أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الطاهر المعز - التحدّيات والمخاطر المُحدقة بالفلاحة وبالموارد الطبيعية















المزيد.....


التحدّيات والمخاطر المُحدقة بالفلاحة وبالموارد الطبيعية


الطاهر المعز

الحوار المتمدن-العدد: 7695 - 2023 / 8 / 6 - 16:20
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


المياه والزراعة في خطر
تتوقع الأمم المتحدة نمو سكان العالم من 7,7 مليار في نهاية سنة 2023 إلى 9,7 مليار شخص سنة 2050 ومن المتوقع أن يكون نصيب إفريقيا أكثر من نصف هذا النمو السكاني العالمي (أي أكثر من مليار شخص)، ما قد يُؤَدِّي إلى ضغوط على قطاع الزراعية والنظم الغذائية، خصوصًا في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء حيث يُتوقّع أن يؤدي تغير المناخ إلى تفاقم وضع غالبية سكان هذه المنطقة وخصوصًا مَنْ يعيشون في المناطق الريفية، حيث يعتمد الدخل والعمالة بشكل شبه كامل على الزراعة البعلية وحيث يوظف القطاع الزراعي ما بين 65% و 70% من القوى العاملة الأفريقية وتمثل الفلاحة، في المتوسط ، ما بين 30% و 40% من الناتج المحلي الإجمالي لهذه البلدان، وقدرت الأمم المتحدة (بنهاية سنة 2022) أن واحدًا من كل أربعة أشخاص (أو 25%) من سكان إفريقيا جنوب الصحراء لا يملك ما يكفي من الغذاء ليعيشوا حياة صحية ونشيطة، ففي هذه المنطقة من العالم، تتكرر فترات الجفاف مما يزيد من مخاطر تصحر الأراضي الزراعية، لأن الماء من أهم مُقومات حياة الإنسان والحيوان والأرض، إذ تغطي المياه ما يقرب من 70% من سطح كوكب الأرض ولكن هذه المياه في الغالب مالحة، ولا يمكننا الوصول سوى إلى 1% من المياه العذبة مما يسمح بتنمية الغابات والحقول وإنتاج الطاقة وما إلى ذلك، ولذلك يُعَدُّ الحفاظ على موارد المياه العذبة جزءًا من الحفاظ على الموارد الطبيعية، ولكن كيف يمكن الحفاظ عليها وتجنب حدوث الأزمة البيئية التي تَتَهَدَّدُنا؟ كيف وصلنا إلى هذه الحال، وكيف يمكن التعاون بين الدّول والكيانات من أجل إنقاذ دورة المياه، وهو أمر ضروري ومُلِحّ، لأن الماء هو المُحَرِّكُ لجميع الأنشطة على هذا الكوكب، وهو أحد أسباب الصّراع ( منطقة النّيل أو دجلة والفُرات، على سبيل المثال )، ويمكن تحويل الصّراع إلى مجال للتعاون من أجل الحفاظ على على الكائنات الحية، بما فيها الإنسان وعلى نشاطات زراعة الأرض وتربية المواشي والصّيد في الأنهار والبُحَيْرات، وإنتاج الطاقة الخ، ولكن كيف نضمن أن يكون هناك ما يكفي من المياه ومن الإنتاج الغذائي الطبيعي ( وليس الغذاء المُصَنَّع في المُختبرات) في عالم أكثر حرارة وجفافًا لما يقترب عدد السكان من عشرة مليارات نسمة سنة 2050؟ يتطلب نقص المياه العذبة البحث عن حلول لحالة أصبحت طارئة، وجَعْل البدائل الحالية أرخص ثمنا وفي متناول الجميع، مثل استمطار السحب وتحلية المياه وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي ... ولكن كيف نُقَوِّمُ هذه البدائل؟
تتضمن إعادة التدوير العديد من التّقنيات والعمليات الكيميائية والفيزيائية والبيولوجية لتحويل مياه الصرف الصحي إلى مياه صالحة للشرب، وجَرّبت بعض المدن الأمريكية في ولاية تكساس أو بعض مُدُن جنوب إفريقيا بعض هذه التقنيات منذ أكثر من اثني عشر عامًا، غير إن ناميبيا التي تفتقر عاصمتها ويندهوك (500 ألف نسمة) إلى موارد مائية، تُعَدُّ رائدةً في إعادة تدوير المياه، إذْ تقع ويندهوك في وسط سهل جاف، على بعد أكثر من 200 كيلومتر من ساحل البحر، ولا تستطيع المدينة جَمْعَ مياه الأمطار النادرة، بسبب التبخر الفوري تقريبًا في خطوط العرض الصحراوية، ولا تستطيع البحث في الأنهار أو المياه الجوفية في محيطها، لندرة تغذيتها بالمياه، إن لم تكن قد جَفّت تمامًا...
بدأت بلدية المدينة، سنة 1968، وكانت ناميبيا آنذاك تحت سيطرة جنوب إفريقيا، في إعادة تدوير مياه الصرف الصحي لتحويلها إلى مياه شرب، وبعد خمسة وخمسين عامًا، تقوم المدينة بتدوير 30% من مياه الصرف الصحي لتحويلها إلى مياه شرب في أقل من عشر ساعات، لتأتي بقية مياه الشرب المنزلية من السدود والآبار في مناطق أخرى من البلاد، ونفذ مهندسو المدينة عملية مبتكرة لإعادة تدوير المياه العادمة وتحويلها إلى مياه شرب، بعد تطهيرها والقضاء على المبيدات الحشرية ومخلفات الأدوية والبكتيريا والفيروسات والطفيليات، قبل مراحل الترشيح التي تتيح القضاء على بقايا التلوث القابل للذوبان، وتخضع المياه لعدة فحوصات لاختبار الجودة قبل المرور عبر شبكة توزيع المياه بالمدينة.
يًعَدُّ تركيب محطة لإعادة تدوير مياه الصرف الصحي مكلفًا (ما يقرب من 60 مليون دولار، في المتوسط ، لمدينة كبيرة)، ولكن هذه المحطّات تستخدم طاقة أقل حجمًا وأقل ضَرَرًا بالبيئة من تحلية مياه البحر التي تنتج نفايات ضخمة، منها تركيزات الأمْلاح والملوثات التي غالبًا ما يتم تصريفها مباشرة في البحار والمحيطات، مما يلحق أضْرارًا كبيرة بالنظم الإيكولوجية البحرية.
تنتج عمليات إعادة تدوير مياه الصرف الصحي نفايات تتكون من الفوسفور والنيتروجين والتي يمكن تحويلها إلى مغذيات مفيدة للزراعة، أو لإنتاج الطاقة من خلال المعالجة بالميثان مع النفايات التي يتم جمعها أثناء المعالجة كمدخلات.
بالعودة إلى المخاطر التي تتهدّد الزراعة، يُتَوقّع، اعتمادًا على البيانات المتاحة، أن تتأثر الزراعة في أفريقيا سلبًا بتغير المناخ؛ وفي معظم بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، يمكن أن تنخفض غلة المحاصيل بنسبة 10% إلى 20% بحلول عام 2050 بسبب الاحتباس الحراري، ويُتوقّع أن ينخفض متوسط غلة القمح لنفس الفترة بنسبة 17% والذرة بنسبة 5% والذرة الرفيعة بنسبة 15% والدخن بنسبة 10% ... عمومًا، تواجه الزراعة الأفريقية صعوبة كبيرة بسبب نقص المياه وفترات الجفاف وتدهور التُربة، لِتُصبِح زيادة إنتاج الغذاء بطريقة مستدامة، مع الحفاظ على الموارد، تحدّيًا كبيرًا، وبذلك تكون الإيكولوجيا الزراعية، التي تهدف إلى تصميم نظم غذائية تنطوي على ضغط أقل على البيئة واستخدام أكثر اعتدالًا للموارد الطبيعية، ضرورية لتحسين الأمن الغذائي والتغذية، ما يُحَتِّمُ استعادة النظم البيئية والحفاظ عليها، وتوفير سبل عيش مستدامة لأصحاب الحيازات الصغيرة وبناء القدرة على التكيف مع تغير المناخ.
منذ صيف سنة 2022، تشهد أوروبا موجة حرارة استثنائية ونقصًا في مياه الأمطار، مما أدى إلى قلب القطاع الزراعي رأساً على عقب، وتعدّدت الإجتماعات والقرارات المتعلقة بهذا الوضع الإستثنائي، بينما تفتقر بعض مناطق إفريقيا إلى الأمطار للسنة الرابعة على التّوالي، واختلفت ردود الفعل على الجفاف، بل تناقضت تمامًا، وفق موقع المناطق المُتضرّرة من الجفاف أو من الحرائق أو من الفيضانات والأعاصير...
خلق تغير المناخ منافسة بين الدول في جميع أنحاء العالم لحل مسألة نقص المياه الذي يُؤَدِّي إلى انخفاض الإنتاج الفلاحي، النباتي والحيواني (اللحوم والألبان والدجاج والبَيْض، وأسماك الميه العذبة...) وحشدت مؤسسات البحث الأكاديمي جهودها للبحث في طرُق زيادة توافر المياه للزراعة، وظَلّت السياسة السائدة تعمل على توسيع المساحات المروية بأي ثمن، كنتيجة حتمية لسياسة المشاريع المائية والزراعية الكبيرة التي تنطوي على مخاطر تدهور الموارد المائية وعلى زيادة الظلم الاجتماعي، من خلال السماح لأقلية من كبار ملاك الأراضي بخصخصة المياه واحتكارها.
حلول وطرق بديلة
تتم معالجة المياه العادمة باستخدام تقنيات رصينة في العديد من المناطق الريفية في العالم ، وغالبًا ما يتم زرع مناطق تجميع وتصفية المياه بالقصب، ولا تزال هذه التقنيات البسيطة والرصينة تجهز الآلاف من محطات معالجة المياه، خاصة في فترات نقص المياه وزيادة التلوث الصناعي والزراعي والمنزلي، كما يمكن معالجة مياه الصرف المنزلية من المطابخ والحمامات والمراحيض وجميع النفايات السائلة الناتجة عن الأنشطة البشرية وتصفيتها للتعويض عن نقص المياه، ومن الضروري إجراء حملة توعية عامة لشرح الغرض من معالجة مياه الصرف الصحي لتجديد موارد المياه للاستخدام المنزلي والزراعة، بالإضافة إلى الأسمدة الصالحة لتخصيب الأرض الزراعية والتي يتم استخراجها من هذه المياه العادمة، مثل النّتْرَات والفوسفات.
يتكون نظام معالجة مرشح القصب من مراحل متتالية بسيطة، لكن فعاليتها تتطلب هندسة متقنة، حيث يتم زرع نبتة القصب على سطح المرشحات، وهي نبتة تتطور وتنمو بسرعة ولها شبكة كثيفة من الجذور التي تسهل التدفق الهيدروليكي ونقل الأكسجين، وتخلق ظروفًا مواتية لنشاط الكائنات الحية الدقيقة التي تقوم بتنقية المياه، وتُعَدُّ كفاءة تنقية المرشحات المزروعة بالقصب ومستواها المعتدل من التطور التقني وانخفاض تكاليف التشغيل والاستثمار واندماجها في المُحيط الطبيعي، من الخصال أو الإيجابيات الهامة والرئيسية لنظام التنقية الطبيعي الذي يوفر أيضًا وظائف أخرى للنظام البيئي تتجاوز وظيفة التنقية الرئيسية...
تعد محطات المعالجة المكثفة أكثر ملاءمة للمدن الكبرى والمناطق الحَضَرية، نظرًا للكميات الكبيرة من مياه الصرف الصحي التي يتم تصريفها عن طريق الاستخدام المنزلي أو الصناعي، وهي محطات باهظة الثمن بسبب الاستهلاك العالي للطاقة والمعدات المدمجة المتطورة لرفع قدرتها على معالجة كميات كبيرة من المياه العادمة...
النشاط الزراعي في المناطق الصحراوية
أطْلَقَ جغرافيو وأنثربولوجيو الدّول الإستعمارية تسمية "الساحل" ( Sahel ) على الشريط القاحل الذي يمتد عبر إفريقيا من الشرق إلى الغرب، على حافة الصحراء الكبرى، ويُعْتَبَرُ الماء سلعة ثمينة للغاية في هذه المنطقة الساحل، بل أثْمَنُ من أي شيء آخر، وأثمن من أي مكان آخر من العالم، ولكن هذه المنطقة مَسْكونة منذ آلاف السنين، فقد ابتكرت شعوب المنطقة أساليب ذكية وبسيطة للحفاظ على كل قطرة ماء، وطور المزارعون قدرة كبيرة على التكيف مع تغير المناخ، حيث شهدت جميع المناطق المحيطة بالصحراء، خلال العُقُود الثلاث الأخيرة من القرن العشرين، فترة جفاف شديد أدى إلى اضطراب النظام البيئي الهش وتسبب في زَحْف الرمال وتقدم الصحراء، وفي فترات الجفاف يتزايد هبوب الرياح، وعندما تنزل الأمطار فإنها تكون غزيرة تُؤَدِّي، تمامًا كما الرياح، إلى تدمير الغطاء النباتي للتربة التي أصبحت فقيرة للغاية، وعندما تنزل الأمطار لا تتسلّل إلى باطن الأرض بل تَجْرُفُ التّربة، وبذلك لا تُؤَدِّي مياه الأمطار الغزيرة إلى نَشْر الحياة والأمل، بل يقضي ماؤها الجارف على أديم الأرض ويقضي على آمال الفلاحين الذين تكيفوا مع هذه الظروف، وابتكر الفلاحون الذين يمتلكون مساحات صغيرة جدًا وأراضي فقيرة، في مناطق متاخمة للصحراء، طرقًا بسيطة تُمَكِّنُ بذور الدخن والشعير والذرة الرفيعة من الإستفادة كل عام من الأمطار الأولى التي تنزل في بداية صيف كل عام (حزيران/يونيو)، بعد جفاف الربيع، وتهدف هذه التقنية تركيز الماء والسماد في حُفَرٍ بعمق 15 سنتمترا ومتباعدة بحوالي 30 سنتمتر، ويضع المزارعون الأسمدة العضوية والحبوب والدخن والذرة الرفيعة في الحفر، قبل نزول الأمطار بفترة، وعندما تنزل الأمطار تحتجز هذه الحُفَر الماء الذي تستفيد منه البُذُور، كما تم في بعض المناطق الأخرى، بإفريقيا الغربية، تكييف تقنيات الأسلاف لإعادة تشجير المناطق المحيطة بالقرى والحد من آثار التصحر، بأشجار تأقلمت مع الجفاف والرياح، وفقًا لموقع الأمم المتحدة.
في السنغال ، يقوم باحثون من المعهد السنغالي للبحوث الزراعية والمعهد الوطني لعلوم التربية بإجراء اختبارات لتقييم كمية الكربون المحتجز في التربة باستخدام تقنيات الأسلاف، ولاحظوا أن مخزون الكربون لكل هكتار يزيد بنسبة 52% مقارنة بالمناطق الأُخْرَى، وطَوَّرَ المزارعون في السنغال ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وكينيا والعديد من البلدان الأفريقية الأخرى، أنظمةً تتكيف مع المناخ، لكن هذه تتطلب هذه التقنيات قدرًا كبيرًا من الجهد البشري ووقت العمل ، بحوالي 380 ساعة لكل هكتار، لكن، وبشكل عام، يسعى المزارعون في كل مكان من العالم، وبكل الوسائل إلى الحفاظ على المورد، خصوصًا عندما تصبح المياه شحيحة ومكلفة...
دروس واستخلاصات من التّجارب
لقد واجه فلاحو "الساحل" في إفريقيا لِقُرُونٍ قيودًا كبيرة على الموارد المائية، ولم يتوقفوا أبدًا عن الابتكار والتكيف مع الظروف القاسية، أما في الصومال والحَبَشة وكينيا فإن نقص مياه الأمطار يُهَدّد حياة أكثر من 16 مليون شخص، ولا يقتصر هذا الوضع على أفريقيا، بل يمتد من كاليفورنيا إلى سوريا، مرورًا بالمغرب العربي، ومن أوروبا إلى جنوب إفريقيا إلخ، وتختلف الحلول الرسمية (الحكومية) من بلد إلى آخر، لمساعدة المزارعين وضمان المنتجات الغذائية، ويستفيد المزارعون في البلدان الغنية وكبار ملاك الأراضي من مساعدات الدولة ومن تقنيات الري ومن التجهيزات الحديثة، بينما لم يعد بإمكان صغار المزارعين في إفريقيا أو آسيا ممارسة مِهنتهم، بسبب احتكار الموارد من قِبَل الشركات العابرة للقارات، فضلا عن العوامل الطبيعية وأزمة المناخ، ما يجبر العديد منهم إلى النّزوح الدّاخلي أو الهجرة خارج أوطانهم، بعدما أصبحت الزراعة لا تُمكّنهم من العيش.
تتيح عدة أشكال من تنويع نظم المحاصيل إمكانية إيجاد حلول بيئية زراعية ومستدامة للتكيف مع الجفاف، مثل الزراعة البينية أو تنويع المحاصيل، وتعمل بعض جمعيات صغار المُزارعين على المحافظة على البذور التقليدية التي تأقلمت مع المناخ والتربة، كما تحاول تطوير وتحسين أساليب استخدام التربة والموارد المائية، والإستفادة من التأثير المفيد للبقول على تثبيت الموارد، والحد من تبخر الماء من التربة، من خلال غطاء نباتي أكثر كثافة، وتساهم هذه الجمعيات في إنجاز أهداف الأمن الغذائي من خلال الاستفادة على المدى الطويل من سلامة التربة وخصوبتها، ومن خلال إنتاج المزيد من البروتين النباتي لكل وحدة من المساحة المزروعة.
في مواجهة الجفاف، يمكن لهذه التقنيات تعزيز خصوبة التربة وقدرتها على الاحتفاظ بالمياه لفترة أطول، بالتوازي مع اختيار البدور المتوافقة مع طبيعة المكان والتربة، لزيادة أصناف النباتات وحجم وجودة المحاصيل، وعمومًا تحتاج هذه التقنيات إلى التطوير لتتمكن من مقاومة الآفات الجديدة ومن تعزيز خصوبة التربة وقدرتها على الاحتفاظ بالمياه لفترة أطول، في فترات الجفاف.
على المستوى القُطْرِي، وفي سياق أزمة الغذاء الملحة وجب طرح قضايا السيادة الغذائية، وسُبُل إنجاز هذا الهدف، الذي يتطلب قرارًا سياسيا، واستثمارات وتدريب المزارعين والمواطنين على تغيير بعض أنواع الزراعة وعلى تغيير بعض العادات الغذائية وإظهار فوائدها على صحة الإنسان وإيجابياتها للأرض والموارد، وهذه بعض النماذج من التجارب في البلدان الفقيرة، ففي نيبال ، في سهل تيراي أو في البنجاب في الهند، لم يعد المزارعون يملكون ما يكفي من المياه لزراعة الأرز بطريقة الغمر المستمر كما حدث منذ قرون ( أي أن تكون نبتة الأرز غارقة باستمرار وسط المياه)، ويمكن التحول إلى طرق الزراعة الجديدة حيث يكون الأرز جافًا أو مغمورًا بالتناوب، ما يقلل من احتياجات المياه بنسبة تصل إلى الثلث مع تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
يمكن لأفريقيا جنوب الصحراء إنتاج القمح الصلب، كما يتضح من تجربة أجريت في موريتانيا والسنغال لسد العجز التجاري المتزايد والذي بلغ 4 مليارات دولار سنويًا من القمح المستورد. أما أفضل بديل فهو الاستفادة بشكل أفضل من الأنواع التقليدية من البقوليات المتكيفة بالفعل مع الظروف المحلية الجافة، لأن تغير المناخ يُؤثّر على تواتر الفُصُول وعلى نسق هطول الأمطار وعلى ارتفاع مستوى سطح البحر، ومن المتوقع أن تؤدي هذه التغيرات المناخية والزيادات في درجات الحرارة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى تغيرات في هطول الأمطار بكافة مناطق القارة، وزيادة حدوث الظواهر المتطرفة مثل الجفاف والفيضانات المُدَمِّرَة، وزيادة التصحر وانتشار بعض الأمراض المعدية ...

الإستعمار الفلاحي
تستخدم الشركات العابرة للقارات ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية لإنتاج الوقود الحيوي "النظيف" من المنتجات الزراعية أو لإنتاج الطاقة "النظيفة" أو لإنشاء المزارع الكبيرة التي تستخدم المُبيدات والأسمدة الكيماوية والكائنات المُعَدًّلَة وراثيا وتدر هذه المشاريع في الأراضي الزراعية مكاسب كبيرة للشركات وللمجموعات المالية والصناعية، مما يُساهم في القضاء على الزراعة العائلية التي تكافح من أجل البقاء، وفي حرمان مئات الملايين من البشر من الغذاء السّليم، وتحويل المال العام عبر الدعم المالي والحوافز التي تُقدّمها الحكومات للشركات متعددة الجنسيات التي احتكرت الأرض لإقامة الزراعات الصناعية والتجارية وزراعة مساحات كبيرة من النباتات التي تُساهم في تآكل التربة وفي استنزاف المياه والموارد الطبيعية، وأصبح هذا النموذج من الزراعات الكُبْرى مسؤولًا عن أكثر من ثلث الإنبعاثات العالمية لغازات الاحتباس الحراري، ومُدمّرًا لحياة صغار المزارعين ومربي الماشية، فضلا عن المصاعب الأخرى التي يُعاني منها صغار الفلاحين
إن الزراعة الصناعية لا تهتم سوى بتحقيق عوائد عالية، ولا تتردّد لحظةً عن استنزاف المياه والأرض واستنفاد العناصر المُغَذّية، فتلجأ إلى إضافة كميات متزايدة من الأسمدة الكيماوية ومن المبيدات (ومن الوقود الأحفوري) لزيادة الإنتاج، والنتيجة هي انخفاض كارثي في مستوى المواد العضوية في التربة، فقد فقدت تربة الأراضي الزراعية أكثر من نصف المواد العضوية وتضرر أكثر من ملياري هكتار من الأراضي الزراعية في العالم، خلال أقل من عقْدَيْن، ما أدّى إلى انخفاض غلة المحاصيل وزيادة تلوث النظم المائية عن طريق جريان الأسمدة، وبما أن المادة العضوية في التربة هي في الغالب الكربون، فإن هذه الزراعات الكبرى تساهم بشكل كبير في إطلاق كميات هائلة من الكربون في الغلاف الجوي، لتدْفُنها في الأراضي الزراعية بمناطق أخرى من العالم، وهكذا يتم تسميم مجمل الأراضي الزراعية
تُشكّل الفلاحة وإنتاج الغذاء واحدًا من أهم مُقومات الإستقلال الحقيقي لبلدان المحيط: الإستقلال الإقتصادي والسياسي والتّحكّم بالموارد، وتُمثل بلدان الوطن العربي وإفريقيا نموذجًا للإستعمار الجديد ولإهمال الفلاحة، ونموذجًا للتّفريط في الثروات التي تستغلها الشركات العابرة للقارات وتُحَوّل الفائض إلى الخارج، بينما بقيت بعض بلدان الوطن العربي (وكذلك إفريقيا) من أكبر مُستَوْرِدِي الحُبُوب، فمصر أكبر مُستورد عالمي للقمح تليها الجزائر، كما يتميز الوطن العربي بامتلاك العديد من الأرقام القياسية المُخْجِلَة، ومنها نسبة الفقر والأُمِّيّة والبطالة، بينما تكفي الأراضي الزراعية بالسودان لإنتاج غذاء 400 مليون نسمة، وتكفي الثروات المُهَرّبَة من البلدان العربية نحو المصارف الأجنبية والملاذات الضريبية، للإستثمار وتحقيق السيادة الغذائية وتحويل فائض الإنتاج الغذائي (الزراعة والصيد البحري والألبان واللحوم) إلى مواد مُصنّعة...
تُمثّل معظم حكومات الدّول الرأسمالية الكبرى مصالح المصارف الكبرى والشركات العابرة للقارات، وما حكومات معظم البلدان الفقيرة سوى وكيلة أو مُمثلة محلية لمصالح الدّول الرأسمالية الإمبريالية وشركاتها، وتواطأت لحرمان الفلاحين من الموارد ومن الأراضي، من خلال السماح لها بالإستيلاء على أراضي شاسعة لتعزيز السيطرة على الزراعة وإنتاج الأغذية.
لم تشجع الشركاتُ الزراعيةُ والحكوماتُ الزراعةَ العضويةَ والبدائلَ، مثل برامج الزراعة الإيكولوجية وإعادة توزيع الأراضي وإعادة النّظر في النظم الغذائية والمحافظة على التربة وعلى سلامة البيئة، من خلال تشجيع وتحفيز طرق الزراعة المُستديمة،
تخدم سياسة وبرامج معظم الحكومات مصالح الشركات العابرة للقارات، ما أدّى إلى طرد صغار المزارعين من أراضيهم، ما يحرم الأجيال القادمة من المعارف التي اكتسبوها والخبرة بالبذور اللازمة للحفاظ على الموارد والتربة، وتم تجريم هؤلاء الفلاحين من قِبَلِ الشركات متعددة الجنسيات، لأنهم يحافظون على البُذُور التقليدية، واستحوذت هذه الشركات – بتواطؤ من الحكومات - على ملايين الهكتارات من الغابات والمراعي والأراضي الزراعية الخصبة وقضت على البُذُور والنباتات التقليدية لإفساح المجال لزراعة عدد قليل من أنواع المحاصيل المعتمدة على المواد الكيميائية، وَفَرْضِ نظام الغذاء العالمي الحالي المسؤول عن أكثر من ثلث انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية...
بخصوص الشعوب العربية، يمنعنا الإنقسام الحالي والتفتيت من تشكيل كيان كبير وثري قادر على تأمين العيش الكريم لأربعمائة مليون من مواطني الوطن العربي، ولكنه لا يمنعنا من التفكير في الوحدة، وحدة الشُّعُوب (بدَل وِحْدَة الأنظمة) مع العمل على تغيير الوضع في كل إقليم أو بلد، ولا ننتظر تحقيق الوحدة للتفكير كجزء من كيان يمتد من المحيط إلى الخليج، وما الفلاحة والغذاء سوى نموذج لما يمكن إنجازه لو كانت السّلطة بيد الشُّعُوب...

خاتمة
نشأت العديد من منظمات صغار المزارعين منذ حوالي أربعة عُقُود في أمريكا الجنوبية وآسيا وإفريقيا، وحتى في بعض الدّول الرأسمالية المتطورة، كما نشأت في المغرب وتونس ومصر بعض الحركات التي تُعبر عن طموحات صغار الفلاحين، وتهدف هذه منظمات صغار الفلاحين والفلاحين المحرومين من الأرض الدّفاع عن مصالح صغار المزارعين ومُرَبِّي المواشي، وطالبت هذه المنظمات بتوزيع الأرض على الفلاحين والعاملين بقطاع الفلاحة والتعامل بفعالية مع أزمة المناخ، بالعمل على تقليل الانبعاثات، والحد من استخدام الأسمدة النيتروجينية والمدخلات الكيميائية الأخرى وتعميم الإنتاج الزراعي البيئي من خلال تشجيع أسواق الغذاء المحلية، في إطار الإجراءات التي تضمن وصول صغار المزارعين إلى الأرض والمياه، وتشجيع أنظمة بذور الفلاحين التي تركز على تطوير أصناف تتكيف مع السياقات المحلية، وهذا يتطلب القضاء على الإفراط في الإنتاج والإفراط في استهلاك الأطعمة عالية الانبعاث، مثل اللحوم ومنتجات الألبان وكذلك الأطعمة غير الضرورية وغير الصحية فائقة المعالجة كالمُعلّبات التي تُضاف لها العديد من المواد الضارة بالصحة والتي تروج لها الشركات الغذائية الكبرى باستمرار.
إن أي تغيير يتطلب قرارًا سياسيا، لأن السلطات السياسية ( أنظمة الحكم والحكومات) مسؤولة عن المناطق التي تقع تحت سلطتها وعن حياة المواطنين، ويجب على هذه السلطات إيجاد حلول، بمشاركة المواطنين وذوي الخبرات العلمية والعَمَلِية (الفلاحون ومربو الماشية وصيادو الأسماك...)، لتكون الحُلُول جماعية، وتتكيف مع حالة البلد ومواطنيها، ليس فقط لضمان الأمن الغذائي ولكن لتحقيق السيادة الغذائية.
يُعرَّف مصطلح "الأمن الغذائي" بأنه الوصول المادي والاجتماعي والاقتصادي لجميع الناس في جميع الأوقات إلى طعام قادر على تلبية احتياجاتهم الغذائية من أجل حياة صحية ونشطة، وانعدام الأمن الغذائي هو عدم (أو نقص) الحصول على الغذاء لأنه غير متوفر أو مكلف للغاية، في حين تتمثل السيادة الغذائية في إنتاج الغذاء الضروري والمغذي والصحي والمتاح لجميع السكان، دون اللجوء إلى التوريد أو المساعدة من الخارج، ولضمان السيادة الغذائية، من الأفضل تشجيع صغار المنتجين الزراعيين الذين يوفرون الغذاء للسكان، بدلاً من توزيع الأموال العامة على الشركات الطفيلية، في شكل إعفاء من المساهمات الاجتماعية أو تخفيض الضرائب، مثل السياحة التي تبتلع الإعانات الحكومية و تقوم بتصدير الأرباح إلى الملاذات الضريبية مع تدمير البيئة المحلية...



#الطاهر_المعز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- متابعات، نشرة أسبوعية – العدد الواحد والثلاثون، بتاريخ الخام ...
- فرنسا: التكنولوجيا في خدمة الإيديولوجيا- أية ديمقراطية؟
- بريكس- ملاحظات بشأن مشروع العُملة الموحّدة
- النيجر - أرض غنية وشعب فقير
- احتكار الأراضي الفلاحية والغذاء
- متابعات، نشرة أسبوعية – العدد الثلاثون، بتاريخ التاسع والعشر ...
- العُنْف المُمَأْسَس في فرنسا
- متابعات، نشرة أسبوعية – العدد التّاسع والعشرون، بتاريخ الثان ...
- من المسؤول عن ارتفاع حجم الدّيون ونسبة التضخم؟ - محاولة تبسي ...
- الإتحاد الأوروبي والمغرب
- متابعات، نشرة أسبوعية – العدد الثامن والعشرون، بتاريخ الخامس ...
- تونس- ضرورة الفَرْز بين العَدُو والصّديق
- فرنسا – القضاء في خدمة برنامج الحكومة
- متابعات، نشرة أسبوعية – العدد السّابع والعشرون، بتاريخ الثام ...
- فرنسا- تشريح بعض مظاهر الدّولة الإستبدادية
- تناقض رأس المال الإحتكاري مع واقع الشعوب - نموذج فرنسا
- متابعات، نشرة أسبوعية – العدد السّادس والعشرون، بتاريخ الأول ...
- الإستعمار -الأخضر- - الجزء الثاني
- الإستعمار -الأخضر- - الجزء الأول
- متابعات، نشرة أسبوعية – العدد الخامس والعشرون، بتاريخ الرابع ...


المزيد.....




- تبدو مثل القطن ولكن تقفز عند لمسها.. ما هذه الكائنات التي أد ...
- -مقيد بالسرية-: هذا الحبر لا يُمحى بأكبر انتخابات في العالم ...
- ظل عالقًا لـ4 أيام.. شاهد لحظة إنقاذ حصان حاصرته مياه الفيضا ...
- رئيس الإمارات وعبدالله بن زايد يبحثان مع وزير خارجية تركيا ت ...
- في خطوة متوقعة.. بوتين يعيد تعيين ميشوستين رئيسًا للوزراء في ...
- طلاب روس يطورون سمادا عضويا يقلل من انبعاث الغازات الدفيئة
- مستشار سابق في البنتاغون: -الناتو- أضعف من أي وقت مضى
- أمريكية تقتل زوجها وأختها قبل أن يصفّيها شقيقها في تبادل لإط ...
- ما مصير شراكة السنغال مع فرنسا؟
- لوموند: هل الهجوم على معبر رفح لعبة دبلوماسية ثلاثية؟


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الطاهر المعز - التحدّيات والمخاطر المُحدقة بالفلاحة وبالموارد الطبيعية