طبيعة هذا الركود ، لكن الماركسيين لديهم تحليلاتهم الواضحة عن أسباب الركود ، و سأرتكز على ما طرحه أستاذ الاقتصاد الأمريكى ريتشارد وولف(1) من خلال مقالاته و محاضراته ، يقول بروفيسور وولف فى أوقات النمو تتوسع الشركات - و هذا أمر منطقى - فالأمور تسير على ما يرام ، لذا تزداد الثقة فى الاقتصاد و يزداد معه حجم الاستثمارات ، و تفتح البنوك أبواب خزائنها لإقراض الشركات ، و توظف الشركات مزيد من العاملين ، يزداد الإنتاج ، إلا إن هذا لا يستمر طويلا ، فمع النمو المطرد للشركات ، و لهث الشركات وراء تحقيق أكبر ربح ممكن ، يتجاوز الإنتاج هنا حجم الطلب فى الأسواق ، و بسبب أنهم جميعا يتبعون نفس الاستراتيجية ، فالأسواق لا تستطيع تحمل كل تلك البضائع فهى فى النهاية محدودة بحجم الأموال المتاحة فى أيدى المستهلكين ، و لأن تلك الشركات لا تنتج وفقا لاحتياجات المجتمعات ، بل طمعا فى الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الأرباح ، فيتم إغراق الأسواق بكميات كبيرة من البضائع و تتكدس المخازن أيضا بها ، ليصبح الإنتاج الجديد عبء على تلك الشركات ، لذا تتوقف عجلة الدوران فى الشركات عن الإنتاج أو على الأقل تخفضه بشكل كبير حتى يتم تصريف المخزون المكدس ، و بالتالى يتوقف المستثمرون عن ضخ أى أموال ، و البنوك ترفض أقراض الشركات ، فالأرباح انخفضت إلى أدنى معدلاتها و اصبح فرضا على الشركات أن تخفض من مصاريفها لتستمر فى تحقيق الأرباح ، و أسهل الطرق للتغلب على ذلك هو التخلص من أكبر قدر ممكن من العمالة ، ليفقد الملايين وظائفهم ، و بالتالى نرى هبوط فى معدلات الناتج المحلى على مستوى الدولة …

فى نهاية المطاف أعتقد إننا يجب أن نتساءل من هم الناجون و من هم المتضررون ، الإجابة بسيطة ، ”الناجون هم الرأسماليون“ ، و ”المتضررون هم أنا و أنت“ ، فالرأسماليون لديهم القوة اللازمة للخروج من أزمتهم ؛ عادة ما نسمع تلك الكلمات الخادعة فى أجهزة الإعلام ”حالات الركود و الكساد سيئة للجميع“ ، فمعها الشركات تنهار ، و يفقد الملايين من العاملين وظائفهم ، و لكن هل تلك هى الحقيقة ؟ ، إن السرد الإعلامى للكساد يحتوى على الكثير من الخداع و الكذب ، الحقيقة هناك فائزون من حالة الركود تلك ، إذا تتبعنا البيانات الخاصة بالركود ، إن مع زيادة حدة البطالة ، ترتفع فى المقابل لها حصة الرأسماليين من الكعكة الاقتصادية ، ففى خلال تلك الفترة الحالكة السواد تفقد الطبقة العاملة القدرة على المساومة ، فالبطالة متفشية ، و فرص العمل باتت شحيحة ، و اصبح عدد الباحثين عن فرص الحياة أكبر بكثير من فرص التوظيف المتاحة ، و المنافسة صعبة و اقرب للمستحيل ، المثير أن الرأسماليين هنا يحصلون على المزيد من القوة و السيطرة ، حتى لو أنخفض أجمالى الربح ، فهيمنتهم على الاقتصاد تزداد قوة عما كانت قبل الكساد ، و لفهم ذلك سأحاول شرحها لك بطريقة أخرى ، فعندما يكون معدل التوظيف مرتفع فى الأوقات التى ترتفع فيها معدلات النمو ، فى تلك الحالة على الورق يحقق الرأسماليون أرباحاً كبيرة ، لكنهم فى المقابل يفقدون السيطرة حيث تنخفض حصتهم من أجمالى الدخل ، و تضعف قوتهم أمام نقابات العمال خلال المفاوضات ، مما يعنى أن قدرتهم على تحقيق أرباح أكثر و سيطرة أكبر على المجتمعات ستقل بشكل كبير و قد تنعدم مع الوقت ، لذا فالرأسماليون يريدون معدلات بطالة مرتفعة لأن نصيبهم هنا من الناتج القومى للبلاد سيكون أكبر ، و ستزداد قوتهم فى المفاوضة مع النقابات و يستطيعون فرض شروطهم القاسية على الجميع ، لا تنزعج عزيزى القارئ ، فالقادم أكثر إظلاما ...

عندما تسيل الدماء فى الشوارع
هل سمعت يوما عن شخص يدعى البارون إدمنود جيمس دى روتشيلد(2) ، أعتقد ربما سمع الكثير منكم عن عائلة روتشيلد ، المهم سأقتبس عبارة شهيرة لهذا البارون الرأسمالى ستوضح الكثير من الأمور لك و لى حيث قال ”إن افضل وقت للشراء عندما تسيل بعض الدماء فى الشوارع“ ، فالركود أو الكساد هو جنة الرأسمالية ، فهى فرصتهم الكبرى للشراء فى أوقات الأزمات أى عندما ”تسيل الدماء فى الشوارع“ ، و لفهم ما أقصده تعالى نعود معا إلى عام 2008 مرة أخرى ، حيث كانت المؤشرات الاقتصادية فى أدنى معدلاتها ، و البنوك و الشركات تقريبا متوقفة عن العمل ، و من المعروف إن احد الأسباب الأساسية لحدوث تلك الأزمة كان انهيار سوق العقارات بسبب التوسع الكبير سواء فى إقراض الشركات العقارية للبناء ، أو أقراض الأفراد لتمكينهم من شراء تلك المنازل ، لكن أكثرية الحاصلين على تلك القروض من الأفراد لم يكن لديهم القدرة على تسديدها فكل بنوك كان طامعاً فى الاستحواذ على أكبر نسبة من السوق المالى ، فأخذت البنوك تتوسع فى عمليات الإقراض بشكل كبير مما نتج عن أزمة كبيرة بعد أن عجز غالبية المقترضين عن السداد ، كذلك الشركات العقارية لم تستطع تسديد التزاماتها للبنوك ، فالمعروض أكبر بكثير من طاقة الأسواق على تحملها ، لتنفجر الفقاعة العقارية و تعلن البنوك عدم قدرتها على الاستمرار فى العمل و تشهر العديد من الشركات العقارية و البنوك إفلاسها ، لكن فجأة و بعد بضعة أسابيع قليلة من أنفجار الأزمة تظهر من العدم شركة تدعى بلاكستون - Blackstone – ، و شركات أخرى معها لينفقوا مليارات الدولارات لشراء المنازل من البنوك التى عجز مشتريها عن تسديد أقساطها بأسعار أقل بكثير من قيمتها الحقيقية ، بل بأقل من قيمة تكلفة بناءها ، فالبنوك فى حاجة إلى ضخ أموال لتستطيع الاستمرار فى العمل ، و بما إن السكن ضرورى للإنسان و إلا سيكون مشرداً فهو سلعة رائجة و مضمونة ، و لكن بدلا من طرحها للبيع ، غيرت تلك الشركات استراتيجيتها و قررت لماذا لا نقوم بتأجيرها بمقابل قد يبدوا للناس بسيطا ، و لكن فى الحقيقة هم هنا ضمنوا الحصول على ملايين الدولارات شهريا بدون أى مخاطرة ، فعدد المنازل التى أشترتها شركة مثل بلاكستون يزيد عن مليون وحدة سكنية(3) ، و مهما دفعوا من أموال فهم يستطيعون استردادها خلال شهور قليلة مع الإيجارات المنخفضة لأنهم اشتروها خلال الأزمة بأقل من تكلفة بناءها ، و من السخرية تخرج علينا أجهزة الإعلام تتحدث عن المسئولية الاجتماعية لتلك الشركات - يا لها من خدعة - ، هل فهمت عزيزى القارئ ما كان يقصده هذا البارون الرأسمالى بـ ”الدماء السائلة فى الشوارع“ ...

اسمح لى أن أطلب منك أن تتوقف قليلا لتلتقط أنفاسك ، و تعالى نربط معاً أحزمة الأمان لأن ما سردته خلال السطور السابقة ما هو إلا بضعة قطرات من الدماء السائلة ، فالجروح لا تنضب فى المنظومة الرأسمالية بل تزداد اتساع و الدماء السائلة تزداد لتغرق حياتنا كلها ، فالقضية ليست فقط بين الرأسماليين و بين بقية المجتمع ، و لكن جانبها الآخر الذى لا يقل وحشية هو بين الرأسماليين أنفسهم ، فكما ذكرت من قبل إن الشركات الكبرى تنتهز الفرصة خلال فترات الكساد لتزيد من حصتها فى الكعكة الاقتصادية ، فالركود دائما ما يصاحبه حالة من التضخم الشديد ، فترتفع الأسعار و تقل معدلات الشراء فى الأسواق و هنا تصبح الشركات الصغيرة ضعيفة ، فهى لا تمتلك الكثير من المال حتى تستطيع الصمود أمام طوفان الركود و التضخم ، و هنا اللحظة التى تفوز فيها الشركات الكبرى بحصتها الكبيرة من الأسواق ليس من خلال تحقيق أرباح ، و لكن ببساطة من خلال إخراج منافسيهم الأصغر من الأسواق ، فالشركات الصغيرة و المتوسطة لا تمتلك القدرة على الصمود لفترات طويلة خلال الأزمات ، و هنا تأتى الفرصة للشركات الكبيرة إما فى زيادة محاصرة هؤلاء المنافسين الصغار حتى يعلنوا أفلأسهم ، أو بالاستحواذ عليهم و شراء تلك المشروعات التى تتعثر بأقل من قيمتها الحقيقية بكثير ، و فى الحالتين الخاسر هو السمك الصغير …

هل تلك نهاية القصة للأسف لا ، نلاحظ إن دورة الكساد المالى و الاقتصادى تأتى بشكل دورى كل سبع أو ثمانى سنوات تقريباً ، و أسبابها دائماً واحدة تقريباً – ما عدا أزمة 1995 كانت لها أسباب أخرى و التى عرفت باسم فقاعة الأنترنيت(4) - ، هذا هو الواقع ، تلك الأزمات تحدث منذ بداية الرأسمالية و التى عرفت باسم دورة رأس المال - Business Cycle – تعرف تلك الحركة الصاعدة و الهابطة للسوق الرأسمالى بطفرة ”دورة الأعمال“ ، حيث يأتى الازدهار من تراكم الثروة لدى الطبقة المالكة عندما تزدهر الأسواق ، و لكن عند نقطة معينة تبدأ معدلات الربح فى الانخفاض ، فبسبب حجم الإنتاج الضخم و المخزون الكبير من السلع المتراكمة فى المخازن يؤدى إلى كساد ، فتبدأ الشركات فى تخفيض الإنتاج لتصريف المخزون ، و كذلك العمل على الإقلال من الكلفة الإنتاجية من خلال تخفيض الأجور و التخلص من أكبر عدد ممكن من العاملين ، مما يتسبب فى مشاكل أقتصادية و اجتماعية كبيرة ، هذا التاريخ من الأزمات شبه المستمرة يؤكد لنا إن الرأسمالية نظام غير مستقر بطبيعته ، فبسبب الجشع و النهم المستمر لأصحاب راس المال ، و التنافس المميت بين الشركات يجعلها دائما تلهث وراء المكاسب قصيرة الأجل بدلا من الاستقرار طويل الأجل ، فإذا أخذنا الأزمة الاقتصادية الأخيرة و التى نعانى منها منذ عام 2008 ، فهى تعتبر أكبر عملية استيلاء للثروات فى تاريخ البشرية من أيدى المجتمعات إلى أيدى حفنة صغيرة من الأفراد(5) بدون أى وجه حق ، بل على العكس فهم اللذين تسببوا فى تلك الأزمة ، و بدلا من أن يدفعوا نتيجة أخطائهم نتحمل أنا و انت و ندفع لهم من حياتنا و مدخراتنا و الضرائب التى ندفعها كمكافآت سخية على ما اجتنبوه من مصائب لنا ، فالحكومات بدأت فى عمليات ضخ للأموال لتلك الشركات من خلال التأميم الجزئى ، أى شراء الحكومات لحصة من أسهم تلك الشركات حتى تستمر فى العمل ، و هنا يجب علينا طرح سؤال ”من أين أتت الحكومات بتلك الأموال ؟“ ، أنها من حصيلة الضرائب التى ندفعها نحن ، لتنقذ الحكومات هؤلاء الرأسماليين الذين تسببوا فى خراب حياتنا ، أى عبث نعيش فيه هذا ...

دائماً ما يأتى الركود أو الكساد و معه الكثير من المظاهر السلبية فى المجتمعات ، فما يحدث ليس مجرد بضعة اشهر علينا أن نعيد تنظيم حياتنا فيها و نستغنى عن بعض الرفاهيات ، فالمؤلم ما رصده علماء الاجتماع على مستوى العالم ، حيث تزداد معدلات الانتحار ، الإدمان ، الطلاق و الانفصال ، لتتحطم البنية الاجتماعية بسبب هذا الركود ، فتلك الفترات مؤلمة بشكل لا يصدق ، فحتى تستمر تلك القلة فى تحقيق أرباح ، على الجانب الآخر من المجتمعات عليها أن تعيش فى حالة من البؤس و الاضطراب ، هذا ما يضطررنا للتساؤل ”ما هو الحل ؟ !“ …

الاشتراكية هى الحل !
دعونا فى البداية نطرح تساؤل بسيط ”ماذا لو لم نعتمد على عامل النمو و تعظيم الربحية فى العملية الاقتصادية ؟“ ، إذا كان الأمر كذلك فسوف نتجنب عملية الركود الدورى التى تحدث عندما تصل معدلات النمو إلى أقصى مداها ، بمعنى آخر ، ماذا إذا كان لدينا أقتصاد مخطط و تحت السيطرة ، ففى ظل الرأسمالية يجب على الاقتصاد أن يكون فى حالة نمو مستمر حتى يتعين على الشركات تحقيق أقصى ربح ممكن ، فالشركات لا تستطيع العيش بدون تحقيق أرباح أعلى من المعدلات المتوسطة ، و بالتالى لا تستطيع الحكومات الرأسمالية العمل بدون تعظيم الناتج القومى – GDP - ؛ فى الاقتصاديات الاشتراكية لا تعمل بتلك الطريقة ، فحتى فى أوقات انخفاض النمو سيكون بمقدرة الحكومات تقديم الخدمات الأساسية مثل السكن و التعليم و الرعاية الصحية و الغذاء بتكلفة بسيطة ، فالربح ليس هو الغرض الرئيسى للعملية الاقتصادية ، و لكن توفير الحياة الكريمة للمجتمع هو الهدف الأساسى ، فإخراج العملية الاقتصادية من معاملات آليات السوق و قيود الربح و الخسارة يحررها من هذا السجن المميت ...

من خلال الاقتصاد الاشتراكى و التخلص من فكرة الربح و الخسارة المميتة ، سيكون بمقدورنا توسيع نطاق الخدمات التى يؤديها الاقتصاد للمجتمع ، فمن خلال الاقتصاد الموجه يمكننا السيطرة على كمية الإنتاج بما يتماشى مع احتياجاتنا ، و ليس بشكل عشوائى كما يحدث فى الرأسمالية ، مما يساعد كذلك على الحفاظ على موارد الحياة على ظهر الكوكب ، فالاقتصاديات فى الحقيقة لا تحتاج دائما للنمو حتى تصبح حياتنا أفضل ، و لكنها تحتاج إلى التنظيم و التخطيط بما يلبى حاجتنا ، فحياتنا لن تكون افضل عندما يحقق فئة قليلة من المجتمع و هم الرأسماليون أرباحاً تزيد من حجم حسابتهم فى البنوك ، فمن خلال المنظومة الاشتراكية ، فالركود حتى لو حدث فلن يكون هذا وبالا على الجميع بل على العكس بل من الممكن أن تكون تلك الفترات وفرة للجميع ، و سأضرب لكم مثالا أعتقد أن الكثير يعرفونه خصوصاً المصريين …

خلال فترات الستينات و حتى أواخر السبعينات كان المهيمن على الاقتصاد المصرى هو القطاع العام ، الذى كان ينتج تقريبا كل ما يحتاجه المجتمع من أساسيات و كذلك بعض السلع الترفيهية ، كانت الحكومة سنويا تقوم بتخفيضات على البضائع فى فترات معينة و كان يطلق عليها ”أسبوع الفضلات“ ، خلال هذا الأسبوع تقوم شركات و مصانع القطاع العام ، بالتخلص من المخزون الزائد لديها من خلال بيعه تقريبا بسعر يكافئ تكلفة إنتاجه أو بهامش ربح مخفض للغاية ، مما يوفر تلك السلع إلى فئات اجتماعية كانت ترى فيها نوع من الرفاهية لاقتناءها ، و بالتالى تستعيد الشركات على الأقل ما تكلفته فى إنتاج هذا المخزون الراكد ، كذلك تم توفير السلعة لفئات من المجتمع كان من الصعب عليها اقتناءها بالسعر العادى ، مما يقلل من حدة أى صراع اجتماعى ، تلك هى المسئولية الاجتماعية الحقيقية التى يجب أن تقوم عليها الشركات أن توفر لكافة طبقات الشعب فرص الحياة و تقليل الفوارق بين الطبقات الاجتماعية لأن المعادلة فى الاقتصاد الاشتراكى بسيطة و إنسانية هى ”الإنسان قبل الربح“ ، فالاقتصاد الذى يعطى الأولوية لرفاهية الإنسان سيستمر ببساطة فى القيام بذلك بغض النظر عن أى أزمات قد تحدث ، على العكس من المنظومة الرأسمالية التى تعمل فقط على تعظيم ربح شريحة صغيرة للغاية من المجتمعات فى مقابل نشر الفقر للباقين …

أعلم إن البعض سيقول أن ما تطرحه من حلول طوباوية بشكل كبير ، لكن الحقيقة ليست كذلك بل هو واقع تم تجربته و نجح فى بلدان كثيرة ، و لولا المؤامرات التى واجهتها الدول التى نفذت تلك التجربة لكانت اليوم لها شأن آخر ، فمن العبث أن نستمر فى اللهث وراء النمو المتصاعد و نحن نعيش على كوكب ذو موارد محدودة ، و كذلك لا يمكننا الاستمرار فى معاقبة الناس العاديين حتى ينعم حفنة قليلة من الرأسماليين بالرفاهية و السيطرة على البشرية ، فالحياة يجب أن تكون افضل مما نراه اليوم تحت مظلة الرأسمالية الخادعة …





______________________________________________
هوامش

1) ريتشارد د. وولف - Richard D. Wolff - اقتصادى أمريكى معروف بأعماله عن الاقتصاد الماركسى و المنهجية الاقتصادية و التحليل الطبقى (علم اجتماع) ، كما حصل على الدكتوراه فى الاقتصاد من جامعة هارفارد ، و دكتوراه أخرى أيضا فى علم الاقتصاد من جامعة ستانفورد ، و على دكتوراه فى الفلسفة من جامعة ييل ، و عمل بالتدريس فى جامعة ماساتشوستش ، اشتهر وولف بعد الأزمة المالية فى 2008 على وسائل التواصل الاجتماعى كناقد لاذع للنظام الرأسمالى الأمريكى حيث يسلط الضوء على عيوب النظام و عجزه عن تحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة بين الأمريكيين و كيف يكرس النظام تكديس الثروة لطبقة الرأسماليين و بالتالى تتركز القوة السياسية فى يد فئة قلية جدا لا تتعدى (1%).

2) البارون إدموند جيمس دى روتشيلد - Edmond James de Rothschild – ولد فى 19 أغسطس 1845 ، و توفى فى 2 نوفمبر 1934 ، يعتبر أحد زعماء الفرع الفرنسى لعائلة روتشيلد المالية اليهودية. كان روتشيلد داعم قوى للصهيونية و أضافت تبرعاته السخية دعماً كبيراً للحركة خلال سنواتها الأولى، مما ساعد فى إنشاء الكيان الصهيونى (إسرائيل).

3) عدد المنازل التى طرحتها البنوك للبيع بأسعار أقل من قيمتها الحقيقية بلغت تقريباً 8 مليون منزل ، و الغريب أنه فى غالب الحالات رفضت البنوك بيعها للأفراد فقط تم طرحها للشركات.

4) فقاعة الإنترنيت و تعرف أيضا باسم فقاعة الدوت كوم – Dot Com Bubble – امتدت فى الفترة ما بين 1995 إلى عام 2000 ، ففى تلك الفترة ظهرت فجأة مجموعة من الشركات الناشئة فى الصناعات المرتبطة بشبكة الإنترنيت ، عانت تلك المشروعات لأسباب كثيرة أهمها أن الحلول البرمجية للتجارة الإلكترونية و إدارة المستودعات و خدمة الزبائن لم تكن مواكبة لتطلعات القائمين على تلك المشروعات ، كذلك اضطرت الشركات إلى توظيف أعداد كبيرة من الموظفين للوصول إلى حلول تقنية ، كذلك قلة عدد المشترين من على شبكة الإنترنيت فى تلك الفترة ، مما أدى إلى انهيارات و خسائر كبيرة فى فترة زمنية قصيرة ، و لم تنجو إلا شركات قليلة للغاية منها على سبيل المثال شركة أمازون على الرغم إنها حققت خسائر عام 1999 قدرت بحوالى 900 مليون دولار ، و لكن المستثمرون أصروا فى قرار غريب على الاستثمار بالرغم من الخسائر الفادحة ، و لم تظهر فى حسابات الشركة أية أرباح إلا بدأ من عام 2007

5) راجع مقالى السابق ”لماذا نحن مغفلون ؟“ ، https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=803024



#عمرو_إمام_عمر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا نحن مغفلون ؟ !
- خديعة الاشتراكية الديمقراطية
- الثورة العالمية الجديدة فى القرن الواحد و العشرين
- الفقر صناعة يجنى أرباحها الأغنياء (4)
- الفقر صناعة يجنى أرباحها الأغنياء (3)
- الفقر صناعة يجنى أرباحها الأغنياء (2)
- الفقر صناعة يجنى أرباحها الأغنياء (1)
- الأزمة التونسية و خديعة لعبة الديمقراطية !
- النيل و التطور الحضارى فى مصر (2)
- النيل و التطور الحضارى فى مصر (1)
- خطوات فى عالم الفلسفة
- مغامرة الإبحار فى عالم محمود أمين العَالِمْ و ”فلسفة المصادف ...
- الأخلاق بين الاغتراب و الدين و الرأسمالية
- الإمبريالية تطورها و صراعها الاستعمارى (الحلقة الثالثة عشر)
- الإمبريالية تطورها و صراعها الاستعمارى (الحلقة الثانية عشر)
- الإمبريالية تطورها و صراعها الاستعمارى (الحلقة الحادية عشر)
- الإمبريالية تطورها و صراعها الاستعمارى (الحلقة العاشرة)
- الإمبريالية تطورها و صراعها الاستعمارى (الحلقة التاسعة)
- الإمبريالية الإستعمارية و حركات التحرر الوطنى (الحلقة الثامن ...
- الإمبريالية الإستعمارية و حركات التحرر الوطنى (الحلقة السابع ...


المزيد.....




- علماء يضعون كاميرات على أسماك قرش النمر في جزر البهاما.. شاه ...
- خريطة توضح ماذا فعلت روسيا بـ5 أشهر من -الجفاف المدفعي- لأوك ...
- الإمارات.. زعيم المعارضة الإسرائيلية يعلق على لقائه الشيخ عب ...
- السلطات السعودية والإماراتية تتخذ إجراءات عاجلة بسبب الأمطار ...
- هيئة حماية المستهلك: روسيا شهدت انخفاضا بمعدلات الإصابة بفير ...
- زهور برية شائعة لتر ميم الأعصاب التالفة
- صدامات وتفكيك مخيمات محتجين ضد حرب غزة في جامعات أمريكية
- خيام الاحتجاجات بين العراق وأمريكا
- الأردن.. الأميرة رجوة الحسين تتسوق في أحد محال مستلزمات الأط ...
- عرض الغنائم العسكرية الغربية في موسكو يثير ردود أفعال صاخبة ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عمرو إمام عمر - الحقيقة وراء الركود الاقتصادى !