أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال سبتي - بريد عاجل للموتى














المزيد.....

بريد عاجل للموتى


كمال سبتي

الحوار المتمدن-العدد: 1726 - 2006 / 11 / 6 - 10:51
المحور: الادب والفن
    


بريدٌ عاجِلٌ لي، وآخَرُ للموتى.

هذا تعريفٌ بي، كلماتٌ أنسبُها لنفسي، بعدَ الهربِ من البلاد. وهي لي،

عرفتُها قبلَكَ ، قبلَ أنْ أحملَ مخطوطتَكَ معي.


لم أشأْ مخاطبتَكَ قبلاً، وما أنا بمخاطبكَ الآن.


اسمعْ : أنتَ لستَ بطلاً أو شهيداً.. ربما كنتهما معاً، لكنكَ لستهما.


مثلكَ مثلُ منْ أبقيتُهم ندامى الشارعِ المسوَّرِ والحديقةِ الخربة. وإنْ سألتَ : لماذا ؟ فلأنّكَ كنتَ تأخذُ على الشعراءِ خديعة البطولات، ولأنّكَ كنتَ تقولُ: الشاعرُ مؤنثٌ كالوردة.


فدعْ ما للشعراءِ للشعراءِ، ولا تتدخّلْ في تاريخِهم. لكَ تاريخُكَ الروحيُّ الذي يجمعُ ما يبدو نقائض. اِبقَ فيه، لا تغادرْهُ . لا تغادرْ تلكَ القبيلةَ من الفلاسفةِ والمتصوّفةِ والشعراءِ المصلوبينَ والقادةِ المسمومينَ والمساقينَ إلى الحربِ، الذينَ لا تصلُ أخبارُهم تماماً كالبلادِ في المنفى.


هندسةٌ قابلة للمحو سريعاً في جلسات الشعراء، وقابلة لفضّ النزاع مع الروح في برهةِ ماقبلَ النوم.


ودعْ ما لديك لكَ وحدَك. وحاورْ ما كنتَ تسميه "رحمةَ الغياب " حين تسعى إليك الكتبُ الصفراءُ بمجانينَ شتّى. وأنتَ لستَ بطلاً أو شهيداً. ربما كنتهما معاً، لكنك لستهما. وإنْ سألتَ : لماذا ؟ فلأنَّ الآخرَ لا يبدو لكَ الآن مرآة . الآخر الذي لا يعرفُ "رحمةَ الغياب"، لكنه يعرفُ الغيابَ في الحشدِ، حيث القطيعُ المسمّى "هم" يَجرّهُ، عادةً، في الصباح من سريره إلى النافذة، ليلقنه أوامرَ: تلك السماءُ زرقاءُ،وتلك الأشجارُ خضراءُ. هؤلاء "هم" الذين علّموا قاتلكَ فنونَ القتلِ، حتى غدوا هـواةً، فطردهم من نعمته..


وحذارِ..لا تعرّفْ أحداً. وأمّا قاتلكَ، فاجعلْهُ غامضاً، في كلّ مرةٍ تحنُّ فيها إلى موتك. وتذكّرْ أنّ القدرةَ على نسيان الموتى حظٌّ وهبه لنا القتلة في غفلة اللذاذة،حين يتجوّل "القائد" بهياً في لباس الوردِ، أو حين يتبادلُ مدّاحوهُ الأنخابَ، فخورينَ بالدمِ الذي سالَ، بالعقائدِ التي طُرِدتْ، والعقائد التي انتصَرتْ.


وتذكّرْ : أنّ الكلامَ لكَ كلّه، فلا تكنْ بخيلاً. وإذ يهجرُكَ المعنى الآن، تماماً كما في تلك السنواتِ التي تجهدُ في تذكّرها.. فقلْ : كان المعنى قاسياً، حيث تُجَرَّدُ اللغة من كلّ مدلولٍ، وحيث تُؤْمَرُ لانتزاع المعنى من الماضي. وماكان ثمّةَ ماضٍ. كان الحشدُ يردّدُ ما قيلَ إنّه المعنى، طوالَ اليوم، حتى أنشىءَ قاموسٌ آخَرُ يعرّفُ كلَّ شيءٍ بالغموضِ، وإن اقترَبَ من التعريفِ فبضدِّه.


كان المعنى قاسياً، وكانت اللغةً خائنة لأسرارها، حتى انتُزِعَ الموتُ من دمه القاسي، فأضحى بلا ذاكرةٍ، يَصعُبُ استرجاعُهُ. وحتى أضحى مشهدُ الموتى - قبلَ أنْ يموتوا - مكدّسينَ في العرباتِ : أهزوجةً يبرّرُها قَدَرُ القطيعِ المساقِ إلى جنته.


وكان شعراءُ "القائد" فرحينَ بتحويلِ الموتِ إلى عادةٍ، كتناولِ شايِ الفطور، وكنـتَ تصبو إلى عزلةٍ، لا تؤذي أحداً، ولكنها مسيرةُ عمرٍ لتوسّلِ الندم. كنتَ وحيداً . لكنكَ ما استطـعتَ في توخّيكَ العزلةَ إلاّ أنْ تكونَ في القلبِ من جنونِ المحو.


كان الموتى يجرّونكَ في كلِّ وقتٍ من عزلتكَ، ليطمئنوا من أنّكَ لمّا تزلْ شاهداً..


وكان الندمُ قاسياً، وكانَ الندمُ رحيماً..


تندمُ، لعودتكَ إلى بلادكَ، وكنت غادرتَها قبلَ أنْ تبدأ حربُ "القائد" عام 1980 مفجوعاً بضياعِ صحبتكَ في السجون، وفي المنافي. ثمّ تكذبُ على نفسكَ : ترتكبُ فعلاً مضاداً اسمه الندم، لترضى بعدَ برهةٍ بما أنتَ فيهِ. فأنتَ حيّ !


وماكنتَ تستطيعُ الصبرَ. كان غيرُكَ ذا قدرةٍ على الصبرِ، عجيبة. ولكنّك كنتَ تخشى عليكَ من كلامِكَ الذي يضمرُ لك العداءَ كلَّ حين.


وكنتَ سعيداً بالندم، سعيداً بتعريفِ "جهنّمَ" في مساءٍ مقبور. وإذا ما اِنتبهَ أحدٌ لـ"جهنّمَ"، تبدلها سريعاً إلى "سقَرَ"، لتحمي نفسكَ من الوضوح!


وكنتَ غريباً في بلادٍ تسمّى بلادَكَ . حتى ظننتَ ذاتَ مرّة: أنّكَ لا تتكلّمُ لغتها.أخذَتْ منكَ كلَّ شيءٍ، واستكثَرتْ عليكَ النومَ في فنادق"الميدان"الرخيصة. ولعنَتْكَ مجنوناً، آثِماً، متَّهماً. وكنتَ ترضى بها بلاداً رضاءَكَ بالذي لابدَّ منه. كنتَ تصرُخُ "لستُ منكِ، لستُ منكِ"، كنتَ تصرخُ أمامَ جنائز الأصدقاء، ولحظةَ تسقطُ وحيداً في شارعٍ مظلم.


وهي بلادُكَ، شئتَ هذا أم أبيتَ، وأنتَ ابنها شئتَ هذا أم أبيت.وستظلّ تستحضرُها اليومَ كلّه، وستظلّ ترديكَ قتيلاً بكوابيسها، كلّ ليلة.


الأصدقاءُ الذينَ قُتِلوا في حروبِ "القائد"،الأصدقاء الذينَ أُعدِموا، الذينَ تشوّهوا، الذينَ يستنسخونَ " آخرُ المدن المقدّسة " الآنَ، وينتظرونَ ما لا تستطيعُهُ : هم بلادُك..


فليكنْ لهمْ هذا النشيد..


فبهمْ يبدأ هذا النشيدُ الدامي، ولأجلِهم.. لن ينتهي.



#كمال_سبتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وسوى الرومِ خلفَ ظهرِكَ رومٌ : نشيد انتصار
- الشاعر واصدقاؤه
- أنعتبُ على أدوارد سعيد وهو غائب عنا ..؟
- الأَقْبِيَة
- حين يبيع الغشيم شعرنا رخيصاً
- الخطوةُ الأولى في الحداثة الشعرية العراقيّة
- الصّوتُ الشّعريّ
- الخوف على الشعر
- التاسع من نيسان واللاءات الأربع
- آخِرُ المدنِ المقدَّسة..براثا: لم اغتسل في السوق القديمة
- كمال سبتي: هربنا من دكتاتور قاس لكن الحرب والاحتلال أفسدا أم ...
- دموعٌ من أجلِ أطوار وبنفسجِها الغاوي
- عارُنا في أبي غريب
- الخوفُ على الشّعر
- قبيلةُ النّمّامين
- وسوى الرّومِ خلفَ ظهرِكَ رومٌ/ نشيدُ انتصار
- أيّامي..وقصيدة عن الجمال
- المقاومة وتروتسكي وقطار برت لانكستر
- قصيدتان
- عن أحمد الباقري وتعاليمه


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال سبتي - بريد عاجل للموتى